“حين يمتطي السرد صهوة الغواية” في الأضمومة القصصية “البغل الذي ابتلع القمر” للكاتب المغربي عبد الرحمان الوادي1

خلف أجمة حروفه حكايا وعبر، وخلل غلالات كلماته معاني وفكر، يقول فيطرب، ويبدع فيعجب، تلج رياض قصه فتفتنك روعته وتطأ لجة سرده فتأخذ بتلابيبك  فرادته، يغشاك في حكيه حر الهجير ويلفح وصلك رفض مرير، وبين دفق الدلالة ووهج المقالة  يعدو على صهوة خياله  الجموح  مثيرا نقع البهاء، يمج الكائن ويغازل الممكن ويسائل المحال، ليظفر بقصب السبق في  مراتع  الإبداع  الفسيحة الندية القسمات.

 مثلما تشيد  الطيور وكناتها حذرة جذلى على هامات الشجر، هكذا يرقش الأديب  عبد الرحمان الوادي ممالكه  السردية مزهوا بتؤدة على  تلة  ناتئة  لا يبلغها إلا كل ذي حصافة، يملك  هبة فهم  التلميح والإشارة، إذ يأخذ بعنان متلقيه ليسلك به في تثبت الواثق سبيل النفاذ من غواية الظاهر الجلي إلى مكنون المضمر الخفي.

تلقاك الأضمومة القصصية “البغل الذي ابتلع القمر”2 مشرعة  لك ذراعيها  في حدب مثير، تغريك بانتهاك حرمتها  وهي تغازلك  بسحر العتبات لتوقعك في شرك الغواية، بيد أنك وأنت تهم بضمها وربما لثمها، لا تلبث أن تتحسس نتوءات تخزك ورمالا متحركة قد تهوي بك، وكمائن قد تسلمك إلى أرض ملغومة التأويل لن تنجو منها على الإطلاق ما لم تتزي بسترة القراءة الواقية العميقة المنجية.

 في كتب الأدب العربي الأكثر عراقة، ظل البغل يظهر ويختفي بين ثنيات التراث وذرى منعرجاته، وإذا كان حسان بن ثابت قد أقر قدما  في بيته الشهير واسما هذا المركوب بعظم الخلقة  وضمور العقل حين أنشد:

“لا بأس بالقوم من طول ومن عظم  

جسم البغال وأجسام العصافير”

فلم تعتم هند بنت المهلب حين تزوجها الحجاج بن يوسف الثقفي كرها أن قالت به مستهزئة:

“وما هـند إلّا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغـل

فإن ولدت فحلا فلله درها وإن ولدت بغلا فجاء به البغل”

وقد سعى  أبو العلاء المعري في كتابه “الصاهل والجاحش” والجاحظ في كتابه “القول في البغال” أن ينصفاه حين عددا مناقبه ومثالبه ولم يغضا الطرف عن إيراد ما حيك حوله من نوادر. بيد أننا سرعان ما سنفاجأ بالبغل وقد جرى الشعر على لسانه رقراقا في رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، حتى حكم له زهير بن نمير بالإجادة والتفوق. وحري ألا نسلو عن بغل الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر حين جعل منه واعظا في قصيدته الشماء “وصايا البغل الشاعر””

وفيها يقول:

“قال بغلٌ مستنير واعظاً بغلاً فتيا

يا فتى

إصغِ إليّا إنما كان أبوك امرأ سوءٍ

وكذا أمك قد كانت بغيّا أنت بغلٌ

يا فتى..

و البغل بغل

فأحذر الظن بأن الله سواك نبيّا

يا فتى..”

 أنت غبي حكمة الله، لأمرٍ ما، أرادتك غبيّا فاقبل النصح تكن بالنصح مرضياً رضيّا أنت إن لم تستفد منه فلن تخسر شيّا..

 يا فتى..

من أجل أن تحمل أثقال الورى صَيَّرَك الله قويّا

يا فتى..

فاحمل لهم أثقالهم مادمت حيّا

واستعذ من عقدة النقص فلا تركل ضعيفاً..

