حين يمنحنا فن النحت الحق في الحلم

حول مشاركة التشكيلي رشيد باخوز في سامبوزيوم النحت بكندا

شارك مؤخرا الفنان التشكيلي رشيد باخوز – المزداد في الدار البيضاء عام  1976- في النسخة الثامنة للسامبوزيوم الدولي للنحت تحت شعار “نحو السماء لجعل الناس يحلمون”، إلى جانب تسعة نحاتين عالميين من أقطار مختلفة، وذلك بمدينة سان – جورج الكندية طيلة الفترة الممتدة ما بين 22 ماي و12 يونيو 2022. وتمثلت مشاركته في إبداع منحوتة شاهقة أطلق عليها اسم “إشراقات” Illuminations التي نالت استحسان النقاد واللجنة التنظيمية لجماليتها وتعبيريتها وكذا الرسالة الإنسانية التي تحملها.

حروفية مُغايرة

على امتداد سنوات من الاشتغال، أمسى الفنان رشيد باخوز يوظف الحروفية والبناءات الكاليغرافية في تشكيل لوحاته الصباغية ومنحوتاته وإرساءاته التشكيلية التي تعكس تدبيره الجيد للفضاء البصري على نحو تعبيري وتجريدي في آن. وقد جاد معرضه الفردي “بين المرئي واللَّامرئي” المنظم برواق فيلا الفنون في الدار البيضاء (شتنبر/أكتوبر2018) بمجموعة من هذه الإرساءات التي انطوت على دلالات جمالية اغتنت بمضامين تشكيلية جديدة، إلى جانب عروض الفيديو واللوحات الصباغية التي صاحبتها، مما يجعلنا أمام تجربة فنية ناضجة تسير على سكة إبداعية صحيحة ومتينة.

تمكن، ومنذ السنوات الأخيرة، من خلق معجم تشكيلي مكوَّن من الأشكال والألوان والتراكيب الناتجة عن استعمالهما. هذا المعجم ظلَّ يقوم بالأساس على محاورة الحروف برؤية إستتيقية معاصرة تقطع مع النماذج التقليدية المعروفة لتمنح العمل الفني هوية بصرية جديدة ومُغايرة.

فكيف تتحرك وتتعانق تشكيلاته الكاليغرافية لترسم لنا أثرا حروفيّا بظلال يعكسها التركيب العام لإبداعاته الجديدة (مسطحة ومجسَّمة وبصرية وأدائية)؟ كيف تمكن من رسمها وتلوينها وتجسيدها؟ لا شك أن هذه “الصنعة الفنية” التي يتميَّز بها تحتاج إلى مهارة ذهنية ويدوية عالية، كالتي يملكها الفنان باخوز الذي يدرك مسارات ودروب حروفه التي صارت تؤسِّس لأفقه الجمالي الذي يُراهن عليه تقنيّاً وإبداعيّاً.

إنها حروفية متنوِّعة ومختلفة بأنفاس إستتيقية معاصرة تبحث في بنية الحرف، لا لتغييره، وإنَّما لاستيعاب رمزيته ودلالاته البصرية. يسعى بهذا الاشتغال الإبداعي الجاد إلى جعل الحرف في صلب اشتغاله الفني والبصري، باعتبار أن هذه المفردة التعبيرية في تجربته “ليست علامة كتابية فحسب، وإنَّما صورة للغة التي تمثلها”، كما يقول.

سفير فوق العادة

تمتد المشاركة الفنية المتميزة للفنان رشيد باخوز في السامبوزيوم المذكور لمشاركات فنية أخرى مثل خلالها بلده أحسن تمثيل، ما جعلنا نطلق عليه لقب “سفير فوق العادة”، لجدِّيته ولأهمية الإبداعات التشكيلية التي أضحى ينجزها ويتركها في كل ملتقى دولي يشارك فيه. لعلَّ اختياره ومشاركته الفنية الأخيرة في ملتقى مختص في فن النحت بجانب نخبة متميِّزة من النحاتين العالميين لتأكيد على أحقية هذه التمثيلية المشرفة وكذا أهمية المشروع الفني الذي تقدم به.

مشروع فني اتكأ على رؤية إبداعية معاصرة ربطت الزمان بالمكان، بمفردات تعبيرية وجمالية جسَّدت العلاقة بين الفن والفضاء البيئي بكثير من التحوير والتأويل التشكيلي المفتوح على رُوح الاكتشاف.

وقد تمثلت مشاركة الفنان باخوز في إبداع منحوتة علياء، سامقة، منيفة، ماردة، ومتسامية ترفرف في سماء رحبة وسط منحوتات مماثلة منتصبة على طول كورنيش ريموند في مدينة سان – جورج الكندية ومثبتة على أعمدة معدنية متقايسة يزيد ارتفاعها عن المترين ما يجعلها شاهقة أقرب إلى السماء.

