دراسة نقدية لمسطرة التأديب المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية

لاشك في أن المال العام هو المفتاح الأساسي والعملي الذي من خلاله يمكن للدولة وهيئاتها ترجمةُ المهام المسندة لها إلى واقعٍ ملموس له وقعُ على المواطنات والمواطنين وعلى تطوير مختلف بنيات المجتمع.
ولأجل الحفاظ على المال العام وترشيد استخدامه، أقر المشرع المغربي عددا من الآليات التي تصب في قناة المراقبة، حيث تأخذ الأخيرةُ ثلاثة أشكال رئيسة: سياسية وإدارية وقضائية.
ولا يكتفي المغرب اليوم بتبويء الرقابة القضائية الممارسة عن طريق المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات مرتبة المؤسسة الدستورية، بل ينيط بالمجلس الأعلى وظيفة المراقبة العليا للمالية العمومية، مع ضمان استقلاله عن جميع السلط والمؤسسات الدستورية الأخرى، وهو يمارس مهامه من خلال اختصاصات رقابية بوظائف ذات طابع قضائي أو غير قضائي.
ويعود تاريخ تأسيس المجلس الأعلى للحسابات إلى سنة 1979، حيث حل محل اللجنة الوطنية للحسابات التي كانت تابعة لوزارة المالية، وتم الارتقاء بالمجلس الأعلى للحسابات إلى مصاف الهيئات الدستورية سنة 1996، كما نص الدستور في الفصل 98 (دستور 1996) على إحداث المجالس الجهوية للحسابات.
وقد تم تتويج المقتضيات التي تضمنها دستور 1996 بخصوص الرقابة القضائية للمال العام، بإصدار القانون 62.99 المتعلق بالمحاكم المالية، الذي لا زال ساري المفعول إلى حدود اليوم، بعد أن طرأت عليه مجموعة من التعديلات آخرها كان سنة 2016.
هكذا، باتت الآن المجالس الجهوية، والمجلس الأعلى للحسابات، تشكل بالمغرب منظومة المحاكم المالية المؤطّرة بالقانون رقم 99.62 الذي دقق وظائفها بهدف إعمال ممارسة رقابية مندمجة وشاملة، حيث أن هذه الرقابة تشمل الرقابة القضائية على مدى قانونية وسلامة العمليات المالية ومدى مطابقتها للنصوص (البت في الحسابات، التسيير بحكم الواقع، والتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية)، وكذا مراقبة التدبير.
فالمجلس الأعلى للحسابات، وفق اختصاصه القضائي، يعمل في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية كمحكمة، بكل ما يستلزمه ذلك من إجراءات وضمانات وقواعد ومساطر.
وعلى اعتبار أن النقد العلمي هو دراسة الأعمال وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابِه لها، والكشف عما فيها من جوانب القوة والضعف، والجمال والقبح، ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها، فإننا سنحاول من خلال موضوعنا هذا رصد وإبراز أهم النقط التي تستدعي من المشرع التعديل أو إعادة النظر، مساهمةً في تطوير التجربة الفتية للمحاكم المالية، لا سيما في ما يتعلق بمسطرة التأديب في المادة المالية.
وسنقارب الموضوع من زاوية الإشكالية الرئيسية التالية: ما أهم تمظهرات حدود نجاعة مسطرة التأديب المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية الجاري بها العمل حاليا، وكيف يمكن تجاوزها؟

عزوز صنهاجي- محمد كريم آيت الشيخ*

المطلب الأول: حدود نطاق ولاية القضاء المالي بالمغرب

حدد المشرع، من خلال مدونة المحاكم المالية، نطاق ولاية المحاكم المالية، لكن الملاحظ أنه قد تم استثناء بعض الأشخاص والأجهزة العمومية من نطاق إمكانية المتابعة أمام المحاكم المالية، وهو الأمر الذي من شأنه التأثير على نجاعة حماية المال العام وتحصينه. لذا، سنتطرق بداية للأشخاص الذين لا يمكن أن تتم متابعتهم أمام المحاكم المالية (الفرع الأول)، ثم الانتقال بعدها للحديث عن الأجهزة العمومية غير الخاضعة لرقابة القضاء المالي في مجال التأديب (الفرع الثاني).

الفرع الأول: الأشخاص الخارجة عن نطاق ولاية القضاء
المالي بموجب مدونة المحاكم المالية

عمد المشرع الى استثناء مجموعة من الأشخاص من نطاق التأديب المالي أمام المحاكم المالية، والأمر يهم أعضاء الحكومة (الفقرة الأولى)، والعسكريين، بشكل غير مباشر، لأسباب مرتبطة بواجب كتمان السر المهني (الفقرة الثانية)، والمحاسبين والمراقبين العموميين بخصوص أفعال محددة على سبيل الحصر (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى: استثناء أعضاء الحكومة من المتابعة التأديبية أمام المحاكم المالية

حددت مدونة المحاكم الأشخاص المعنيين بمسطرة التأديب المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية، وذلك من خلال المادة 51، وحددت المخالفات في المواد: 54، 55 و56، ارتباطا بصفة هؤلاء الأشخاص ومهامهم، إلا أنه بالرغم من هذا التحديد، سواء على مستوى الأشخاص أو المخالفات، فإن نجاعة هذه المسطرة تظل غير مكتملة الفعالية، لا سيما من حيث غياب التنصيص على مجموعة من الأشخاص الذين لهم دور أساسي في حماية المال العام والتصرف فيه، وعلى رأسهم فئة الوزراء وأعضاء مجلسي النواب والمستشارين.
وإن كان الدستور واضحا في تنصيصه على أن أعضاء الحكومة مسؤولون أمام محاكم المملكة، عما يرتكبونه من جنايات وجنح، أثناء ممارستهم لمهامهم، فلا بد أن نثير السؤال حول حِكْمَةِ المشرِّع الدستوري من استثنائهم، وهم آمرون بالصرف، من الخضوع لسلطة التأديب المالي من قِبل المحاكم المالية، فطالما أن هؤلاء المسؤولون السامون ليسوا فوق الدستور، فيمكن اقتراح تمديد نطاق ولاية التأديب المالي بالنسبة للمحاكم المالية حتى يطال جميع من له علاقة بتدبير المال العمومي.
هذا مع العلم أن البعض يرى أن القانون بإلزامه نشر التقرير السنوي للمحاكم المالية وتعميم خلاصات وأعمال وتقارير المحاكم المالية على الجمهور، لّيُعد أسلوبا كافيا ومتلائما مع المعايير العالمية للرقابة والمحاسبة والتدقيق، وأن من شأن ذلك تكريس ثقافة الحكامة الرشيدة والشفافية والمحاسبة والمساءلة، ودفع المسؤولين العموميين إلى اليقظة في تدبير الشأن العام اتقاء لعواقب المساءلة الشعبية والانتخابية والمسؤولية السياسية.
وللِإشارة هنا، فقد كانت محكمة العدل الخاصة منذ سنة 1972 منوطة بها مهام النظر في الجرائم التي يرتكبها أعضاء الحكومة وحذفت بموجب الفصل 94 من الدستور انسجاما مع مبدأ المساواة أمام القانون، وتم إلغاؤها بموجب القانون 79.03 وإلغاء مختلف المحاكم الاستثنائية ما عدا المحكمة العسكرية، لتنقل وتسند الملفات التي كانت تتكفل بها المحكمة المذكورة إلى غرف الجنايات لدى محاكم الاستئناف، باعتبارها غرفا مختصة بالنظر في جرائم المال العام، فأقسام الجرائم المالية بمحكمة الاستئناف أُحدثت لتبت في القضايا المتعلقة بجرائم الغدر، الرشوة، استغال النفوذ، والاختلاسات المقترفة من طرف الموظفين العموميين المنصوص عليها في القانون الجنائي، وتطبق أمام هذه الغرف بخصوص الجرائم المذكورة أحكام قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي.
وفي ما يلي: عدد محاكم الاستئناف المحدثة بها أقسام للجرائم المالية وتعيين دوائر نفوذها:

لكن حتى لا يخيل للمهتــم بموضوع القضاء المالي، أن حالة استثناء أعضاء الحكومة من نطاق التأديب المالي، حالة خاصة يعرفها المغرب فقط، لابد أن نشير إلى أن معظم التشريعات تستثني أعضاء الحكومة من نطاق التأديب المالي، ومثال ذلك ما سار عليه المشرع الفرنسي، حيث استثنى من نطاق المتابعة أمام محكمة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، أعضاء الحكومة.
ونفس المقاربة سار عليها المشرع التونسي، فدائرة الزجر المالي بتونس (تابعة لدائرة المحاسبة)، والتي تعتبر محكمة لها صلاحية محاكمة مرتكبي أخطاء التصرف، قد استثنى المشرع من نطاق المتابعة أمامها، الأشخاص المباشرِين لوظائف سياسية، ومنهم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين والوزير الأول والوزراء وكتاب الدولة بصفتهم آمرين بصرف نفقات الدولة.

الفقرة الثانية: صعوبة متابعة الأشخاص المنتمين إلى فئة العسكريين

بالإضافة إلى أعضاء الحكومة، نجد أن المشرع، عند تحديده لفئة الأشخاص التي يمكن متابعتها أمام المحاكم المالية، عمد إلى استخدام عبارات عامة تدل على إمكانية متابعة جميع الأشخاص المرتكبين للمخالفات الواردة في مدونة المحاكم المالية، بغض النظر عن الفئة التي ينتمون إليها، سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين، مما يفترض معه أنه يسمح للمجلس بتأديب المنتمين إلى كلتا الفئتين بمناسبة ارتكابهم لإحدى المخالفات الواردة في المواد 54 أو 55 أو 56 من مدونة المحاكم المالية.
لكن نطرح سؤالا حول كيف يمكن للمحكمة المالية أن تباشر مسطرة التأديب التي من اللازم أن تمر عبر مرحلة التحقيق، التي يقودها المستشار المقرر، وذلك أمام المقتضى القانوني الذي يؤكد على أنه لا يمكن للمستشار المقرر أن يلزم الأشخاص أو الشهود الذين يجري معهم التحقيق، برفع واجب كتمان السر المهني، إذا ما تعلق موضوع التحقيق بوقائع لها علاقة بالدفاع الوطني أو الأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، خاصة وأن رفع أو إبقاء السر المهني يظل رهينا بالقرار المتخذ من قبل رئيس الحكومة، مما قد يشكل عائقا أمام تحريات المحاكم المالية.
ومن أجل تجاوز هذا الإشكال الخاص بترخيص المؤسسة التنفيذية من عدمه في شأن السر المهني المتعلق بالبعد الأمني والعسكري، عمل المشرع الفرنسي على التنصيص صراحة على أنه يخضع لرقابة محاكم التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، جميع الموظفين والأعوان العاملين بمرافق الدولة، سواء أكانوا عسكريين أم مدنين.
وتجدر الاشارة إلى أن المشرع الفرنسي قد تعامل بطريقة خاصة مع موضوع التأديب في المادة المالية، حيث نجد ضمن المؤسسات التابعة لمحكمة الحسابات بفرنسا، محكمة التأديب المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية، التي تم تأسيسها سنة 1948، وأُلحقت بمجرد تأسيسها بمحكمة الحسابات الفرنسية، وهي محكمة إدارية متخصصة، توقع الجزاء على المدبرين العموميين عند مخالفة القواعد المنظمة للمالية العامة.

الفقرة الثالثة: استثناء المراقبين والمحاسبين من نطاق الأشخاص الملزمة بإرجاع الأموال في حال تسببهم في خسارة لجهاز عمومي

قدم المشرع استثناء لفائدة المراقبين أو المحاسبين، والأمر يهم هنا ما ورد ضمن المادة 55 من المدونة والتي جاء فيها أن المراقبين أو المحاسبين العموميين إذا تعلق الأمر بأعمال المراقبة التي عليهم القيام بها على قرارات الالتزام بالنفقات، لا يخضعون لمقتضيات الفقرة الثالثة من المادة 66 المتعلقة بإرجاع المبالغ المطابقة للخسارة إلى فائدة هذا الجهاز من رأسمال وفوائد، كما أن المحاسب العمومي الذي حكم عليه بالعجز لا يمكن متابعته لنفس الأسباب في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، ولا تطبق عليه مقتضيات الفقرة الثالثة من المادة 66.
وملاحظتنا هنا تنصب على أن هذه الاستثناءات التي ترد بشكل مطلق، كان من الأفضل تنسيبها، فالمراقب أو المحاسب المالي حين أناط به القانون مسؤولية مراقبة قرارات الالتزام بالنفقات، فلا بد، في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، أن يقتسم العقوبة المالية مع الآمر بالصرف باعتباره صاحب المخالفة الأصلي، واعتبار المراقب الذي قصر في المراقبة مساهما في المخالفة أو مشاركا فيها.
كما أن المحاسب العمومي الذي حكم عليه بالعجز يطالب فقط بإرجاع مبلغ الفرق أو العجز، في الوقت الذي يمكن للمرفق العمومي المعني أن يكون تكبد خسارة معتبرة جراء عدم توظيف مبلغ العجز الذي كان بحوزته، بالقوة أو بالفعل، ما بين لحظة حصول المخالفة ولحظة إصدار القرار أو الحكم.
ونحن إن كنا نستوعب إرادة المشرع عدم إثقال كاهل المحاسب العمومي بإجراءات وعقوبات تفوق طاقته وتتخطى حسن نيته وتحد من الإقبال على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة، فإننا بالمقابل، ومن باب الحرص على حفظ المال العام وحرمته، نقترح أن لا يتم تجاوز ضرورة تعويض المرفق العام عن الخسارات التي يتكبدها بسبب أخطاء أو مخالفات المحاسبين العموميين، والتي يمكن في بعض المؤسسات العمومية أن تقدر بملايين الدراهم، ولما لا التفكير في إحداث صندوق للتأمين ضد أخطاء المحاسبة العمومية، تساهم فيه الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، ويكون تحت سلطة وقرار المحاكم المالية.