 حين تلقاه ذكيّا

ولاريب أن هذه الأبيات المواربة تضع البغل في منزلة واحدة  بينه وبين من يضارعه صفات وأفعالا.

 وأسلم السرد عينه القياد لهذه الدابة حين بدا اسمها وضاء في روايات وارفة مثل  “عرس بغل” للكاتب الجزائري  الطاهر وطارو”البغل العاشق”للكاتب التركي  عزيز نيسين و “حكاية الرجل الذي رفسه البغل”للكاتب السوري وليد معماري.

 منذ البدء تتملكنا رغبة جموح في إدراك كنه نعت هذه المجموعة القصصية بعنوان مخاتل هو”البغل الذي ابتلع القمر”وإذ يلفي فيه بعضنا ما يبعث فيه شهوة الاستبطان من أجل استجلاء سمات المحتوى، قد يلحظ آخر ونفي استعلاء ما ينأى بهم عن الدنو من البغال وحكاياتها.

     في ممالك السرد وأراضي الحكي غير البوار يحتل العنوان مكانا عليا بوصفه فاتحة للقول وعبارة تصديرية استهلالية مُؤشِّرة، ويكاد أن يعد أشد الدلالات تركيزا، لأنه ذو حمولة تعريفية موجزة لدلالات النص المسهبة، ولا جرم أن عنوانا كهذا  كان كافيا كي يعضد غاية الكاتب حين أقدم على جعله مؤشرا لفظيا على محتوى نصه، ومنه تفتح أولى العتبات النصية أمام المتلقي إذ يكون أول ما تبصره عيناه على غلاف المنجز النصي، ومن ثم  قد يبدد دهشة السؤال وقد يعمق فجيعة الإبهام والإيهام، إن عنوانا يقوم على مفارقة تباين الموضوع بين المسند والمسند إليه لا بد أن يرج الأفهام ،حين نشهد علاقة غير ذات رباط بين دابة مرصود مصيرها للجر وحمل الأثقال، جل ما تتسم به العناد وضآلة الفهم ،مع القمر كجسم متلألئ ينثر الضياء حيث هل ،مفارقة بين جسم مستقر في السما ء وآخر مشدود إلى الأرض بأمراس ، ومع كل هذا البون المترامي تحكم السفلي في العلوي فغيبه ، وهنا تماما تتناسل الأسئلة وتترى تباعا.

لعل المتصفح لهذه المجموعة القصصية لابد أن يدرك أن البغل الذي تربع بجلال عند مدخل هذا السفرغير مانح جواز المروق إليها إلا لمن أذعن قسرا لمعاينته، لم يكن إلا غيظا من فيض،فما إن تجس بحدقتيك مرتفعات  الحكي ومنحدراته  حتى تذهلك فظاعة  التشابيه التي تضارع الشخصيات إلى مخلوقات من جنس الدواب أو الهوام ففي “قصة همس الظلال” ،يصف البطل الذي يريد أن يوقع الحبيبة في شركه قائلا ص :17: “وقال لها العبارة نفسها التي ترددها الضواري على مسامع الطرائد”.ثم أردف  ص:20″ قاطعها وأومأ لها برأسه ،كما تفعل دابة الأرض وسط جحافل البعوض” وفي حكاية  ” الذبيحة السردية” يقول ص:61 ناعتا باشمئزاز إحدى شخصياته:”عجوز بالكاد يتطاير شرر غضبها من عينيها الخامدتين مثل عيني سردينة متعفنة ،” وفي قصة ذي الرأسين ينعت البطل موضحا ص :105″ ثم قفز كقرد الشامبانزي إلى خارج المنزل قفزة واحدة “،وكي يصف الجور ووقع التجني في قصة الصرخة الثالثة قالص:84: “لقد هجمت علينا الوحوش الضارية وأخذت ترفس الأجسام وتضرب أمهات الرؤوس كما يضرب على طبله طبال”. ولم تخل  قصة الغبدارمن هذا الصنيع حين صرح الكاتب:ص:21 :”يتابع المشهد من بعيد بعيني صقر غائرتين”.

