دار الشعر بمراكش تقارب تجربة الشاعر الراحل أحمد المجاطي

أكد الشاعر عبد الحق ميفراني، مدير دار الشعر بمراكش، “أن فقرة “ذاكرة”، تسعى إلى الحفر في ذاكرة الشعر المغربي، من خلال استقصاء تجارب شعرية ونقدية مؤسسة ورائدة، كما تسعى هذه الفقرة ضمن البرمجة الخاصة بالموسم الرابع، أن تحفر في تاريخ الشعر والنقد المغربيين، وعبر استدعاء بعض التجارب والتي شكلت أفق القصيدة المغربية الحديثة ورسخت خصوصيتها، وأيضا إلى إثارة القضايا الجوهرية والمركزية التي تهم الخطاب الشعري بالمغرب. وإذا كانت فقرة ذاكرة، العام الماضي، قد حفرت في تجربة المعتمد بن عباد شاعرا، فقد اختارت هذه المرة، أن تفتح “ذاكرة شعرية متقدة”، لا زالت إلى اليوم تفتح كوة جديدة لأسئلة الشعر المغربي”.
الندوة العلمية، “مقيمون في الذاكرة”، والتي نظمتها دار الشعر بمراكش، تحت إشراف وزارة الثقافة والشباب والرياضة، قطاع الثقافة وبتنسيق مع كلية اللغة العربية بمراكش وبيت الشعر في المغرب، واحتضنتها رحاب الكلية (مدرج الشرقاوي إقبال)، وبين طلبتها، شهدت مشاركة لفيف من النقاد والباحثين: الناقد والشاعر محمد الصالحي، الشاعرة والباحثة مليكة فهيم، والناقد الدكتور عبدالعالي قادا. هي لحظة معرفية سعت لاقتراب الأجيال الصاعدة ومجموع الباحثين والطلبة، من تجارب مغربية رائدة وأجيال شعرية أعطت الكثير، للشعر والأدب المغربي، وهي فقرة تندرج ضمن سلسلة الندوات التي تنظمها الدار لاستقصاء أسئلة وقضايا الشعر المغربي اليوم. وهو ما يفضي الى محاولة تبني خطاب جديد، يلامس عمق القضايا وحلحلة الأسئلة والتفكير في راهن الممارسة الشعرية. وأيضا مواصلة سلسلة النقاشات التي فتحتها دار الشعر بمراكش، مند تأسيسها الى اليوم، مركزة على عمق القضايا الجوهرية التي تهم القصيدة المغربية المعاصرة، وأسئلة النقد الشعري.
أحمد المجاطي: شاعرا وناقدا، من شعرية الأمكنة الى ناقد حركة الحداثة الشعرية:

يعد أحمد المجاطي المعداوي (1936-1995)، أحد رواد القصيدة المغربية الحديثة، وأحد الذين استقصوا تجربة الشعر المغربي، المجاطي الذي وسمه الناقد نجيب العوفي ب”الأب الروحي والفعلي للقصيدة المغربية الحديثة، لقد كان الراحل مؤسسا للقصيدة المغربية الحديثة ومدشنا للحداثة الشعرية في المغرب” من خلال كتابين نقديين: “ظاهرة الشعر الحديث في المغرب”، و”أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث”. صاحب ديوان الفروسية، يمثل تجربة متفردة في خريطة الشعر المغربي الحديث، ولازال الى اليوم يثير أسئلة النقد الشعري بمنجزه الشعري المتفرد، من خلال ترسيخه لوعي جديد بالظاهرة الشعرية في المغرب، من ديدن أسئلة الحداثة نصيا ونقديا، وعبر انشغاله العميق بالشعر الحديث في المغرب وبأزمة الحداثة في الشعر العربي.