 

الفرع الثاني: الأجهزة الخارجة عن ولاية القضاء المالي في مادة التأديب المالي

سنتطرق هنا لنموذج الهيئات المستقلة الواردة في الدستور، والتي تعتبر خارجة عن نطاق ولاية القضاء المالي بموجب مدونة المحاكم المالية على عكس النصوص الخاصة التي تحكم عملها (الفقرة الأولى)، إضافة لأجهزة الضمان الاجتماعي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: استثناء الهيئات المستقلة بموجب مدونة المحاكم المالية من نطاق مادة التأديب لمالي

من مظاهر حدود النص الحالي المنظم للعمل المحاكم المالية، إغفال إدراج الهيئات المستقلة (خاصة الواردة في الدستور)، ضمن الأجهزة الخاضعة لاختصاص القضائي للمحاكم المالية في مجال التأديب المالي، وهذا يعتبر قصورا كان بالإمكان تجاوزه عند إجراء التعديل الأخير على مدونة المحاكم المالية.
فما يزيد من أهمية الهيئات المستقلة هو التنصيص الصريح ضمن القوانين التي تحكم عملها، على خضوع ميزانياتها لرقابة المجلس الأعلى للحسابات، دون أن تتضمن مدونة المحاكم المالية ما يفيد اندراج الهيئات المستقلة ضمن نطاق ولاية المحاكم المالية، فمثلا القانون المنظم لعمل الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري نص على أن الميزانية الخاصة بالهيئة خاضعة لرقابة المجلس الأعلى للحسابات، إذْ مادامت هذه الميزانية خاضعة لرقابة المجلس الأعلى للحسابات، فالمنطق يذهب إلى القول إنه من المفروض على الأشخاص الذين ينفذون الميزانية، أن يخضعوا هم الآخرون للتأديب المالي، عند ارتكابهم لإحدى المخالفات الواردة في مدونة المحاكم المالية.
قد يجيب البعض بأن هذه الهيئات المستقلة، يجوز إدراجها ضمن صنف من أصناف الأجهزة المحدد بموجب المادة 51 و118 من مدونة المحاكم المالية، ولكن العكس هو ما ذهب إليه القضاء الدستوري بالمغرب، وذلك من خلال قرار المجلس الدستوري سنة 2012 الذي جاء فيه “… إن المؤسسات والهيئات المذكورة في الفصول 161 إلى 171 من الدستور، ومع مراعاة الطابع الاستشاري لتلك المذكورة في الفصول 163، 164، 168، 169، 170، تعد مؤسسات وهيئات مستقلة، إما بحكم ما ينص عليه الفصل 159 من الدستور من أنه: تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة، وإما بموجب الفصول الدستورية الخاصة بها، مما يجعلها لا تخضع لا لسلطة رئاسية لوزير معين ولا لوصايته…”.
وقد أضاف نفس القرار أن هذه المؤسسات والهيئات ليست إدارة ولا مؤسسة أو مقاولة عمومية، ولا تخضع بالتالي لا للسلطة الرئاسية ولا لوصاية وزير معين.
وما تجب الإشارة إليه كذلك أن القوانين الخاصة بالهيئات المستقلة، لم تكن تتضمن ضمن مقتضياتها ما يفيد خضوع ميزانياتها لرقابة القضاء المالي، ولكن تم تدارك ذلك، حيث مثلا نجد القانون 76.15 الجديد المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مادته 60 ينص على أن تنفيذ ميزانية المجلس يخضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات، وهو الأمر الذي لم يكن واردا في قانون إحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كما هو الشأن أيضا بالنسبة للمحكمة الدستورية.
هذا التدارك لم يتم الأخذ به من طرف المشرع عند تعديل مدونة المحاكم المالية، خاصة وأن المشرع كان بإمكانه إدراج هذه الهيئات بصريح العبارة ضمن الأجهزة الخاضعة لرقابته القضائية، وذلك بموجب التعديل الذي طرأ على المدونة سنة 2016، حيث أن الموقف الذي تبناه القضاء الدستوري بخصوص الهيئات المستقلة كان سابقا لتعديل مدونة المحاكم المالية، إضافة لما تضمنته القوانين الخاصة بهذه الهيئات من التنصيص الصريح على خضوع الميزانيات الخاصة بها لرقابة المجلس الأعلى للحسابات، وذلك قبل تعديل مدونة المحاكم المالية.

الفقرة الثانية: استثناء أجهزة الضمان الاجتماعي من نطاق مادة التأديب لمالي

الملاحظ أيضا في البناء القانوني لمدونة المحاكم المالية أن مهام مراقبة التسيير المنصبة، حسب المادة 76 منها، على مرافق الدولة، المؤسسات العمومية، المقاولات المخولة للامتياز في مرفق عام أو المعهود إليها بتسييره، باستثناء تلك التي تخضع لرقابة المجالس الجهوية، الشركات والمقاولات التي تملك فيها الدولة أو مؤسسات عمومية على انفراد أو بصفة مشتركة بشكل مباشر أو غير مباشر أغلبية الأسهم في الرأسمال أو سلطة مرجحة في اتخاذ القرار، الشركات والمقاولات التي تملك فيها الدولة أو مؤسسات عمومية بصفة مشتركة مع الجماعات المحلية أغلبية الأسهم في رأسمال أو سلطة مرجحة في اتخاذ القرار، أجهزة الضمان الاجتماعي كيفما كان شكلها، التي تتلقى من أحد الأجهزة المنصوص عليها في الفقرات أعلاه مساعدات مالية في شكل مساهمات من أرباب العمل أو في شكل إعانات.
ومهام رقابة التسيير هذه، حسب منطوق المادة 84 يمكن أن تفضي إلى مباشرة مسطرة التأديب المالي، منتقلين بذلك من مراقبة غير قضائية إلى مراقبة قضائية منصبة على مادة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية.
والسؤال الذي يفرض ذاته هنا هو: لماذا لم يتحدث المشرع في المدونة عن شمول الأجهزة الخاضعة للرقابة القضائية المباشرة في مادة التأديب المالي أجهزة الضمان الاجتماعي، وهي التي تتلقى إعانات ومساهمات من الدولة؟
المطلب الثاني: المسطرة التأديبية وعوائق تحقيق متطلبات الفعالية في حماية المال العام

سنحاول في هذا المطلب رصد بعض مظاهر قصور مسطرة التأديب، سواء على مستوى رفع الدعوى والتحقيق (الفرع الأول)، أو على صعيد سلطات الردع التي يتمتع بها القضاء المالي بالمغرب، والتي تأخذ شكل غرامات مالية أو إرجاع المبالغ المطابقة التي لحقت الجهاز العمومي المعني (الفرع الثاني).