 وإلى جانب ذلك تطالعنا أوصاف الأبطال والشخصيات وهي تنوء تحت إعاقاتها أو بشاعة خلقتها ، والإعاقة نقص والنقص ضعف والضعف مهانة ،والبشاعة قبح والقبح شناعة تبيح التهكم وتتيح منافذ التفكه وخلجان السخرية ،يقول في قصة مملكة الزيزفون ص:13″الشخص الذي كان يقف رغم أنفه الأفطس مترقبا دوره قبلي في الطابور الذليل”، ثم يردف :ص 14 ” مد الأحدب بينهم مقمعه في اتجاهي، ليجرني”، وبائع السجائر فيقصة كازازازا “كان كلامه يعاني من حبسة قديمة قدمه ص74 ، وحتى الحجام  الذي وقف أمامه الصبي في  قصة الحذاء الضاحك ص:  48 “

كان  أعور ذميم “. وإذا تضافر الشكل الشنيع والخلق الحيواني الذريع فتلك لامحالة وقعة مدوية.

 إنها مخلوقات منهكة يلفها دوار الفاقة ويصفعها ريح الذل غير الرخاء، تحمل مصائرها الفاجعة على أكتاف حظها المتجهم وتمضي وكأنها تتردى إلى الهاوية، تركب سفين الكدح فتهب عاصفة الجور لتغرقها وتسلبها فتيل الكرامة ، وفي بحر المعاناة غائر القرار تستقر صرعى  المهانة مدثرة في همها وفاقتها والعوز.

       تبدو الخيبة كملمح جلي داخل هذه المجموعة أهم ثيمة تسمها، حين تغشاها  مسحة من الانكساروالإخفاق  فكل الأبطال ذوو نهايات موجعة، بعضهم نفق، ووالآخرخاب مسعاه، ومنهم من جن، وفيهم اللقيط والعنين والعاجز ،وكلهم منحدرون قطعا من أوساط كادحة يلفهم العذاب وسوء الخاتمة.

 لكن لماذا لم يسم الكاتب مجموعته باسم إحدى الحيوانات التي ثوت داخل  نصوصه ،وسيد البغل عليها؟

 في تضاعيف الحكي ومنحنياته ورد البغل في مواطن شتى، ففي قصة الغبدار ص:22 تحدث عنه كحمال للأثقال سلس الاقتياد حين قال: “غير أن ما شد انتباهه أكثر مرور عربة خشبية متهالكة بمقربة منه ينوء أمامها بغل عبوس ،سلم رأسه إلى عجوز شمطاء تقتاده إلى حيث تشاء. “وفي الذبيحة السردية قالعلى لسان البطل ص: 64 ” هذا سبب إضرابي عن فكرة الزواج ،لا أريد أن أخلف نسلا بغلا”، وطبعا كان بطل قصة”البغل الذي ابتلع القمر”، والتي تحكي لنا قصة بغل عاثر الحظ كل كاهله من حمل الأثقال والصعود  بها رأسا إلى الأعالي تفتك به وخزات سائسه البغيض، وحينما بلغ به سيل المعاناة  حافة الزبى وكادت حياته أن تنفرط منه جراء الظمإ أطلق لساقيه الريح غير مبال بتهاوي ما كان يحمله وسقوطه أدراج الرياح، وانتصب بحبور كي يروي غلته من مياه البحيرة الصافية كعين الديك حيث انعكست صورة  القمر بمحياه الفاتن وضاءة على صفحتها البهية، وإذ هم بالإرتشاف غير هياب لشئ إذا بالسائس وقد أتى في أعقابه يسعى للحيلولة بينه وبين جنته ،فما كان منه إلا أن ركله بحافريه ركلة طوحت به إلى قرار مكين مضرجا بكدماته وأضلاعه المهروسة، ومن أعاجيب الصدف أن رشفة الماء المباغتة وازاها كسوف فجائي غيب القمر، فأنشبت  الحلكة  براثينها وهام الجمع بين التلال و سامق الأشجار في ديجور مدلهم، وإمعانا في شد انتباه المتلقي لهذه البلوى التي حلت على حين غرة، أنبأنا الكاتب أن الليلة بضيائها القمري كانت معدة للإحتفال بكبير القوم وسيدهم دونما إحضار لشموع أو قناديل يقول: “حفلة هذا العام تحت نور القمر في أعلى القمم”، وكي يجدوا منفذا لما حدث، أخبرهم  السائس الذي رفسه البغل في التفاتة انتقامية في ص 94 قائلا: “إن البغل هو الذي ابتلع القمر صدقوه” وحينما تساءل بعضهم ص95: “هل حقا ابتلع البغل القمر هل سيتم إعدامه دون محاكمة عادلة؟ خلصوا  في النهاية ص:94” …ورغم أنهم كذبوه بادئ الأمر، الفعل قائم لا بد له  إذن من فاعل غافل يحملونه تبعات ما حدث وأحدث”، وخشية حنق الرأي العام بعد أن شاع الخبر وذاع النبأ وكثر المؤيد والمعارض، اهتدى سيدهم إلى حيلة ماكرة حين أذاع  إصداره العفو في حق البغل المارق علنا وأسر لأصفيائه عزمه على تصفيته مستهزئا ص:95 “مادام بغل البغال استطاع ابتلاع القمر بمقدوره أن يهضم بسهولة ودون كلفة أي شيء يقدم له حتى وان كان خيط دخان”. ولا غرو أن هذا المصير المنكوب للبغل ليس إلا رمزا لنهاية شخصيات الكاتب في مجموعته وتصوره لمصير كل ضعيف ليس له من عنه يذب ذلك  البريء الذي يقدم قربانا على مذبح الفداء كي يحمل أخطاء الآخرين ،لذلك فمثلما حمل البغل أثقال الأسياد  على شبيهه من الإنس  أن يحمل أوزارهم وذنوبهم وزلاتهم كي يعرض على  محكمة، القوي  فيها هو الخصم والحكم.