فقرة “مقيمون في الذاكرة”، لحظة معرفية، حاول من خلالها النقاد، استقصاء تجربة هذا الشاعر الألمعي، وإضاءة الكثير من أسئلته النقدية، والتي لازالت الى اليوم تحتفظ براهنيتها. وكما أشار السيد عميد كلية اللغة العربية في مستهل اللقاء، الناقد الدكتور أحمد قادم، فالكلية تتشرف باستضافة “هذا الملتقى الشعري والنقدي الكبير، والذي تنظمه دار الشعر بمراكش، الدار التي أسهمت في إعطاء دينامية للفعل الثقافي، وأيضا الأثر والإشعاع الذي أحدثته هذا اللقاء العلمي، وإشادة بصدى وأثر الندوة إعلاميا..” واعتبر الدكتور أحمد قادم، أن كلية اللغة ظل بابها مفتوحا لأوجه التعاون المشترك، بما يخدم السياق العلمي والبحث. ولعل العمل الراقي، الذي قدم السنة الماضية حول المعتمد بن عباد، بمشاركة لفيف من النقاد والباحثين، يشكل نموذجا إيجابيا لترسيخ التعاون الثقافي المشترك مع دار الشعر بمراكش، واليوم تسعد كلية اللغة باستضافة هذا النشاط الذي يحفر في ذاكرة شاعر كبير هو أحمد المجاطي، وأحد أساتذة الأدب الحديث في المغرب”.
الشاعر والباحث محمد الصالحي: المدينة في شعر المجاطي

وقارب الشاعر والباحث محمد الصالحي “المدينة في شعر أحمد المجاطي”، مفتتحا بالإشارة الى المداخل المتعددة والمتشعبة في تجربة أحمد المجاطي. إذ احتشدت في الشخص صفات ذاتية وموضوعية، جعلت اسمه يتسم برنين خاص. بين أحمد المجاطي الشاعر، والباحث الناقد والأستاذ الجامعي والايديولوجي السياسي.. لقد دأب النقد المغربي حول الشعر، بالمعنى الواسع لكلمة نقد، دأب على صب الموضوعي في الذاتي والذاتي في الموضوعي، وهو ما أساء الى أحمد المجاطي الشاعر الباحث، كما للمجاطي الكائن الاجتماعي. أي أن النقد السبعيني أثر بشكل سلبي في تأطير المنجز الشعري والنقدي للمجاطي، الى جانب صورته الشخصية والتي أسهمت في تخطيط ملامحها الكثير من المؤلفات. وهو ما أفرز فخاخا وحجبا حالت دون إنصاتنا الفعلي الى ملفوظ شعرية المجاطي، في إحالة الى إشارة محمد الميموني “ديوان الفروسية بين التلقي والخاص”. انشغالات النقد بأمور خارج نصية، جعلته يشيح ببصره عن منطوق المنجز النصي للمجاطي في كثير من الأحايين.
ويثير الباحث محمد الصالحي، أن لتيمة المكان حضور قوي لافت في المدونة الشعرية، قديما وحديثا عربيا وغربيا، إلا أن الدرس الفلسفي والأنتروبولوجي، بالخصوص الى جانب الاغتراب العارم الذي عاشته الإنسانية، دفع بالمكان الى الصفوف الأمامية، تيمة ورمزا من المكونات النصية. من اليوت الى إزراباوند والسياب والبياتي ودرويش وأدونيس وسعيد يوسف، قصيدته “مجاز وسبعة أبواب” أرقى ما كتب عن مراكش في الشعر العربي.
الناظر في شعر المجاطي وديوان الفروسية، يشير الصالحي، سيلاحظ حضور المكان كملمح أسلوبي ضمن ملامح بينة واضحة، تطفو على جسد النص، كسيادة الجملة الفعلية وطغيان النعوث. وانطلاق من العنوان الفروسية (مكان الخمارة) يحضر المكان، الشاعر آثر الانتساب الى بلده الأصل أي منطقة مجاط، نواحي مراكش، (دار لقمان 1965، ملصقات على ظهر المهراز، القدس، سبتة، الدارالبيضاء، وراء أسوار دمشق..)، أما على مستوى النصوص، فالأمكنة حاضرة بقوة ولا تحجب العين عن القارئ. إذ تنطوي على عدد لافت بأسماء المدن المغربية، وهو ما يجعل الوقوف عند دلالة المكان ضروريا، ليس المكان المدينة، التيمة اللافتة في شعر المجاطي، فهناك تيمات أخرى مهيمنة، موضوعات تنحدر من الشعرية العربية (الموقف من الزمن، الموت، الحب والمجتمع..).