الفرع الأول: المعيقات المرتبطة بتحريك مسطرة المتابعة

سنحدد هنا بعض الإشكالات القانونية المرتبطة برفع القضية إلى أنظار المجلس الأعلى (الفقرة الأولى)، وكذلك بعض الإشكالات التي تواجه المستشار المقرر أثناء إجراء عملية التحري والتحقيق (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الهيئات المستقلة وسؤال إمكانية رفع الدعوى على أنظار القضاء المالي

حينما قام المشرع بتحديد الجهات المؤهلة لرفع القضايا أمام أنظار المحاكم المالية، ميز بين الإحالة الداخلية، والإحالة الخارجية، والأمر الذي يهمنا هنا هو الاحالة الخارجية.
فالمشرع من خلال التعديل الذي أُدخل على مقتضيات مدونة المحاكم المالية، كان لزاما عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الوضعية الخاصة للهيئات المستقلة، خاصة الواردة في الدستور، وهي هيئات، كما بينا سابقا، ليست بمثابة إدارة ولا مؤسسة أو مقاولة عمومية، ولا تخضع بالتالي لا للسلطة الرئاسية ولا لوصاية وزير معين، لكي يقوم مقام الهيئة المستقلة من أجل رفع الدعوى، عند تبوث وجود خروقات تدخل في خانة المخالفات الواردة في مدونة المحاكم المالية.
وبالتالي كان من الواجب، في تقديرنا، إدراج رؤساء الهيئات المستقلة، ضمن فئة الأشخاص المؤهلين لرفع القضايا إلى أنظار المحاكم المالية، ما دامت القوانين الخاصة لهذه الهيئات قد نصت صراحة على خضوع ميزانياتها لرقابة المحاكم المالية.

الفقرة الثانية: المستشار المقرر وتحديات نجاعة التحقيق

على اعتبار أن تعيين المستشار المقرر يتم بملتمس من النيابة العامة، لا بد بداية من الإشارة إلى أن جهاز النيابة العامة بالمحاكم المالية، تظل صلاحياته محصورة في مراقبة التقارير، والرجوع إلى المجلس من أجل تعيين المستشار المقرر بقرار للرئيس، دون أن تتوفر النيابة العامة على أجهزة تابعة لها للقيام بالبحث على غرار الضابطة القضائية كما هو الحال بالمحاكم العادية.
هذه الأمور تساهم بطريقة أو أخرى في محدودية التحقيق الذي يجريه المستشار المقرر، وهو الأمر الذي سنعمل على توضيحه.
منح المشرع للمستشار المقرر صلاحيات تساعده أثناء مرحلة التحقيق على تنفيذ المهمة التي عين من أجلها، ورغم ما منحه المشرع من صلاحيات أثناء التحقيق، فعمله يواجه بمجموعة من التحديات.
والبداية مع إشكالية تمسك الطرف الذي يتم التحقيق معه، أو الشهود بواجب كتمان السر المهني، حيث لا يمكن للمستشار المقرر أن يطالبهم برفع السر المهني إذا تعلقت الوقائع التي يحقق فيها بالدفاع الوطني أو الأمن الداخلي أو الخارجي، إلا باتباع مسطرة خاصة يبدو تعقيدها مفهوما، حيث يتم رفع الأمر إلى الرئيس الأول للمجلس الأعلى، والذي يخبر بدوره رئيس الحكومة، وهذا الأخير هو من يمتلك السلطة التقديرية في رفع السر المهني من عدمه، فإذا لم يتفاعل رئيس الحكومة بشكل إيجابي مع إخبار رئيس المجلس، فلا يمكن بموجب ذلك للمستشار المقرر أن يطالب الشخص الذي يحقق معه، أو الشهود، برفع السر المهني، وبالتالي يمكن تضييع فرصة الحصول على معلومات قد تفيد في البحث الذي كلف المستشار المقرر بإنجازه.
ومن مظاهر حدود عمل المستشار المقرر كذلك: السلطات التي يتمتع بها من أجل الاستماع للمعني بالأمر أو الشهود، ففي حالة التعامل بشكل سلبي مع مطالب المستشار المقرر، فالجزاء هو غرامة مالية هزيلة تحدد في مبلغ 500 إلى 2000 درهم، حيث في ظل ذلك قد يفضل المعني بالأمر عدم الحضور أو عدم الإدلاء بالأجوبة، أو الامتناع عن أداء الشهادة، أو أداء اليمين، مقابل أداء هذه الغرامة.
فإذ أخذنا الصلاحيات التي يتمتع بها قاضي التحقيق في المجال الجنائي، وقارناها بالصلاحيات التي يتمتع بها المستشار المقرر، سيظهر لنا بشكل واضح مكامن الضعف والمحدودية على مستوى عمل المستشار المقرر.
ولعل استدعاء الشهود، يوضح بجلاء الصلاحيات الواسعة لقاضي التحقيق، بنظيره المستشار المقرر، على مستوى المحاكم المالية، فعند عدم حضور الشهود بعد توجيه استدعاء ثان (بواسطة رسالة مع الإشعار بالتسلم، أو الاستدعاء بصفة قانونية…) يمكن لقاضي التحقيق، بناء على ملتمسات النيابة العامة، أن يجبر الشهود على الحضور بواسطة القوة العمومية، وأداء غرامة تتراوح بين 1200 و12.000 درهم.
فعلى الرغم من أن الأمور التي يتدخل فيها قاضي التحقيق لا تدخل ضمن المادة الجنائية، إنما لا يوجد ما يمنع من اقتباس هذه الصلاحيات ونقلها لفائدة المستشار المقرر بالمحاكم المالية، تيسيرا لمهمته أثناء التحقيق.

