حول الاشتراكية العلمية

نشأة الفكر الاشتراكي العلمي

تنص الفقرة 2 من مقدمة النظام الداخلي (بعنوان: «1– التعريف والأهداف»)، الصادر عن أعمال المؤتمر الوطني العام السابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين “2018”، على ما يلي: “تسترشد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالاشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الاجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره”. وفيما يلي مساهمة تضيء على بعض جوانب الموضوع المطروح:
أولاً- نشأ الفكر الاشتراكي العلمي في المرحلة المعاصرة، وازدهرت طروحاته مع مطلع القرن التاسع عشر، في مواجهة المظالم الاجتماعية الذي تسبب بها نمط الإنتاج الرأسمالي، “المنطلق بكل زخمه في ذلك الحين”، بفعل آليات الاستغلال والقهر والتغريب التي فُرِضَت على الطبقة العاملة الحديثة، التي تكوّنت بالتلازم مع نمط الإنتاج الرأسمالي. لكن هذا الفكر نزع ـــ باتجاهه العام ـــ إلى المثالية والطوباوية والوعظية الأخلاقية.
ثانياً- الإنجاز التاريخي لماركس وإنجلز تمثل بدءاً من أربعينيات القرن التاسع عشر، بنقل الفكر الاشتراكي من مستواه الطوباوي إلى مستواه العلمي، فبتنا أمام ما يسمى بـ “الاشتراكية العلمية”، التي استندت إلى اكتشافات بالغة الأهمية على مستويي الفكر السياسي الإنساني بشكل عام، وعلى الطرح الاشتراكي بخاصة، ومن بين أهمها ثلاثة:
1– إدخال الفهم المادي الجدلي على قراءة التاريخ، ما ارتقى به إلى مستوى العلم. وما يعنينا في السياق ليس علم التاريخ الملموس الذي يؤسسه هذا النهج، بل النمط العام للتفكير النظري، فهم العالم “بمعنى الاجتماع” الذي يدشنه هذا المنهج، بواسطة ما يسمى بـ “المادية التاريخية” التي تقوم على المبادئ المؤسِسة التالية:
أ) الوجود “الواقع” الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي.
ب) التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يشكل محرك التاريخ.
ج) وجهة التاريخ تصاعدية، تطورية، من التشكيلات الاقتصادية ـــ الاجتماعية الأدنى، إلى التشكيلات الأعلى.
د) الحقيقة دائما ملموسة ولا توجد حقيقة مجردة.
ومن بين الأمور التي ترتبت على هذا ما يلي: نمط “أسلوب” الإنتاج المادي هو القاعدة الحقيقية للتاريخ. محرك التاريخ يقوم على تطور قوى وعلاقات الإنتاج. الوعي في حقيقته هو تعبير عن علاقة اجتماعية مادية. التمييز بين الوجود الاجتماعي والوعي ليس تمييزاً بين حقيقتين، بل بين الحقيقة الملموسة والجانب المجرد من الحقيقة ذاتها. وعليه تضحى المادية التاريخية هي التعبير الأعم للعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي..
2- كشف لغز نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، القائم على قانون القيمة، الذي من خلاله تتحدد قيمة السلعة “أية سلعة” بعدد الساعات الضرورية اجتماعيا “أي بمستوى معيّن من تطور قوى وعلاقات الإنتاج” لإنتاجها.
وبما أن قوة العمل سلعة يتم تبادلها في سوق العمل، فإن قيمتها تتحدد بعدد الساعات الضرورية اجتماعيا لإنتاجها وإعادة إنتاجها؛ وإلى جانب ما يساويها بالسلع الأخرى، فإن ميزتها تتحدد بكونها مولدة لـ “فائض قيمة”، يستحوذ عليه صاحب رأس المال، فيستهلك قسما منه “أي العائد”، ويحول القسم الآخر إلى رأس مال يضاف إلى الأصل، في سياق ما يسمى بـ “مراكمة رأس المال”.
لقد كشف قانون القيمة جوهر استغلال رأس المال لقوة العمل “أي استغلال الرأسمالي للعامل”، وآلية هذا الاستغلال التي تصب في الدائرة الحلزونية الصاعدة لتوسيع رأس المال.
3- كشف جوهر الأزمة البنيوية للرأسمالية، بما هي أزمة فيض تراكم رأس المال، الناجم عن التناقض بين متطلبات تعجيل التراكم بزيادة إنتاجية العمل من جهة، وبين التدهور في معدلات الربح الذي تقود إليه هذه الزيادة من جهة أخرى؛ والأزمة في هذا السياق المحدد ليست سوى محطة اضطرارية، مؤقتة، لحل هذا التناقض، بما تنطوي عليه هذه المحطة من تدمير جزئي لرأس المال الاجتماعي (تكون الأسواق المالية أحد أهم ميادينها) وتخفيض شامل لقيمته.