الأكيد أن هذا الفنان الباحث خطط لهذه المشاركة قبل أن تطأ قدماه محترف العمل. مكث هناك لساعات يتأمُّل ويعجن أفكاره و”يُدَوِّرُهَا” لإيجاد حلّ البداية، وكلّ تركيزه على الفكرة وعيناه على لوازم وخامات العمل.

تواطؤ إبداعي جميل بين الفنان وفكره أفضى إلى الشروع في العمل لإقناعنا بخلق تجسيم فني معاصر حشد فيه كل قوَّته الإبداعية، لأنه كان يَعتبره رهاناً واختباراً حقيقيّاً أمام نخبة من خيرة النحاتين العالميين.

ولأن “النحت هو فن الذكاء”، كما قال بابلو بيكاسو، فإن المبدع باخوز أدرك مسبقاً مغزى هذا القول البليغ، وتمكن من نحت جزء من إشراقاته المنيرة والمضيئة. هكذا كان ولوجه لعالم النحت، متأمِّلاً في الكائنات والأشياء التي تعلم منها تشكيل المادة برُوح نحتية، لأن النحت بالنسبة له موجود في كل مكان ويَعتبره امتداداً للسيراميك والفنون التجسيدية والتركيبية بشكل عام. كما أنه يُعزي شغفه بفن النحت ومتعه إلى الإخلاص الخلاق وإيجاد الحلول الإبداعية الملائمة لإظهار “جوهر المادة وحياتها” من خلال المواد والخامات والسندات المستخدمة والمولدة للرَّغبة في النحت وممارسته بحساسية ومهارة. لا فرق!!

ليس هذا الشغف جديداً في تجربة الفنان، كان بدأ واستمر لديه ليتفجَّر، حيث تمخضت عنه “إشراقات”، وهي منجزة نحتية تجريدية متحرِّكة (بصريّاً) تتعايش بداخلها مفردات كاليغرافية مجرَّدة من دلالاتها اللغوية، وقائمة على التبسيط والإقلال والاختزال. لكنها تنمُّ عن معادلات مرئية ودلالات تعبيرية وجمالية عميقة المعنى والمبنى.

يعلل الفنان باخوز أسلوب ونمط اشتغاله، كون ما يشغله إبداعيّاً هو البناء والتركيب بحس جمالي مُغاير ومختلف، إلى جانب المعالجة اللونية التي تنهض لديه على اختيارات طيفية اصطلاحية مؤسسة على العمق والشفافية والتضاد.

تأمُّلات جمالية

تؤكد المنجزة النحتية العائمة التي جادت بها قريحة الفنان باخوز في الديار الكندية بأن الصورة التي كانت تصنع الحدث بالمعنى الكامل للكلمة غدت بذاتها هي الحدث، وقد استوفى شروط  فتنته البصرية أمام زخم من المنوعات الإعلامية والوسائط الفنية التي تحتفي بالغابر والعابر. فهذه المنجزة – المنشأة العمودية حققت رهان الجذب والانجذاب، خالبة ألباب متتبعي أطوار كمونها واختمارها ونشأتها في طقس جماهيري يحيل على المفكر واللامفكر فيه الجماعيين. إشراقات شمسية على طراز بلاغي مجازي تتواصل مع المرئي واللامرئي، وتتوخى الإثبات والنفي، تتوق إلى الحضور والغياب. إشراقات اختزلت المسافات حاملة في طيَّاتها أبعاداً إشاريةً وتجاوريةً لا مجال فيها لكل ريب أو افتراض. تدفقت “إشراقات” رشيد باخوز بشكل تركيبي انسيابي كي تقاوم الهذيان الجماعي الكوني الذي أصبح مع الآلة الإعلامية المعاصرة أسير المثير والصدموي والشاذ.

ثمَّة فكرٌ إبداليٌّ يسكن رُوح منجزة رشيد باخوز الذي أغوى أنظار الفنانين المشاركين والمتلقين الجماليين، عارضا تشكيلات لونية متعدِّدة من خامة معدنية (الألومنيوم) تفتح المجال للنفي والشك، وتخلخل ثوابت ما كان وما هو كائن. لا غرابة في ذلك، فقد دأبنا مع الفنان باخوز على التفاعل مع الإبداع التركيبي المسائل الذي يرى إلى الفن البصري كغرابة لا كألفة. ليس من الذين يقدِّسون الانتقاء والآنية والرَّاهنية، فهو يخترق الأزمنة بإبداعات من الصعوبة بمكان تأطير مدّها البصري، إذ لا قبل ولا بعد، ولا أول ولا آخر. تصبح، إذن، مسافة الإيحاءات التأمُّلية معادلاً موضوعيّاً للمسافة النقدية التي تحكم علاقة المشاهد/الذات بالعالم المشاهد/الموضوع. كم انزاحت “إشراقات” باخوز عن الصرح الإيديولوجي الجديد لزمن الصورة، إذ لا فردانية، ولا نرجسية، ولا أنانية. إنها إشراقات المفكر فيه واللامفكر فيه الجماعيين، حيث ينتظم ضمير الجمع “نحن” ليتماهى فيه ضمير المفرد “أنا” في علاقة عشقية بكل خلفياتها الرمزية الهائلة.