الفرع الثاني: سلطة توقيع العقاب  وضمانات المحاكمة العادلة

سنحدد في هذا المستوى أبرز مظاهر القصور المرتبطة بسلطة الردع التي يتمتع بها القضاء المالي بالمغرب، والتي تأخذ شكل غرامات (الفقرة الأولى)، وبعد ذلك سننتقل إلى رصد بعض الإشكالات المرتبطة بعمل المحاكم المالية والتي من شأنها أن تؤثر على ضمانات المحاكمة العادلة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: العقوبات ومطلب حماية المال العام

سلطة الردع التي يتوفر عليها القضاء المالي بالمغرب، تتمثل بشكل أساسي في الغرامات الصادرة في حق مرتكبي المخالفات، والملاحظ أن المشرع عند تحديده للمخالفات ركز على عنصر الارتكاب، وبالتالي مساءلة مرتكب المخالفة عن ما اقترف من فعل مخالف للقانون، وذلك على عكس ما سار عليه المشرع القطري مثلا، حيث يعمل ديوان المحاسبة بدولة قطر على مساءلة مرتكب المخالفة، والمساهم، والشخص الذي سهل وقوع المخالفة، والشخص كذلك الذي تستر على مرتكب المخالفة، وبالتالي لا يجب فقط الوقوف عند مرتكب المخالفة، بل يجب توسيع نطاق المسؤولية، حتى يتحقق مطلب حماية المال العام بشكل أفضل.
والملاحظ كذلك أن المشرع قد ربط في أغلب الأحيان قيام مسؤولية الأشخاص المتابعين في إطار التأديب المالي، بعدم احترام النصوص القانونية، وذلك على عكس التجارب المقارنة التي فتحت آفاق المتابعة التأديبية على منافذ أخرى لا تقتصر فقط على عدم احترام النصوص القانونية، ومثال ذلك ما جاء في قانون ديوان المحاسبة الإماراتي: تعتبر مخالفة مالية الارتباط بنفقة غير ضرورية لا تقتضيها المصلحة العامة، فلو أخذ المشرع المغربي بهذا المعطى، وأدرجه ضمن الحالات التي تستوجب المساءلة لارتفعت حالات المتابعة بشكل ملحوظ، وتحقق بالتالي مبتغى حماية المال العام بشكل أفضل، فصرف المال العام مقترن بتحقيق المصلحة العامة، فالقضاء المالي بالمغرب لا يجب أن يقف فقط عند مراقبة مشروعية الإنفاق بل البحث كذلك في مدى تحقيق هذا الإنفاق للمصلحة العامة.
والملاحظ كذلك أن المشرع قد تعامل بعمومية عند تحديده لمبلغ العقوبات عند ارتكاب إحدى المخالفات الواردة في المواد 54 و55 و56 من مدونة المحاكم المالية، وكان من الأفضل أن يتم التعامل بنفس الطريقة التي سلكها المشرع الفرنسي عند تحديده لمبلغ العقوبات، حيث عند تطرقه لكل مخالفة حدد المبلغ المطابق لها، ومثال ذلك تحديد مبلغ مخالفة قواعد الالتزام بالنفقات في مبلغ 150 أورو، وذلك كحد أدنى للعقوبة، وكحد أقصى لا يمكن أن يتجاوز مبلغ الأجرة السنوية لمرتكب المخالفة.
وتبقى الصيغة الحالية لهذه العقوبات تثير أكثر من تساؤل وأكثر من انتقاد في الأوساط الفقهية والقانونية، حيث أنها لا تتناسب ووزن وحجم المخالفات المرتكبة من طرف المعنيين بالمراقبة، فكيف يعقل أن يتسبب محاسب عمومي في ضياع ملايين الدراهم مثلا ويسبب بذلك خسارة مالية فادحة تكون لها انعكاسات خطيرة ووخيمة على سير المرفق العمومي ومساسا بمصالح المستفيدين منه، وأن يحكم عليه فقط بغرامات مالية هزيلة.
ما يؤكد ضعف الصيغة الحالية للعقوبات من حيث قيمة الغرامات المحكوم بها، الدراسة التي أنجزناها، من خلال الاعتماد على القرارات الصادرة عن غرفة التأديب المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية سنة 2017، حيث تبين لنا من خلال البحث أنه تم إصدار 34 قرارا في مادة التأديب المالية موزعة على الشكل التالي:

وقد بلغ مجموع الغرامات المحكوم بها نتيجة لثبوت قيام مسؤولية الأشخاص المتابعين من قبل المجلس الأعلى للحسابات خلال سنة 2017 ما مجموعه 413.500 درهما، وهذا الرقم يبدوا لنا ضعيفا إذا ما تمت مقارنته بحجم الموارد المرصودة للمحاكم المالية بموجب قوانين المالية السنوية، فخلال سنة 2017 بالضبط رصد للمحاكم المالية بموجب مشروع قانون المالية مبلغ 320.398.000 درهما كاعتمادات للأداء، و10.000.000 كاعتمادات للالتزام، وقد احتلت النفقات المرصود للموظفين والأعوان العاملين بالمحاكم المالية الصدارة من حيث الحجم، من خلال تخصيص مبلغ 238.198.000 درهما، هذا الرقم يشكل %74.34 من مجموع موارد المحاكم المالية.
فإذ ما أخذنا قيمة المبالغ المخصصة لتغطية نفقات الموظفين وأعوان المحاكم المالية، وقارناها بقيمة مبالغ الغرامات المحكوم بها في إطار ممارسة المجلس الأعلى للحسابات لمهامه القضائية في مجال التأديب المالي، سنقف على حقيقة مفادها أن الغرامات المحكوم بها لا تشكل سوى %0.17 من مجموع النفقات المخصصة لموظفي وأعوان المحاكم المالية، وهو ما يطرح بجدية إشكالية كلفة الرقابة القضائية عموما، ومسطرة التأديب المالي خصوصا، ومردوديتها المالية، علما أن الغاية الأسمى من إحداث المحاكم المالية هي الحفاظ على المال العام وترشيد وحكامة استعماله بالدرجة الأولى.
وبالإضافة إلى إشكالية هزالة مبلغ الغرامات، يطرح إشكال قانوني وعملي لا يهم فقط عمل المحاكم المالية، بل جميع أنواع المحاكم بالمغرب، والأمر يتعلق بإشكالية ضعف تحصيل الغرامات بسبب غموض الإطار القانوني والمحاسبي المنظم لعملية تحصيل الغرامات، أو لغياب التنسيق بين المصالح المعنية بالتحصيل.
هذه الأمور تمت الإشارة إليها بالتفصيل من خلال المذكرة الاستعجالية الصادرة عن الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، وسنبين أهم النقط التي تمت إثارتها في الوثيقة المذكورة.
فقد أوكل المشرع من خلال مدونة تحصيل الديون العمومية، عملية تحصيل الغرامات والإدانات النقدية والصوائر والمصاريف القضائية للمحاسبين التابعين لوزارة الاقتصاد والمالية، وكتابات الضبط بمحاكم المملكة.
والواضح أن المشرع جعل مسؤولية تحصيل الغرامات تقع بشكل ازدواجي على عاتق مأموري كتابة الضبط، ومحاسبي المملكة، لكن دون تحديد مسؤولية كل طرف، مما ينعكس على فعالية التحصيل.
وتؤدي الازدواجية في تدبير التحصيل إلى الاتكالية وعدم اتخاذ المبادرات، مما يجعل من الصعب تحديد المسؤوليات في هذا المجال.
ومن الإشكالات كذلك التي تصاحب عملية تحصيل الغرامات، ممارسة كاتب الضبط لمهام الآمر بالصرف، وبمهام المحاسب العمومي، وذلك راجع لكون المشرع قد اعتبر كتاب الضبط محاسبين عموميين، عند القيام بإجراءات تحصيل الغرامات والإدانات والمصاريف القضائية، حيث يوقع كاتب الضبط إلى جانب رئيس هيئة الحكم، ويقوم بتبليغ الحكم، ثم تحرير وتوقيع مستخرج الحكم أو القرار القضائي الذي يعتبر السند التنفيذي للغرامة والإدانة النقدية والصوائر والمصاريف القضائية، ثم يقوم كاتب الضبط بعملية التكفل بالغرامات قبل إعداد الملفات التنفيذية، والقيام بإجراءات التحصيل بصفته محاسبا عموميا.
وبموجب قيام كاتب الضبط بالإجراءات السالفة الذكر، من صدور الحكم إلى غاية التكفل بالغرامات، فإنه يمارس مهام من صميم عمل الآمر بالصرف، ويكون بذلك قد جمع بين مهام الآمر بالصرف والمحاسب العمومي ويشكل ذلك مخالفة لأحكام الفصل 4 من مرسوم المحاسبة العمومية، التي تنص على عدم إمكانية الجمع بين مهام الآمر بالصرف ومهام المحاسب العمومي.
فعملية التكفل بالغرامات والإدانات النقدية والصوائر والمصاريف القضائية، تدخل في إطار الإجراءات المحاسبية التي هي من اختصاص المحاسبين العموميين، ويفترض أن يقوم الآمر بالصرف بمسك قاعدة معطيات الأحكام، ووضع آلية مراقبة كتابة الضبط في مجال التحصيل.
ومن الإشكالات أيضا التي تطرح على المستوى العملي، عند تحصيل الغرامات والإدانات النقدية والصوائر والمصاريف القضائية، عدم تطبيق جزاءات التأخير إذا لم يتم الأداء داخل أجل 30 يوما من تاريخ تبليغ الأحكام والقرارات المتعلقة بها، وقد حدد المشرع مقدار جزاء التأخير بـ 0.50% عن كل شهر أو جزء شهر إضافي.
ويضاف إلى الإشكالات السابقة، إشكال التقادم، فقد نصت المدونة في المادة 107 على أنه تتقادم المخـالفات إذا لم يتم اكتشافها من طرف المجـلس أو كل سلطة مخـتصة، داخـل أجـل خمس سنوات كـاملة يبتدئ احتسابه من التاريخ الذي يكـون قد ارتكبت فيه، وعلى أنه: يدقق المجلس ويبت بقرار تمهيدي فـي الحسابات قبل انصرام أجـل خمس سنوات يبتدئ من تقديم الحساب إلى المجـلس.
وفي اعتقادنا، فإن أجل 5 سنوات للتقادم في مخالفات تهم المال العام، هو مدة قصيرة، مقارنة مع فلسفة وغاية الحفاظ على المال العام أينما كان ووقتما جرى التصرف فيه، وكان من الأجدر جعلها 10 سنوات على الأقل، أو أن يكون المرجع الزمني ليس هو لحظة ارتكاب المخالفة وإنما هو لحظة نهاية تنفيذ العملية أو المشروع أو الميزانية المعنية.
وقد قدم المشرع بدولة الإمارات العربية المتحدة حلا لتجاوز الإشكالات المرتبطة بتقادم المخالفات، وحدد الحالات التي تؤدي لقطع مدة التقادم، من خلال إجراءات التحقيق أو الاتهام أو المحاكمة، التي تؤدي إلى إعادة احتساب المدة من جديد، ابتداء من تاريخ آخر إجراء. وإذا تعدد المخالفون، فإن انقطاع المدة بالنسبة إلى أحدهم يترتب عليه انقطاعها بالنسبة إلى الباقين ولو لم تكن قد اتخذت ضدهم إجراءات قاطعة وتنقضي الدعوى في جميع الأحوال بوفاة المتابع.
فما يميز التجربة الإمارتية هو كون المشرع قد نوع الحالات التي تؤدي إلى قطع التقادم، وجعل التقادم من الناحية العملية لا يسقط إلا في حال وفاة المتابع، ففي حالة إجراء تحقيق سنة 2018 ولم يتم اكتشاف مخالفات وقعت سنة 2013 مثلا، فإن هذه المخالفات لن تسقط بالتقادم، إلا بمرور 5 سنوات ما بعد عملية إجراء التحقيق، أي بعد 2018، وليس بعد 2013 كما يمكن أن يحدث في المغرب.
وقبل الانتقال إلى موضوع القضاء المالي وسؤال ضمانات المحاكمة العادلة، لابد من إثارة إشكالية قانونية، تؤدي إلى تعطيل سلطة المحاكم المالية في توقيع العقاب، وبالتالي على استقلاليتها، فكيف يعقل أن تثبت هيئة الحكم، وتقر قيام مسؤولية الآمر بالصرف أو المحاسب العمومي المتابع، وفي المقابل يمنح المشرع لهؤلاء الأشخاص إمكانية تقديم طلب لإبراء ذمتهم على وجه الإحسان من المبالغ المستحقة عليهم بالنظر لوضعيتهم المالية، أليس هذا ضياع لمجهود المحاكم المالية، وضياع كذلك للمال العام، خاصة وأن الهيئة التي ينتمي إليها الشخص المتابع هي من تتحمل في نهاية الأمر المبالغ المخصصة لإبراء الذمة على وجه الإحسان.
ونشير إلى أننا قد فضلنا التطرق لإشكالية إبراء الذمة على وجه الإحسان، عوض الإعفاء من المسؤولية، لكون هذه الأخيرة أساس قيامها القوة القاهرة، والمشرع توخى منها حماية مصالح الشخص المتابع لأنه لم يكن يملك القرار بيده لتجنب الوقوع في الخطأ المؤدي للقيام المسؤولية.