انتقل الباحث محمد الصالحي، إلى الإبحار في مجازات حضور المدينة، في تجارب شعرية عربية وغربية. فهناك صنف يكتب معاناته من حياة المدينة وشعوره بالوحدة والضياع واغترابه، (عبد الصبور والقاهرة)، وصنف ثاني تنقطع وشائجه بالحياة في المدينة (السياب). في محاولة لتأمل صورة المدينة في القصيدة العربية الحديثة. أما مدينة المجاطي، فترمز الى الاغتراب والصمت والنكران (طنجة)، وآن تصير المدينة قضية (قصيدة القدس)، رمزا للخيانة (ظهر المهراز)، ثورة وحلم (الدارالبيضاء، أخت غرناطة)، مدينة المجاطي مدينة أمل (دمشق).
قصيدة المجاطي تشاكل وتحافر رمزية المدينة، وتمتح من ذات المرجعيات والتي توسلت به القصيدة التموزية (المدرسة العراقية خاصة). فهل استطاع المجاطي أن يحجب التيمة لإبراز ذاته؟ يتساءل الباحث الصالحي. فنيويورك ماياكوفسكي ليست هي نيويورك في قصيدة لوركا وليوبورلد دي سنغور أو البياتي، لا نرى المدينة بل ذات الشاعر. إن محاولة دراسة تقصي رمزية المدينة، في ديوان الفروسية، يتطلب ضرورة الوقوف عند دور التيمة في تجسيد استراتيجية الإيقاع، بما هو العين التي يرى بها القارئ النص والتي هي العين ذاتها التي يرى من خلالها النص الى قارئه. ينتقل الصالحي، إلى رصد كيف وظف المجاطي تيمة المدينة، بما هي لبنة وكلمة ذات حمولة دلالية وايقاعية، تساهم في تعضيد النص. الحداثة عند المجاطي في أزمة ومأزق، لم يوفق أصحابها الى حلها لإخراج الشعر، لأن منطلقاتهم كانت خاطئة: البينة الايقاعية وبنية اللغة والرسالة الشعرية. ليختتم الشاعر والباحث محمد الصالحي مداخلته بالتأكيد، على أن ندوة “مقيمون في الذاكرة”، حول الشاعر والناقد أحمد المجاطي، هو احتفاء باسم كبير، لأنه استطاع أن يطرح أسئلة.
الشاعرة والأستاذة الباحثة
مليكة فهيم: أحمد المجاطي تجربة ثرية ومؤسسة

الشاعرة والأستاذة الباحثة مليكة فهيم، اختارت مقاربة البعد “التخييلي والمرجعي في تجربة المجاطي الشعرية”، لتجربة رأتها ثرية ومؤسسة، وصوت شعري محمل بثقافة جمالية عالية وشعرية ونقدية واسعة. واختارت في البداية، توطئة مقتضبة عن الانزياحات التي عرفتها القصيدة العربية، مؤكدة على المكانة التي حظي بها الشعر طويلا، باعتباره ديوان العرب، بل وظلت الثقافة العالمة تبوئه مكانة سامية مقارنة مع النثر. و بتعبير الناقد محمد مفتاح، “النثر يعني التشتت والتبعثر، والنظم يعني الترابط والتماسك”. والبحث في القصيدة العربية يحيل على العديد من الانزياحات، التي عرفتها طيلة مسارها التاريخي، إن على مستوى البنية والمحتوى. ومنها انفتاح الثقافة الإسلامي على ثقافات أخرى، والتشكيل الشعري الجديد عند أبو نواس، وشعر الطبيعة والموشحات الاندلسية والتجربة الصوفية وشعر المديح والخروج على نمط القصيدة الكلاسيكية.
ولعل راهن التحولات في القصيدة المغربية المعاصرة، وهي تسافر عبر الكتابة، الى أفاق مختلفة ابتداء من النص وطرائق النظم والتخييل وعلاقته بالمرجعي والاحتفاء بالذاكرة بموازاة التغيرات السياسية والمجتمعية، واستكشافه وإعادة قرائته، استطاعت أن تنسج زوايا مختلفة وفق وعي جمالي، ترى في الماضي نصا مفتوحا على التأويل. إن جعل القصيدة، أكثر من ظاهرة جمالية، وتحولها الى ظاهرة إنسانية تنشغل بالإنسان والمجتمع. كما أن الخروج على الأنماط القديمة، وتحول في البنية الايقاعية (نظام التفعيلة)، الى مستويات أخرى، كالبناء المعماري والتخييلي، أفضى الى الاقتناع بمسار جديد للنص الشعري المغربي، رغم أنها ممارسة شعرية كانت حركة أفراد، ولم توازيها حركة نقدية مؤطرة. ومن نتائج هذه التحولات، تؤكد الباحثة فهيم، ظهور كتابات شعرية، واستعادة مرحلة أساسية من تاريخ المغرب. بزغ الشعر في استعادته الذاكرة، ضدا على النسيان والطمس، ومستندا على اختيارات على مستوى الكتابة، وانفتاح على تجربة الإنسانية.
