دبلوماسية الخشونة والنعومة في الوساطة الأميركية

نشطت الإدارة الأميركية في بعض الأزمات الإقليمية مؤخرا، واقتربت من مفاصلها الرئيسية على طريقتها. ظهر هذا التوجه في نموذجين للوساطة بكل ما تحمله من خشونة ونعومة دبلوماسية. وهما دفع واشنطن عجلة السلام في القضية الفلسطينية من خلال الخطة المعروفة بصفقة القرن، وتسهيل عملية التفاوض في ملف سد النهضة المتأزم بين مصر وإثيوبيا.
تبدو العلاقة بين الصفقة وسد النهضة بعيدة، والربط بينهما قد يعتبره البعض تعسفا أو غير مقنع، غير أن قدرا من التمعن والتريث يكشف عن وجه الشبه بين الملفين، وربما يفسر أسباب تزامنهما، مع أن القضية الفلسطينية مرت عليها عقود طويلة، وسد النهضة أوشك أن يكمل عقده الأول.
وقُدّمت مقاربات على صعيد التسوية السياسية كُتب لبعضها النجاح وفشلت غالبيتها. ولم تتقدم في أي لحظة جهة دولية للوساطة بين القاهرة وأديس أبابا، والأزمة بينهما تزداد سخونة.
يكمن القاسم المشترك بين الملفين في عنصر الصدمة، وعدم وجود مقدمات كافية ومقنعة خاصة في سد النهضة. أعلنت واشنطن عزمها طرح صفقة القرن أكثر من مرة خلال العام الماضي، وضربت الإدارة الأميركية توقيتات عدة ولم تتمكن من الوفاء بأي منها، وكاد النسيان يطوي الخطة- الصفقة، ثم فوجئ العالم بالرئيس دونالد ترامب وهو يعد العدة ويكشف عن التفاصيل بلا مقدمات محددة، أو حوارات جادة مع السلطة الفلسطينية.
كذلك دخلت واشنطن، ومعها البنك الدولي، على خط الوساطة في ملف سد النهضة، والكل كان يترقب معرفة الدولة المرشحة لتقوم بدور الطرف الرابع الذي تبحث عنه القاهرة لتسهيل مهمة التفاوض بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان. وجلست الولايات المتحدة على هذا المقعد وهي مشغولة بتطييب الخواطر السياسية والتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف.
تتعامل إدارة الرئيس ترامب مع صفقة القرن بصلف زائد، حيث أعلنت بنودها دون التعاون والتنسيق مع الطرف الأساسي في القضية، وهو السلطة الفلسطينية، ولم تمهلها أو غيرها فرصة للتفكير والمناقشة والتعديل والضبط، كما هو معمول في المبادرات السياسية القابلة للحياة، في حين بذلت جهودا مضنية في اجتماعات واشنطن وما سبقها من لقاءات في كل من الخرطوم والقاهرة وأديس أبابا، لسد الفجوة بين وفود العواصم الثلاث.
تجاهلت التقديرات الفنية والقانونية المسبقة التي تثبت وقوع أضرار على مصر جراء تشييد سد النهضة، ولم تعبأ أيضا بالمنطق الذي تعتمد عليه إثيوبيا بحقها في السيادة، وبدأت نقطة ومن أول السطر. ولا تزال واشنطن تسعى لتوفيق الأوضاع، وفوتت التوقيتات المعلنة كي تكون وساطتها موضوعية ونزيهة وتدور بطريقة رضائية، عكس مبادرتها للسلام.
أولت الإدارة الأميركية اهتماما بالأجواء العامة في الثانية، ولم تعبأ بها في الأولى، كأنها أرادت إبراء الذمة أو ركل الكرة في الملعب الفلسطيني بصرف النظر عن قدرتها على دخول الشباك بسهولة، بينما لا تزال تبدي حرصا لتسجل وساطتها في سد النهضة هدفا يصعب صده ورده إليها، وإفشال دورها السياسي.
يكشف هذا الفرق مدى الجدية والهزل، الحسم والترهل، الرغبة في الفعل وتجاهل إثبات الوجود. وهذه النوعية من المتلازمات السياسية تبين طبيعة الدور الذي يريد أن يتقمصه ترامب، ويتعلق بإصراره على امتلاك أداتي الأمر والإنصات في آن واحد. فمن يستطيع الفرض والضغط والإجبار في ملف، يمكنه أن يصبح مرنا ولينا وطيعا ومستمعا جيدا في ملف آخر، ليكون منجزا ومفيدا في الحالتين. في إشارة توحي بالخصوصية، وتوحي بأن فحوى القضية- الملف يحدد طريقة التعامل الأميركي معها، بدءا من إهمال العناوين العريضة والمركزية وحتى الانهماك في التفاصيل الصغيرة، ومرورا بسلسة حافلة بالحلقات المتشابكة في أحجامها وأوزانها.