الفقرة الثانية: القضاء المالي وسؤال  ضمانات المحاكمة العادلة

من المعروف أن الدستور المغربي نص على عدد من الحقوق التي يتمتع بها المتقاضون، كالحق في المحاكمة العادلة، وحق الدفاع، وحق البت في أجل معقول، والبراءة حتى ثبوت الإدانة، فضلا على أن التقاضي يكون مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي.
وهو الأمر الذي يدفعنا، باستحضار روح الدستور ومبادئ المحاكمة العادلة، إلى إثارة إشكالية المساعدة القضائية التي لا تثيرها المدونة كإجراء مسطري ممكن، سواء تلقائيا أو بناء على طلب المعني بالأمر، خاصة وأن قضايا التأديب المالي تتطلب دفاعا مختصا وخبيرا بالقضايا الإدارية والمالية، وهو ما يجعل من الدفاع في الغالب باهظ الكلفة وصعب الولوج لاسيما بالنسبة لصغار الموظفين والأعوان الذين لا تتناسب تعويضاتهم ورواتبهم مع حجم وجسامة المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، كما هو الشأن بالنسبة لعدد من المحاسبين والمراقبين العموميين.
وهو ما يدفعنا لاقتراح إدراج إمكانية اللجوء إلى المساعدة القضائية، ووضع معايير عامة للاستفادة من هذا المبدأ في صلب مسطرة التأديب المالي، بالمدونة.
ومن الإشكالات التي تمس بضمانات المحاكمة العادلة، ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 64 من مدونة المحاكم المالية التي نصت على “…ويتم التداول في الهيئة، ويشارك المستشار المقرر في المداولات بصوت تقريري، ويتخذ القرار بأغلبية الأصوات…”.
حيث الملاحظ هنا أن المشرع لم يميز بين وظيفة التحقيق ووظيفة المداولة، فتماثل هيئة التحقيق بالمجلس مع الهيئة التداولية قد يمس ببعض مبادئ المحاكمة العادلة، الأمر الذي يشكل مخالفة للقاعدة القانونية القاضية بفصل قضاة التحقيق عن قضاء الحكم والتنفيذ، لذا يجب الأخذ بمعطى التمييز بين هيئة الحكم، وهيئة التحقيق حتى يتم احترام مبادئ المحاكمة العادلة.
وتحقيقا لمطلب المحاكمة العادلة، أيضا، أدخل المشرع الفرنسي تعديلات جوهرية على المسطرة المتبعة أمام محكمة الحسابات، وذلك من خلال الفصل بين وظائف المتابعة والتحقيق والحكم.
ومن الأسئلة الهامة التي يجب طرحها بخصوص هيئة الحكم، وكافة قضاة المحاكم المالية: ألا يمكن أن يقع تنازع للمصالح، ويؤثر ذلك على ضمانات المحاكمة العادلة، الجواب عن سؤال تنازع المصالح نجده ضمن ما أشار له المشرع من خلال المادة 183 من مدونة المحاكم المالية “يمنع على كل قاض ينتمي إلى المحـاكم المالية أن تكون له شخصيا أو بواسطة الغير تحت أي اسم كان، مصالح في جهاز تجري عليه رقابة المحاكم المالية”.
وما يلاحظ هنا أن المشرع لم يقم بالتدقيق في نوعية هذه المصالح، أو الإحالة على قانون المسطرة الجنائية أو المدنية التي تحدد حالات تنازع المصالح، والتي تسمح بتجريح القضاة.
ويتحقق تنازع المصالح مثلا عند قيام قاضي بالنظر في قضية أحد أطرافها من أقاربه، وبالتالي يتحقق تعارض مع مقتضيات العدالة ومبدأ الحياد الذي يجب أن يلتزم به.
وقد حددت قواعد المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية، الحالات التي تسمح بتجريح القضاة، وذلك عندما يكون هناك تعارض بين مصالح القاضي ومصالح أحد أطراف الخصومة.
فالقواعد المتعلقة بتجريح القضاة محدد بموجب المواد 277 إلى 285 من قانون المسطرة المدنية، والمواد 295 إلى 299 من قانون المسطرة الجنائية، حيث يجوز طلب التجريح في الحالات المدققة والمفصلة التالية:
> اذا كان للقاضي أو لزوجه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الدعوى؛
> إذا كان للقاضي أو لزوجه قرابة أو مصاهرة مع أحد الأطراف بما فيها أبناء الأعمام والأخوال؛
> إذا كان بين أحد الأطراف والقاضي أو زوجه أو أصولهما أو فروعهما دعوى لا تزال جارية أو انتهت منذ أقل من سنتين؛
> إذا كان القاضي دائنا أو مدينا لأحد الأطراف؛
> إذا كان قد سبق للقاضي وأن قدم استشارة أو رافع أو مثل أحد أمام القضاء في النزاع أو نظر فيه كحكم أو أدلى بشهادة أو بت فيه في الطور الابتدائي؛
> إذا سبق له وأن كان نائبا قانونيا لأحد الأطراف؛
> إذا وجدت علاقة تبعية بين القاضي أو زوجه وأحد الأطراف أو زوجه؛
> إذا كانت هناك صداقة أو عداوة مشهورة بين القاضي أو أحد الأطراف؛
> الفرضية التي يكون فيها القاضي هو المشتكي في دعوى موضوع الإجراءات (حالة خاصة جاء بها المشرع على مستوى قانون المسطرة الجنائية).
ويجب على القاضي الذي علم بوجود سبب من أسباب التجريح المحدد قانونا، أو أي سبب آخر أن يصرح بذلك للجهة المختصة.
ومن بين الإشكالات المطروحة، على مستوى عمل المحاكم المالية، موضوع تدبير وعقلنة الزمن القضائي، أي الأمد الذي تستغرقه الخصومة ابتداء من تاريخ تقييدها بالسجلات الرسمية للمحكمة، إلى غاية استيفاء الحق المحكوم به عبر مسطرة التنفيذ، فالمشرع الدستوري نص على حق المتقاضي في حكم يصدر داخل أجل معقول.
وما يميز المسطرة القضائية المتبعة أمام المحاكم المالية، على غرار باقي محاكم المملكة، التركيز على الشق الإجرائي للدعوى، والذي يقتضي اتباع سلسلة من المقتضيات المسطرية لتجهيز القضايا، بغية تمتيع المتقاضي بكامل الحق في التوصل والحضور وبناء الحجج، وبالنظر لما تتطلبه هذه الإجراءات من وقت ليس هينا، فإن ذلك قد يمس بضمانة دستورية تتمثل في حق الحصول على عدالة سريعة وميسرة.
عمليا، ومن خلال القرارات الصادرة عن المحاكم المالية بالمغرب، يتضح طول المسطرة المتبعة، وهو ما قد يفسر صرف أموال أكثر من تلك التي يتم الحكم بها.
وحتى نبني فكرتنا على أسس صحيحة، اعتمدنا على القرار 012017 الصادر عن غرفة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية خلال سنة 2017، وتتبعنا المساطر التي تم سلكها، بداية من رفع القضية، إلى غاية صدور القرار.
وقبل التطرق للحيز الزمني الذي استغرق قبل صدور القرار، لابد لنا أولا أن نحيط بمضمون القرار ونوع المتابعة، إذ أنه يهم متابعة رئيس مصلحة برمجة عرض العلاجات والموارد المالية بالمديرية الجهوية للصحة بجهة فاس بولمان (سابقا)، بالنظر لتوقيعه على أوامر أداء النفقات المتعلقة بتكاليف صيانة معدات بيوطبية غير صالحة للاستعمال أو مشمولة بالضمان الوارد في صفقة الاقتناء بعقود الصيانة.
وعودة للزمن المستهلك من أجل البت في هذا القرار، يلاحظ أنه قد استغرق وقتا مهما للغاية، حيث رفعت القضية إلى المجلس الأعلى بتاريخ 10 يونيو 2015، ولم يصدر الحكم إلا بتاريخ 6 أكتوبر 2016، أي بعد ما يقارب 16 شهرا، وتم الحكم على الشخص المتابع بأداء غرامة قدرها 10.000 درهم.
وأمام المدة المستغرقة من أجل البت، نطرح سؤالا: كم يكون قد أنفق المجلس الأعلى مقابل الحكم بالمبلغ المومأ إليه؟ (أجور القضاة وتعويضاتهم، مصاريف التنقل…)، مع الأخذ بعين الاعتبار الإشكالات المرتبطة بتحصيل الغرامات.
ويبدو لنا أنه من بين الأسباب المساهمة، بقسط مهم، في طول مسطرة التقاضي أمام المحاكم المالية، العدد القليل للقضاة، وكذلك أمور مرتبطة بالتكوين، وأمور مرتبطة باستعمال التقنيات الحديثة في مجال التقاضي.
فوفق آخر الأرقام، يبلغ عدد قضاة المحاكم المالية 350 قاضيا وقاضية، 170 منهم بالمجلس الأعلى للحسابات، و180 بالمجالس الجهوية للحسابات، إلى جانب الأعوان والإداريين والتقنيين والإداريين البالغ عددهم 205، بالإضافة إلى 50 مساعدا في المحاسبة والتدقيق.
وهذا الرقم يظل ضعيفا إذا ما تمت مقارنته بعدد القضاة والموظفين العاملين بمحكمة الحسابات بفرنسا، حيث يشير الموقع الرسمي للمحكمة، أن عدد العاملين بالمحكمة 1777 شخص، 746 على مستوى محكمة الحسابات، و1031 بالغرف الجهوية للحسابات.
لكن، ورغم قلة الموارد البشرية العاملة بالمحاكم المالية، بالمقارنة مع حجم الاختصاصات، لابد من وضع تأطير علمي وموضوعي لقضاة المحاكم المالية، سواء في مرحلة التكوين الأساسي، أو في مرحلة التكوين المستمر، يساعدهم عند ممارسة مهامهم، تحقيق مطلب التوازن بين معطى تدبير الزمن والجودة في الأحكام.
إضافة إلى ضرورة الاعتماد على الوسائل الحديثة في التقاضي، كآلية التبليغ الإلكتروني، مع الاحتفاظ بآلية التبليغ العادي كحل بديل في حالات خاصة ومحدودة.
وبالفعل، مواكبة لزمن الرقمنة، شرع المجلس الأعلى مع شركاءه: وزارة الاقتصاد والمالية، خاصة الخزينة العامة للمملكة، ومديرية الجمارك، ومديرية الضرائب، بالقيام بمبادرات من أجل تقديم الحسابات بشكل إلكتروني، في انتظار أن يتم نقل هذا التقنيات على مستوى التقاضي في مادة التأديب المالي، من خلال اعتماد التبليغ الالكتروني واعتماد مبدأ التقاضي عن بعد من خلال اعتماد تقنية visioconférence ، التي شرع العمل بها على مستوى المحاكم العادية منذ سنة 2016: محكمة الاستئناف بالدار البيضاء نموذجا.
وما يمكن إثارته، كذلك، كيف يمكن للمتضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض، علما أن دستور 2011، قد أعطى الحق لكل متضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة، لكن هذا الأمر لا أثر له في مدونة المحاكم المالية بصفتها هيئة بمهام قضائية واضحة، حيث من الاقتراحات التي يمكن إدراجها هنا هي تحديد ماهية الخطأ القضائي في مادة التأديب المالي، وشروط وإجراءات رفع دعاوى التعويض عنه.