إن ديوان الفروسية للمجاطي، يؤشر حسب الباحثة مليكة فهيم، على حضور صوت المثقف كصوت نقدي، بما أن حضور المجاطي يشكل لحظة فارقة في تاريخ القصيدة المغربية الحديثة. وهو مؤشر هام، لإنصاته واهتمامه بنبض التحولات القصيدة العربية الحديثة. لتنتقل الباحثة الى رصد الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي أفرز قصيدة المجاطي، وأهمية ديوان الفروسية، وحضوره الشعري المدهش في الستينيات، ومستويات التحول في قريحة الشعرية المغربية، الى جانب تلقي شعر المجاطي في الشعر الحديث. لقد نالت أشعار المجاطي، تؤكد فهيم، بحكم تأثيرها على القصيدة المغربية المعاصرة، مكانة خاصة بحكم حساسيتها الشعرية، ولعل تميز البنية الدلالية، في فعل القراءة واستنطاق النص الشعري، وعناوين قصائد الفروسية التي تحتفي بأسماء الأماكن (القدس، الدار البيضاء، سبتة،..) هي إحالات مرجعية تهيمن، في ظل أجواء مدن تعيش الوجع، مما يشعل الكون الشعري عند المجاطي. أما التخييل في ديوان الفروسية، فتعتبر عوالم التخييل جسرا سحريا لتبرير بنى مختلفة. فالقارئ يربط ما بين تخييلي وواقعي، من خلال تجاوز الدلالة الطبيعية. أما الشاعر، فهو واعي من خلال بنائه صورا خاصة، يخلق من خلالها وعبرها، وفق قوانين تخضع للذات المتشظية، معتمدا على روابط بين مدلولات مختلفة حيث حضور السفر في الزمان والمكان. قصيدة المجاطي يغلفها حزن إنساني عميق، وتنسج مساحات من القول الشعري يسبر الأغوار. والشاعر ينزاح من المرجعي إلى أغوار الدلالات، مما أكسبها في ديوان الفروسية ملمحا جديدا ونقلا إلى الوجود.
في قصيدة المجاطي، يجد القارئ نفسه، أمام عالم مكتظ بالدلالات والرموز، الشعر ينزاح من المرجعي في اتجاه التخييل. وهو ما أكسب نص الفروسية جمالية نقلته الى الأسطوري، بحكم أن التخييل يرتبط بالغرابة، وهو أيضا تعبير عن بنية فكرية ووعي بقضايا العصر. ولقد استحضر المجاطي، عدة شخصيات أعطاها دلالات جديدة في علاقات حوارية، لبناء دلالة خاصة يشيد عليها عالمه الشعري. إن الشاعر لا يكتب خارج القضايا التي تطرحها الذات، لذلك فديوان الفروسية باعتباره خطابا أدبيا، غير منفصل عن مبدعه، قصد تشكيل عالم موسوم بالتخييل. إنه ديوان أقرب الى تحفة شعرية فنية، يطل المجاطي عن عالمه الخاص، ويلتقط الشاعر الصور المرئية وغير المرئية، ليخلق عالم ينبض بالدلالات عبر جمالية الشعر، متسلحا بالعلم والمعرفة. ينبني ديوان الفروسية على عدة حقول دلالية، تصب في مجملها في ثنائية مهيمنة هي حياة /موت، تنبثق منها سلسلة من الثنائيات الضدية النهار/ الليل، الماء والجفاف، الكائن والمحال، الماء والجفاف، االبداع والعقم، العذراء والشمطاء، الضوء والعتمة، الشك واليقين لقد استطاع أحمد المجاطي، أن يلتقط الرموز والإشارات والصور، وأن يعيد تركيب دلالتها بما يتماشى وأفكاره ورؤاه، من خلال نص زاخر بالمعاني والدلالات التي تنطقها ذات تحاور وتحاجج وتقنع، بما يرغب في إيصاله شاعر يحرك كل الخيوط هو الشاعر نفسه، باعتبار أن الخطاب حاضن لروح صانع النص، حيث يمزج التخييل المؤلف بالمتكلم في بوتقة واحدة يصعب فصلهما عن بعضهما.