 لقد أبدع الكاتب عبد الرحمان الوادي وهو يمتشق ريشة المفارقات الساخرة ويذرو ملح العنت على جراح الشخصيات، وأفلح كثيرا وهو يضع البغل قناعا ويلبسه في كل مرة لبوسا مختلفة ـ هو الكاتب المسرحي القدير ـ وجعله يتشاطر وشخصيات نصوصه نفس المصير.

 إن البغل  في قصة “البغل الذي ابتلع القمر” كدابة مرصودة للجر وحمل الأثقال لا تختلف كثيرا عن بطل قصة الغبدار العامل  المتهالك في المناجم والذي قال عنه ” نزل إلى هذا الحضيض وصار من فصيلة الدواب ص:24، حتى أنه خار ص:25 “وحاول الوقوف لكن هيهات أراد الحبو ،لم تسعفه أطرافه الخائرة”. وإذا كان البغل في قصة البغل الذي ابتلع القمر يكابد أقسى ألوان التعذيب ـ كما قال الكاتب ـص: 87 حتى “لو استطاع الصراخ بشكواه لجعل السفوح الصماء تشفق على حاله البئيس”، فإن البطل في الصرخة الثالثة ،الطالب الذي ينشد العمل بعد أن حصل على شهادته  ينفث قائلا  دون حول ص:84 “لقد هجمت علينا الوحوش الضارية وأخذت ترفس الأجسام وتضرب أمهات الرؤوس كما يضرب على طبله طبال” ثم إن الكاتب يصف إحدى شخصياته التي تنال كل رتب العذاب لأنها فقط تجرأت على الجأر بالألم  في قصة الزيزفون  قائلا  ص: 13: “الشخص الذي كان يقف رغم انفه الافطس مترقبا دوره قبلي في الطابور الذليل، ها هو الهالك اللحظة ملقى تحت أظلافهم وحوافرهم المستشاطة غضبا بركانيا يعجنونه عجنا، لقد غفلت طاعته العمياء قليلا جراء انتظاره طويلا وافلتت آها واحدة لا غير من قبضتها المنهكة فانهالوا عليه بوابل من الرفس والركل والصفع واللكم واللطم والشتم والبصق إلى ان اصبح حفنة من التراب تذروها الرياح”.