مسار الفكر الاشتراكي العلمي

■ على خلفية نضالات الطبقة العاملة، وتشكل حركتها وانتظام صفوفها، وارتقاء وعيها لذاتها، سمحت الاكتشافات النظرية، التي أشرنا إلى بعض أهم عناوينها، بتأسيس «الاشتراكية العلمية» وبارتياد آفاقها النضالية الرحبة على يد الطبقة العاملة، المنظمة بأحزابها ونقاباتها. وعلى هذه الخلفية التراكمية يندرج الإنجاز التاريخي بقيادة لينين، الذي أسس أول نظام سياسي رفع راية الاشتراكية العلمية في تاريخ البشرية.
■ لا تفوتنا، في السياق، الإشارة إلى الإنجازات بالغة الأهمية التي حققها لينين في الحقل النظري، ومن بين أهمها: قانون التطور المتفاوت الذي يحكم الرأسمالية في مرحلته الاحتكارية (الإمبريالية)، والذي يطرح إمكانية انتصار الثورة الاجتماعية بقيادة الطبقة العاملة في بلد رأسمالي متخلف، ما سمح ببلورة استراتيجية الثورة الروسية للإطاحة بالنظام القيصري، التي قامت على تحالف بين العمال والفلاحين الخ.. ومن بينها أيضاً: الربط بين الثورة الاشتراكية والنضال الوطني التحرري في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة.. هذا دون أن ننسى اجتراح لينين لنظرية الحزب الطليعي وعلاقته مع الطبقة العاملة، والحركة النقابية..
■ الجدير بالذكر أن هذه القامات التاريخية (ماركس، إنجلز، لينين) وغيرها من الأسماء اللامعة، التي يضيق المجال عن ذكرها (بليخانوف، كاوتسكي، هيلفردينغ، ليبكنشت، روزا لوكسمبورغ…)، التي جمعت بين عبقرية الفكر وإبداعه وفعالية الدور القيادي في الميدان.. هذه القامات العالية لم تنسب هذا الفكر إلى نفسها، ولم تسمه باسمها أو اسم غيرها، بل أجملته بعنوان عريض هو: الاشتراكية العلمية.
■ كما يجدر التذكير أن الاشتراكية العلمية ـــ على مستويي النظرية والتطبيق ـــ واصلت، وما زالت تواصل، تطورها على يد قادة ومفكرين كبار بعد رحيل “الآباء المؤسسين” الآنف ذكرهم، ومنهم: ماوتسي تونغ، ديمتروف، غرامشي، لوكاش، ألتوسير، بولانتزاس، لوسيان سيف، سمير أمين، وغيرهم… ومن الخطأ نسب الاشتراكية العلمية إلى أي منهم، أو إلى عدد منهم، وإن جاز الكلام عن أفكار واجتهادات “وطروحات، وفرضيات عمل..” تقدموا بها، لم يتشكل دائماً، وليس بالضرورة أصلاً، أن يتشكل، إجماع حولها.
منهج لتحليل الواقع الاجتماعي ودليل للعمل من أجل تغييره
■ لم يحل مصطلح الماركسية ـــ اللينينية مكان الاشتراكية العلمية في الأدبيات السياسية إلا بعد وفاة لينين، ليس لاعتبارات متعلقة بصون نقاء «النظرية» أمام احتمالات التحريف والاجتزاء، بل من أجل توفير مظلة، تسمح بنسب التوجهات والسياسات المتعلقة ببناء الاشتراكية في الظرف العصيب، الذي كان يجتازه الإتحاد السوفياتي، إلى هذه «النظرية» أو اشتقاقاتها المباشرة، الأمر الذي فتح المجال أمام «التوظيف السياسي» للنظرية، بكل ما ترتب عليه من سلبيات، لسنا بوارد الخوض بها في هذه العجالة.
من كل ما سبق نخلص إلى التالي: إن الاشتراكية العلمية هي النظرية التي تعبر عن فكر الطبقة العاملة ورؤيتها الثورية للواقع الاجتماعي، في إطار مسيرة تطوره التاريخي وآفاق هذه المسيرة. وهي نظرية تتميّز بأنها علمية وثورية في آن؛ إنها علمية، بمعنى أنها ليست عقيدة جامدة أو وصفة ثابتة، بل هي منهج يلخص قوانين التطور الاجتماعي ويطبقها بإبداع لتحليل الواقع كما هو، في الحقيقة، بعيداً عن التزييف والتشويه الأيديولوجي الذي تمارسه الطبقات المسيطرة من أجل تكريس هيمنتها الفكرية على الكادحين وتضليلهم. وهي ثورية، بمعنى أنها لا تكتفي بوصف الواقع وتحليله، بل تشكل دليلاً للعمل من أجل تغييره تغييراً ثورياً لمصلحة العمال وعموم الكادحين بسواعدهم وأدمغتهم.

 بقلم: فهد سليمان

نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

Related posts

Top