يلتقط أحمد المجاطي، الصور والإشارات المرئية وغير المرئية في قالب يخدم تطلعاته وأفكاره، ليخلق عالما ينبض بالمعاني والدلالات. وبذلك يمرر ما يرغب في إيصاله عن طريق جمالية الشعر، التي ترسم فضاء زمنيا يشي بعوالم وأحداث، فتقوم اللغة بتجسير الرؤى والأفكار الحاضنة لذات الشاعر الذي ينفخ فيها بعضا من أسراره ومعارفه عن طريق التخييل، متسلحا بالعلم والمعرفة اللغوية القادرة على خلق نصوص ال تشوبها شائبة، تسعفه على أسطرة ذاته، لتندلق كل الأحلام والطموحات المعلنة والمخفية.
لناقد الدكتور عبد العالي قادا: الحداثة الشعرية في المشروع النقدي لأحمد المجاطي

تندرج مداخلة الناقد الدكتور عبدالعالي قادا، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية اللغة العربية، والذي تناول “الحداثة الشعرية في المشروع النقدي لأحمد المجاطي: من أزمة التلقي الى أزمة الإبداع”، محطة لنقد النقد. إذ توقف الناقد قادا عند مشروع المجاطي النقدي، وحاول تحديد أهم أفكاره الكبرى. لكن، في نفس الآن، انتقد بعض ما جاء فيه من مفارقات، مستدعيا بلاغة حجاجية ضمن مقام علمي يضيء مشاريعنا الشعرية والنقدية المغربية.
أشار الناقد عبد العالي قادا إلى ارتباط اسم أحمد المعداوي، الملقب بالمجاطي، بالشعر الحديث إبداعا ونقدا، وبالحداثة مرجعية فكرية وملهمة ودافعة للكتابة لديه. ولقد جاء كتابه ظاهرة الشعر الحديث، دفاعا صريحا عن حركة الشعر الحديث والتي استفادت من نكبة 48 واستطاعت أن تنتصر عن التيار المحافظ، والذي يتحمل مسؤوليات الإخفاقات التي عرفتها الأمة، هذا التيار المحافظ الذي شكل عائقا فكريا وايديولوجيا أمام تطور المجتمعات العربية وتوجهها نحو الحداثة، كما يشير المجاطي.
لكن القارئ للكتاب، يجد نفسه أمام تهاوي تجربة شعرية، اعتقد لفترة طويلة أنها تعبر عن مرحلة مهمة في تاريخ القصيدة العربية. فبنيتها الايقاعية لم تأت بجديد، متأزمة، ولغتها ظلت حبيسة مرحلة ما قبل الحداثة، المحاولات اليائسة لتجاوزها ظلت في مرحلة الغموض فانقطعت عن جمهورها، ورسالتها وصلت الى الباب المسدود. فهل كان نقد المجاطي لهذه التجربة موضوعيا؟ عن هذا السؤال وغيره، حاول الناقد قادا الإجابة من خلال ثلاثة محاور لمداخلته، أجملها في: 1- المجاطي مدافعا عن الحداثة، 2- المجاطي ناقدا للحداثة ، أو ناقدا لنفسه، 3- في نقد موقف المجاطي من الحداثة.