 وإذا كان البغل يتسم بالعناد حين نعت في المثل العربي: “أعند من بغل” و قال عنه ابن رشيق القيرواني هاجيا:

“فأوصيكم بالبغل شراً فإنه من العير في سوء الطباع قريب

وكيف يجيءُ البغلُ يوماً بحاجة تســـــرّ وفيه للحمار نصيب؟”

  فإنه لا يثور من عدم لكنه لا يبقى منصاعا دائما وقد يثور ويحرن فيرفس صاحبه ويزري به إذا أمعن في إذايته مثلما  قام به البغل في قصة البغل الذي ابتلع القمر حين قال الكاتب متحدثا عن السائس ص:91: “انطلق صوبه كالخنزير الهائج ولما استدبره، وهم بأن يصب جام غضبه عليه صده بحافريه الخلفيين بكل ما استجمع من حنق دفين لسنين جعله يطير بلا جناحين إلى الخلف فرسخا وقيل فرسخين ويهوي مثل مزود من هشيم لم يعد يسمع له نبس ولا همس ” وهو ذات ما قام به بطل قصة مملكة الزيزفون الذي ثار في وجه من أراد إذلاله حيث قالص :14 “مد الأحدب بينهم مقمعه في اتجاهي ،ليجرني من قفاي الى وسطهم كما تجر الدواب لكنني تفاديته بخفة ضوء الفجر الهارب ،فنزعته حركته الفاشلة بقوة الى الخلف، وقذفت به ابعد من رجائي ما جعله يهوي على ظهره، ويعوي وهو يدور على حدبته مثل خدروف ممسوخ، فيما ظلت رجلاه القصيرتان المكتنزتان تتأرجحان في الهواء بشكل مثير

للسخرية”. فانتقام هذه الشخصية من الأحدب شبيه بانتقام البغل من سائسه الحمال. وهكذا يتلاشى الفاصل بين المجتمع الإنساني الجائر والكون الحيواني القائم على الغلبة للأقوى.

 لعل تشابه المصائر بين  الشخصيات وبين البغل تبدو جلية عبر هجانتها، فالبغل حيوان هجين هو نتاج تزاوج بين أنثى  فرس وذكر الحمار، ولذلك يقال في التهكم عليه قيل للبغل ابن من أنت؟ قال : الحصان خالي، وجل الشخصيات تعاني عدم نصاعة نسبها، وصفاء محتدها، فبطل قصة  المخشوشب  لقيط غير معروف الأصل يقول الكاتب ص:38: “البطل لقيط  كالبغل وهو في جناح المحكوم عليهم بالإعدام”، ويضيف حيث “عثروا عليه داخل قماطه الملقى بمطرح القمامة  حتى أعتى المخبرين في الدهاليز الخلفية لا يعلم نطفة من يكون، ومن ظلمة أي رحم سقط سهوا”، وحين خضع البطل للاستنطاق في قصة الذبيحة السردية خوطب إمعانا في السخرية منه ص  66 ب ” قبرك أيها

اللقيط سيكون هنا اذا لم تعترف”. وفي قصة  الصرخة الثالثة يقول الكاتب ص 78: “مجهول الأب هذا لا يعدو أن يكون سوى أنف مدسوس بين ثنايا المعتصم..

وفي قصة ذي الرأسين تساءل البطل في النهاية حائرا بين الطبيب والمدير ص:106: “أيهما والدي؟” وحتى التي بها اقترن كان “يعرف أنها مقطوعة من شجرة لا يعرف لها أصل ولا فصل.”ص:102

وكما لاحقت البغل سبة وصفة العقم واندثار النسل حتى قيل :”أعقر من بغلة ” هكذا لقيت الشخصيات مأسوفا عليها ذات المصير، حيث انقطع دابرها ،يقول الكاتب في آخر قصصه :رجل وسبع نساء: “يا إلهي كم هي قاسية ومزعجة أن يطل العقم برأسه الرقطاء من وراء الستارة الفاصلة”، فذو الرأسين ص : 106 “في المرات القليلة التي كان يسرقها بشق النفس بين الفينة والأخرى من وقته من اجل أن يندس تحت لحاف حليلته ويلعب معها لعبة الخلق على طريقة الشرق، كانت تنهره وتطرده خارج ملعبها بسبب تعطل جهازه الدائم”، ولعل هذا  الانحسار القدري لنسله  ـ يقول الكاتب ص: 107 يقول الكاتب ـ”جعل ألسنتهم رطبة  من حمد ربهم وشكره أن قطع دابره إلى يوم الصفر العظيم”. وحتى من وهب  من الشخصيات  أبناء، فإنه مني بانقطاع الدابر مادامت خلفته كلها بنات، مثلما حدث مع بطل قصة همس الظلال