المهم أن تصل المعاني الكافية والدالة على القدرة في الحضور والتوجيه والقبض على زمام الأمور. وسواء كانت الوساطة الأميركية خشنة أم ناعمة فهي مستمرة ولن تتوقف في منتصف الطريق، وعازمة على الوصول لمبتغاها في القضية الفلسطينية وسد النهضة.
راعت التحركات على هذين المستويين، الاستنفار والتربص والترقب الذي تمارسه بعض القوى المتنافسة التي تنتظر الفرصة المواتية للانقضاض والتدخل السياسي في الملفين. وتدرك واشنطن أن روسيا لديها الاستعداد للتدخل وطرح مبادرات متوازنة تحظى بجاذبية أطراف عديدة.
وسوف تتحمل واشنطن تكاليف باهظة إذا استسلمت للـ“جنرال وقت” وتركت التطورات المتلاحقة تستقر قسريا عند موسكو التي تتطلع لتعظيم دورها الإقليمي عقب تفوقها في الأزمة السورية، واقترابها من الأزمة الليبية.
لن تتحمل واشنطن ضربة جديدة في ملف السلام في الشرق الأوسط الذي احتكرته لعقود طويلة وتملك اليد الطولى فيه تاريخيا. كما أن وساطة موسكو في ملف سد النهضة كانت ستعزز علاقاتها بالدول الثلاث المعنية به، ومن الممكن أن تصبح الأزمة مدخلا لتوسيع الدور الروسي في أفريقيا، بعد قيامها بتأكيد رغبتها لتطوير روابطها في هذا الفضاء الرحب.
حسمت شخصية ترامب الكثير من التصرفات التي اتخذت على صعيدي القضية الفلسطينية وسد النهضة. فالرجل يهوى عقد الصفقات وانتهاز الفرص، وأطلق على مبادرته للتسوية السياسية في الأولى صفقة أو فرصة القرن، ودرج على وصف دوره في الثانية بالوسيط المحايد.
وتأتي العلاقة بينهما من رحم أن الأخيرة يمكن أن تكون مفيدة للأولى، من زاوية العنصر المشترك بينهما، وهي مصر التي تحولت أزمة سد النهضة إلى مأزق كبير لها ولا تستطيع حله سياسيا أو عسكريا. ويلبي دخول واشنطن في الوقت الراهن حاجة عاجلة لدى القاهرة على أمل مساعدتها في تجاوز هذه العقبة التي يرجح أن تكون لها تداعيات على كثير من التوازنات المصرية.
إذا نجحت الإدارة الأميركية في تسهيل مهمة مصر في التوصل إلى اتفاق مرض، لن تقف الثانية في صف الممانعين لخطة السلام الجديدة. وهو ما جعل التفاهم بينهما سهلا، نظريا، في قضايا يمكن أن تتجاوز حدود هذين الملفين، لأن التعقيدات التي تكتنف الأوضاع التي يمر بها الملفان تحتاج إلى فك الكثير من الألغاز أولا.
ربما يمتلك الرئيس ترامب الفكرة الرئيسية التي دفعته لطرح صفقة القرن والقبول بالوساطة بين مصر وإثيوبيا، لكنه يفتقر حتى الآن للفعل الحقيقي الذي يمكّنه من تطبيق المخرجات، في ظل السُحب التي تخيم على القضية الفلسطينية، وتصميم قيادتها السياسية على عدم الرضوخ، والاتجاه نحو زيادة وتيرة التصعيد.
كما أن الانفراج البادي على مفاوضات السد الإثيوبي قابل للانتكاسة والانكسار، لأن السد ليس مشروعا فنيا وتنمويا فقط، بل يحظى بأهمية قومية تلتف حولها الشعوب الإثيوبية. بالتالي فالوساطة يمكن أن تواجه بعراقيل كبيرة، ويجد ترامب نفسه في مواجهة حرج بالغ وهو على بعد أشهر من انتخابات الرئاسة. وبدلا من تحقيق إنجاز يحسب له في عام الانتخابات يدخل نفقا مظلما مع اشتداد الحملة التي يشنها الحزب الديمقراطي عليه، وتصويره كقائد فاسد وصاحب أفكار معطوبة.
باتت مسألة الانتقائية في اختيار الوساطات تؤخذ على أنها دليل كاف على التردد في الانسحاب والارتباك في التعامل مع أزمات المنطقة، لأن هناك صراعات أكثر حيوية لم تتدخل فيها الولايات المتحدة، ما يعني أن دبلوماسية الخشونة والنعومة غير محكومة بضوابط سياسية.

محمد أبو الفضل

كاتب مصري

Related posts

Top