عبر تداعيات منجزة رشيد باخوز النحتية، نشكل صورة جديدة حول ذواتنا خارج كل تنميط أو تشييء أو تكييف. صورة تتعالى على آليات الترفيه ونزعاته اللهوية تغيب معها ثنائية الجلاد والضحية أو الفاتن والمفتون. صورة لا تستدعي الموت على النحو الفوتوغرافي بالتعبير البارتي، بل تستوحي الحياة تحت أشعة شموسها المتوهجة والمنبعثة باستمرار. من منظور رشيد باخوز، هناك دائما جديد تحت الشمس يبارك العام المؤمثل، ويتجاوز الآني والعابر والآفل في حركة أبدية لا تعرف سدة المنتهى.

أن نتأمَّل إشراقات رشيد باخوز النابضة بالانسيابية معناه أن نرى الصورة وما تصوره في الآن ذاته بناء على تركيبة ثلاثية الأبعاد تتغيَّا بشكل مغاير اجتياح ثقافة الجماهير خارج دائرة كل استهلاك أو إغواء تسويقيين.

مرة أخرى، يتفوَّق رشيد باخوز في ممارسة نقد ثقافي من خلال إبداعه البصري جاعلاً من الحركات معجمه، ومن الطقس الجماعي ملاكه لاشيطانه، ومن تنويع الأشكال والمواد مختبر حداثته وبيان إبداعه العجيب الذي يشيد بالحلم ويعلي من شأن الحدس والخيال (أليس الجميل هو العجيب دائما بتعبير أندري بروتون؟).

يا له من نداء كينوني جديد لتدارك أفول المعاني واحتضار الحكايات الكبرى التي كرستها إمبريالية العقل وشطط سلطته!

معايشة بصرية

في هذه المنحوتة، تتعايش شرائط معدنية بألوان مبتهجة وبمنحنيات والتواءات وتموُّجات بديعة قائمة على مهارة متقدِّمة وعلى الخفة والمرونة المفترضة. إنها “شاعرية بصرية” تجسِّد في مدلولاتها التشكيلية ثنائية الذكورة/الأنوثة، الصلابة/المرونة، الأرض/السماء، الامتلاء/الفراغ وغيرها من الثنائيات التي يدعونا من خلالها إلى التفكير في علاقة المادة بالفكرة، وعلاقة الفكرة بالمنجزة، وعلاقة المنجزة بالتلقي.

أيّ “مينيمالية” هذه التي أبدعها الفنان باخوز الحالم والمطمئن باستمرار؟ وأيّ بنيات وتركيبات جسَّدها بواسطة شرائط معدنية ملوَّنة لم يكن من السهل تطويعها وإعادة تشكيلها على نحو إبداعي خلاق ومبتكر؟ هي ذي بداهة المبدع، تهابه الخامات وتتماهى مع جنونه وقلقه. هما سيان إذن؟ خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنحت الذي اعتبره هيغل “أسمى أشكال الفن”.

الجمهور وعشاق الفن كلهم كانوا في الموعد لمشاهدة هذه المنحوتة والاستمتاع بجماليتها ورمزيتها التي خرجت من رحم ورشة متخصِّصة دامت أيّاماً متواصلة من العمل والإبداع كلها تأمُّلات وتجريب وتطويع المادة لفائدة المنجز. كانوا هناك، أتوا من كل حدب وصوب، يُعيدون الزيارة لتجديد حواراتهم البصرية مع هذه المنجزة النحتية ومثيلاتها المجاورة في إرساء جمالي بهي زاد الكورنيش بهاءً وضيّاءً وشاعرية أيضاً.

من هناك مر باخوز تاركا أثرا فنيا بهيا يوثق لمشاركة إبداعية متميزة ومشرفة تغني مساره الجمالي الذي يواصل إثراءه بخطوات واثقة وبإبداعية خلاقة ومثمرة بكل تأكيد.

بقلم: ابراهيم الحَيْسن – عبد الله الشيخ

الوسوم
Top