في المحور الأول، أشار الناقد عبد العالي قادا إلى كتاب ظاهرة الشعر الحديث، هذه الدراسة النقدية والتي تتبع مسارات تطور الشعر العربي الحديث، وتبحث في العوامل، التي أدت الى انتقال الشاعر العربي الحديث، الانتقال من مرحلة الإحياء والذات الى مرحلة التحرر من قيود التقليد. مع رصد العوامل التي غذت التجديد في الشعر العربي، على مستوى المضمون وعلى مستوى الشكل والبناء الفني. غير أن القارئ للكتاب، والذي لم ينشره المجاطي للمفارقة، يحتفي بانتصار الشعر الحديث على التيار المحافظ. بينما يرى أن المدرسة الرومانسية هي محاولة تجديدية فاشلة، بينما حركة الشعر الحديث، هي محاولة تجديدية ناجحة وحركة جمعت بين فضيلة التفتح، على مفاهيم الشعرية في الغرب، وبين الثورة على الأشكال الشعرية العتيقة. إن كتاب المجاطي، ووضعه في سياقه التاريخي (60 و70) يشير قادا، له أهمية بالغة، فهو من النصوص المؤسسة للدراسات النقدية والعلمية للشعر الحديث، وفيه يتبنى المجاطي الحداثة، ويجعلها مؤشرا على مستقبل مشرق تنبعث فيه الأمة من جديد. لقد شكلت حركة الشعر الحديث، رد فعل قوي، يوازي صدمة التي أحدثها الهزيمة والذي كان الحدث القومي دافعها الرئيسي. وهي حركة متنامية تمشي وفق منطق التطور ورؤية استشرافية متراوحة بين الأمل واليأس. وبعد إشادة كلية بمشروع حركة الشعر الحديث، وبمضامينها المتبلورة من خلال تجربتي الغربة والضياع والحياة والموت، شرع المجاطي في الإشادة بمكوناتها، اللغة والصورة والموسيقى، معتبرا أن الأزمة، أزمة التلقي. كان المجاطي ينتصر لمشروع الحداثة، ولخص أزمته في أزمة التلقي في الأساس. في المحطة الثانية، المجاطي الآخر، ناقدا لنفسه، لاحظ الناقد قادا، أنه يورد العديد من الخلاصات في مقدمة البحث كأنها نتائج. ليعلن المجاطي بعدها، أن حركة الشعر الحديث، لم تعرف نصرا شعريا محضا، لذلك قرر المجاطي إعادة قراءة الشعر الحديث، منطلقا من نقطة الصفر، قراءة جديدة. ليتوقف حينها، عند أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، حيث سمتها ابتعاد الذات عن الموضوع، ولتكون دراسة علمية وموضوعية، مخليا ذهنه من كل القناعات السابقة، عند أسئلة ثلاث: ماذا أضاف الشاعر العربي الحديث إلى إيقاع القصيدة العربية والى تركيبها اللغوي والى الدلالة وما هي رسالتها إلى جمهور القراء والمتلقي؟
الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها، هو تعبير عن أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث (الإيقاع، واللغة والرسالة الشعرية) لينتقل المجاطي من أزمة التلقي الى أزمة إبداع. ويخلص في البنية الإيقاعية، إلى أنها تكرار لمحاولات سابقة، بنية إيقاعية ذات عناصر محدودة من حيث الكم، وغير أصيلة من حيث الابتكار. أما حجم المبالغة في اللغة، فيبدو البون الشاسع بين اللغة كما تقدمها تنظيرات الحداثة، واللغة كما تقدمها النصوص الشعرية. فعند المنظرين لغة هدم (رامبو..)