ص20 الذي: “تابع طريق خسارته نحو الميناء حيث سينتظر وصول باخرته الأخيرة التي ستقله إلى الجحيم” وذلك بعد ميلاد ابنته الخامسة  ويأسه من ولي العهد ومن الشخصيات من مج الواقع وسياطه وقرر عدم الزواج نهائيا، مثل  بطل  قصة يوم رقصت الحافلة الذي أوضح: “هذا سبب إضرابي عن فكرة الزواج لا أريد أن أخلف نسلا بغلا”.

 وإذا كانت البغال في رسالة تداعي الإنسان على الحيوان لإخوان الصفا، رغم مجاهرتها بظلم بني آدم أثناء الترافع في محكمة الجن حين قال زعيمها: “لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم، والشكل في أرجلنا واللجم على أفواهنا والحكمات في أحناكنا والآكاف على ظهورنا، وسفهاء الناس من الساسة والرحالين يشتموننا بأقبح ما بقدرون عليه من الشتم ويضربون بالمقارع على وجوهنا وأدبارنا بحنق وغيظ .. كل ذلك راجع إليهم وهم به أولى.”3حكم عليها بوجوب الإذعان والخضوع والانصياع ،فإنها في قصص الكاتب عبد الرحمان الوادي حينما تجهر بالاءات وحينما تنضم إلى ذلك القليل الجليل تثأر لنفسها وتثبت أن الرفض قد يكون سبيلا للتغيير .

دخلنا رياض حكيه فهمنا ، وولجنا حياض سروده فأغرمنا ،وحين هممنا بالتصديق وأخذنا بالتوثيق، أطل علينا الكاتب عبد الرحمان الوادي ناصحا  لينقذنا من شرك الغواية  كي يبقي على مسافة الأمان بين الواقعي الثابت  والتخييلي المتحرك ، قائلا: “نعم أقر الآن و أنا في كامل قواي السردية أنكم على صواب ،وأني مجانب له، ولكن إذا شئتم، يمكن لي أن أعيد عليكم الحكاية تماما كما تحبون وترضون هذه المرة ها  ما قولكم؟.”

فهببنا  بحدب لإيجاد نهايات بديلة  سعيدة ناصعة غير ذات قتامة ،ومنها “أن البغل لم يبلع القمر ولكن شبه لهم وما كان من الفاعلين”.

هامش:

1 ـ عبد الرحمن الواديمن مواليد 1966حاصل على دكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة محمد الخامس بالرباط عام 1999 شاعر وكاتب رئيس بيت المبدع فرع خريبكة، من مؤلفاته في الشعر: ألسنة الماءـ مراسي ـ ما شكماني، وفي مجال القصة: الموكب الملكي وسي ليكوز، وفي المسرح: عودة سندباد إلى بغداد (للأطفال)ـ الحمار الحكيم (أوبريت غنائية للأطفال)ـ الجمل والخنزير (أوبريت غنائية للأطفال)ـ الأمير يعسوب (أوبريت غنائية للأطفال)ـ عدالة الماء (للأطفال)ـ جاء الأمير (للأطفال)ـ الشهر الذي تخلى عن أحد أيامه (للأطفال).

2 ـ البغل الذي ابتلع القمر، عبد الرحمان الوادي، قصص قصيرة  ،الطبعة الأولى، ردمك  ـ

دجنبر  2020.

3 ـ رسالة تداعي الحيوان على الإنسان، إخوان الصفا، ص:65

بقلم: بديعة لفضايلي

Related posts

Top