خاتمة

يتضح، ولو نسبيا، من خلال هذا البحث أن مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، هي مسطرة تتوخى بالأساس ترجمة الوظيفة والمهام القضائية للمحاكم المالية، وكذا ردع المخالفات المرتبطة بالتدبير المالي للمال العمومي، وهي مسطرة لا تختلف جوهريا عن ما هو معمول به في المسطرتين الجنائية والمدنية.
كما أنها مسطرة تستهدف الحفاظ على المال العمومي من خلال كشف الإخلال بالقواعد والقوانين والأنظمة المؤطرة لتحصيل وإنفاق الأموال العمومية من طرف المدبرين العموميين أيا كان صنفهم، كما ترمي إلى منع تكرار تلك المخالفات والتقليل منها، وردع المقصرين ودفع الإدارات العمومية إلى مزيد من تكوين أطرها في المجال الإداري والمالي.
وهي مسطرة لا تشترط الركن المعنوي، بمعنى أنها تنصب على كيفيات ومدى تقيد المدبرين العموميين بالقانون والقواعد والمساطر أثناء قيامهم بوظائفهم المتصلة بالمال العمومي، وذلك في تكامل مع القضاء المتخصص في جرائم الأموال الذي يستحضر ويبحث في قيام المسؤولية الجنائية من خلال البحث في الأركان الثلاثة للفعل، بما فيها الركن المعنوي.
كما أنه يمكن استخلاص، عبر استخراج بعض أوجه قوة وقصور المسطرة عموما، أن النص القانوني للمحاكم المالية، وهو في سنواته الأولى للتطبيق، يحتاج إلى مزيد من التحيين والتدقيق والشمول، حتى يواكب مسار إنضاج التجربة المغربية في مجال القضاء المالي.

Related posts

Top