، وهي لغة خلق وليست لغة تعبير. المثن الشعري، لغته ظلت مرتبطة بما قبل الحداثة، مع حضور النفس التقليدي. الرسالة الشعرية يشير المجاطي، من خلال تجربة الغربة والضياع وتجربة الحياة والموت وظاهرة الإلجاء، هو تعبير عن تأثر الحداثة بالأدب الوجودي، لكنه سقط في القراءة المنبهرة، مما جعل تجربة المثاقفة تنطوي على فقر ومحدودية على مستوى الموضوع والمعجم، أما تجربة الحياة والموت فإنها سقطت، في أساطير وافدة، مما جعل الشاعر العربي الحديث يصل الى الباب المسدود. يفرد الناقد عبدالعالي قادا، وبحكم أنها لحظة معرفية بامتياز، فقرة لنقد النقد من خلال نقد موقف المجاطي، فهو يرى أنه لا يمكن لدارس لكتابات المجاطي أن ينكر عليه تحوله، من مبشر لحركة شعرية تقدم بديلا، إلى منتقد شرس إلى هذه الحركة. نقد لا يخلو من هنات، يشير قادا، إذ بنى أبنية وهدمها. فنقد المجاطي لحركة الشعر الحديث، حادت به أحيانا عن مسار البحث العلمي والموضوعي (قدم فرضيات بحثه بوصفه نتائج وخلاصات). إلى جانب السخرية والتحامل، في وصفه لما قاله كمال أبو ديب، والدراسة العروضية لكمال خير بك، ومناقشة بعض النقاد المخالفين لرأيه، مسفها لكتاباتهم. لينهي المتدخل ورقته بالتأكيد، أن ورقته البحثية، لا تسعى تبخيس عطاءات المجاطي، فأطروحته قوية لكن أسقطته أحيانا في الذاتية. المجاطي الذي بدأ مسيرته الشعرية مؤمنا بحركية الشعر الحديث، ليتحول إلى ناقد شرس لها، أم لعل الحداثة حداثات؟
الدعوة إلى إعادة قراءة المجاطي:

في فقرة مناقشات، تدخل الناقد الدكتور سعيد العوادي، والذي نوه بالدور الكبير الذي تقوم به دار الشعر بمراكش عبر لقاءاتها وندواتها وبرامجها، وفي اختيار هذه التماعة، المقيمون في الذاكرة من أجل تنشطيها ضدا على النسيان. الرجوع الى أعلام كان له أثر واضح في الأدب المغربي، أحد مؤثثي الذاكرة الشعرية والنقدية المغربية أحمد المجاطي. استحثاث هذه الذاكرة من منظورات مختلفة، حاجة ملحة وأيضا نحن أمام قيادة الشعرية المغربية. المجاطي كتب أكثر من ديوان، من خلال شعرية المكان ورحلات وكتابات مختلفة، المجاطي كان أكاديميا فكتابه الأول، بيذاغوجي، أما الثاني خارج الوعي المؤسساتي عبر فيه عن وجهة نظره، لذلك هنا حاجة ماسة فعلا، إلى إعادة قراءة منجز أحمد المجاطي.
ونوه الشاعر والناقد عبداللطيف السخيري، إلى رمزية المجاطي في تاريخ الشعر والنقد العربيين، لكنه يرى أنه يجب وضع الكتب في سياقات تاريخية وثقافية للحكم عليها. فالمجاطي اعتمد مبدأ الطلقة الواحدة، فهو اختار نشر ديوان شعر وكتابا نقديا، وبينهما نقد ذاتي. ديوان الفروسية (أو الخمارة)، حيث خيبة الأمل، رمز يغلف فضاء الديوان. نقده لأزمة الحداثة، نقد للذات، وفعل النقد الذاتي (في استدعاء تجربة الزعيم علال الفاسي) وهو ما يتطلب جرأة معرفية وحداثية. التوقف عند التناقضات يتطلب، الانتباه الى السياق التاريخي والثقافي للكتابين، المجاطي رجل حداثة بامتياز، لم يخشى أن ينتقد ذاته ولا مواقفه السابقة. وكمقارنة، نوه السخيري لتجربة أدونيس أو تودوروف، حين سفه الأول التراث، وحين قام الثاني بمراجعة وظيفة الأدب.
واختار الدكتور محمد الطحناوي، أن يتوقف عند أزمة الإيقاع، في إشارة لمقولة المجاطي حول البنية الإيقاعية وعناصرها، ومن بينها الجملة الشعرية (التدوير وانقسام التفعيلة)، من خلال مقطع مسرحية شعرية لأباكثير. في محاولة للتحقق من تدوير التفعيلة، وبالعودة الى النص الأصلي وبين ما قدمه المجاطي، لاحظ الطحناوي تعارضا لافتا، بين غياب التدوير وحضوره لتحقق الجملة. كما أشار الى علاقة بكتاب عز الدين إسماعيل الشعر العربي المعاصر، وكتابي المجاطي ومشكلة الإحالات.
فقرة “مقيمون في الذاكرة” لدار الشعر بمراكش، هي لحظة معرفية حاول من خلالها النقاد والباحثون، استقصاء تجربة هذا الشاعر والناقد الألمعي، وإضاءة الكثير من أسئلته النقدية، والتي لازالت إلى اليوم تحتفظ براهنيتها.

Related posts

Top