دراما الحياة وشعرية الفجيعة

يضعني تقديم هذا النص أمام إكراهين إثنين، الأول إيماني الدائم بأن المنجز الإبداعي يقدم نفسه بنفسه، وأي قراءة ما هي إلا صدى خافت سرعان ما يخبو أمام الأثر الأصلي، بل الخوف من أن تسيء القراءة المفترضة لعملية التلقي، وتوجهه توجيها متعسفا يرتبط بالمقدم فقط لوحده، ودون علم الكاتب نفسه. أما الإكراه الثاني فهو أني بصدد نص مسرحي قدم له الباحث المغربي الدكتور خالد أمين، وذلك عبر قراءة موجزة لكنها فاحصة تتسلح بزاد معرفي، وتخصص أكاديمي، ودربة نقدية طويلة الأمد.
تأسيسا على ما سبق، أجدني ملزمة بالمرور عبر هذه البوابة الأولى غاضة الطرف على عتبات أخرى من قبيل العنوان، والصورة، وغيرها، وإن كان الخطاب المقدماتي يستهويني شخصيا، ويثير شهية الكتابة لدي، لكني لن أتعدى في قراءة عتبات النص تقديم خالد أمين وأجده جامعا مانعا، وهو في ثمان صفحات.
استهل الباحث تقديمه لنص “تشوبا تشوب” لمحسن زروال بتقديم الكاتب نفسه لنص سابق له هو “دوبل فاص”، يصرح فيه بأن نصوصه مهادنة ومستكينة للظل خوفا من نور يجعلها في مواجهة الآخر، ومواجهة المنشورات التي تزدحم بها رفوف المكتبات. ما نبّهنا إليه خالد أمين هو عكس زعم الكاتب، وهو ما نلمسه نحن أيضا أثناء تتبعنا لأحداثها، ورصدنا لحركة شخوصها، وفضاءاتها العامة والحميمة، فهي نصوص تتسم بـ:
• التوتر والتصدع، كونها تقتحم ما قد تعجز عنه نصوص أخرى، من ظواهر مجتمعية عصية مثل (الظلم، القهر، البيدوفيليا، التحرش بأشكاله..)
• هي كتابة شذرية تتسم بالتكثيف، وتهتم في هذا العمل بالجسد، والعنف الجنسي.
• ينجح الكاتب في هذا النص في الجمع بين المتناقضات: (حوض الماء/المرحاض، السلطة/القهر، القرآن/القيء، الشاذ/المناضل..)
• شخصيات النص متصدعة تعيش الواقع الاجتماعي بإحساس قوي بالخيبة، والإحباط النابعين من ماض مُتأزم.
• الزمن في نص “تشوبا تشوب” متداخل لا يرسم الحدود بصرامة، بل يسير في شكل حلزوني يعيد اللعبة لنقطة البداية دائما.
• يصف خالد أمين الاختيارات الجمالية للكاتب بالسهل الممتنع، مستشهدا بتصنيف “جون بيير سرازاك” دراما الحياة بدل الدراما في الحياة.
• نبه في الأخير إلى حضور الميكروفون الذي يجعل الممثل مؤديا مشاركا وشاهدا على الأحداث.
تنتهي هنا خلاصات خالد أمين، وقراءته لهذا النص، وكما ترون فهي مركزة، ومكثفة كثافة النص وعمقه، لا بد من الإشارة في هذا المقام إلى أن تحليل نص مسرحي يحتاج أمورا كثيرة، أهمها ربطه بالسياق الاجتماعي الذي أنتجه، مع تحديد قصدية الكاتب في نقله إلى الورق، ومن بعده الخشبة، بغية معرفة أفق توقع المتلقين من طبيعة هذا المنجز أو ذاك، وكثيرا ما تعرض بعض المناولات نوعا من الاختزال المجحف لدلالة العلامات، رغم كونها تسعى لإيضاح الأساليب التي سيبني بها المتلقي مسار عملية تلقيه، وهي في الغالب أنساق تساعد على تشكيل المعنى، وأرتئي أنا لتقديم هذا النص تتبعه وفق أقطاب ثلاثة:

الحدث

نتتبّع أحداث النص عبر لحظات واضحة، مفصلية تُحرك اللعبة في شكل متداخل، فنجدها تتتابع على الشكل الموالي:
• شخصية “مول الكشكول” من وراء الميكروفون يقدم شخصية “يوسف سلام” المعروف في النص بـ: “ولد المخزني” الصفحة 23 وما بعدها.
• “المخزني” يلوم ابنه “ولد المخزني” على عصيانه للأوامر التي كانت تقتضي أن يشارك في قمع تظاهرة 2013، التي نظمها المجتمع المدني ضد قرار العفو الملكي الصادر في حق بيدوفيل أجنبي اغتصب أحد عشر طفلا مغربيا في أعمار صغيرة. الصفحات من 24 إلى 26.
• “ولد المخزني” فيما يُشبه الثمالة ينتشي معتبرا نفسه حامي البلاد والعباد، يلتقي وهو في حالة صفاء ذهني بـ “مول الكشكول” فيتبادلان الحوار والاعترافات. الصفحات من 27 إلى 30.
• حالة السكر التي تصيب “ولد المخزني” تسقطه أرضا ليتذكر حادثة الاغتصاب التي تعرض لها في صغره، فجأة يظهر والده ممعنا في تعنيفه من جديد، لأنه عصي أوامر أسياده. الصفحات من 32 إلى 38.
• يخضع “ولد المخزني” للتحقيق، وتنزع عنه بذلته العسكرية، يتعرض للسخرية من زملائه، سخرية تطال كفاءته المهنية، وفحولته، ورجولته، وقدراته العقلية. الصفحات من 39 إلى 54.
• نعود عبر تداع حر مع “ولد المخزني” إلى واقعة الاغتصاب التي حدثت معه في الصغر، وعبر الإرشادات المسرحية نتعرف على حيثيات ما وقع. الصفحات من 54 إلى 59.
• “المخزني” الأب هو رجل سلطة مقعد ومتقاعد، نعيش جبروته في تعامله مع ابنه، لكننا نعود معه إلى واقعة تعنيفه من طرف القايد، لنعاين عن كتب ما عاناه هو أيضا من تسلط واحتقار وتجبر. الصفحة 60.
• يعود “مول الكشكول” مرة أخرى ليحكي واقعة قمع المتظاهرين ضد قرار العفو على المغتصب الأجنبي، ويعود المخزني لزجر ابنه، ويعود هذا الأخير لاسترجاع لحظات ألمه، وأمله في أن الانتقام وهو رجل سلطة سيجعل جرحه يلتئم، لكن احتماءه بسلطة المخزن لم يساعده في تجاوز مأساته، بل نكأ جرحه، ودر عليه الملح. الصفحة من 61 إلى الأخير.
نلاحظ إذن كيف تسير الأحداث في منحى دائري، يبدأ بلحظة الاحتجاج، ويعود إليها، يعرج على لحظات نفسية تعيشها الشخصيات في نوع من الاستيلاب والتعنيف. نحن أمام نص محتقن غير مهادن، ليست فيه لحظات قوية وأخرى أقل قوة، بل هو يحتد ويقسو ويجرد الشخصيات من كل أوراق التوت التي يمكن أن تخفي عورة من عوراتها.

الشخصيات

شخصيات النص هي من الشخصيات التي نصادفها في حياتنا اليومية، نعيش معها تحت سماء واحدة، ونتنفس معها نفس الهواء، لذلك فملامحها هي ما نشاهده ونشهده في كل أوقات اليوم الواحد، وقد جاءت على هذا المنوال:
– شخصية الشاهد: “مول الكشكول” كمعادل رمزي درامي لشخصية المثقف العضوي، والمواطن المعترض على الأوضاع، والرافض للاستبداد، لذلك فهو أكثر الشخصيات تعاملا مع الميكروفون لأنه وإلى جانب كونه مشاركا في الأحداث فهو شاهد عليها. ألبسه الكاتب لباسا أسودا، ومعطفا طويلا، وشالا أحمر، يظهر حاملا قنينة خمر أو سيجارة، يتفاعل في حوارات مباشرة مع “ولد المخزني” أو يحكي الحكاية من منظوره الخاص.
– شخصية السلطة: يصور النص الشخصيات التي تجسد السلطة عبر ثلاثة أصناف:
أ- صنف مستبد متعسف وظالم، يمثله كل من المحققين الأول والثاني، والقايد.
ب- صنف عاجز يدعي القوة، وهو المخزني الذي لم يثنيه الكرسي المتحرك والشلل والعجز عن كيل الشتائم لابنه، يعلن رفضه لما يقوم به الابن، إذ خيب أمله في أن يكون مثله، ينصاع للأوامر، ويضرب بيد من حديد على المحتجين كيفما كانت قضيتهم.
جـ- صنف ثالث وأخير، متشظ ومتأزم وضعيف، لم تخمد جذوة إنسانيته، ولم يستطع نسيان ماضيه، منصبه لم يمنحه – كما كان يعتقد – السلام النفسي، ويجعله ينسى واقع الاغتصاب والشذوذ اللذين بقيا يلحقانه أينما حل وارتحل.
– شخصية المُغتصب: لا يظهر النص “البيدوفيلي” شخصية مريضة، أو يبحث عن أي نوع من التعاطف معها، بل على العكس فهي شخصية تعرف ما تريد، ورغباتها واستيهاماتها المريضة لا تنفي قصدية الجرم، والانتهاكات الجنسية التي يقوم بها، الأمر الذي نتفق معه كقراء، وكمواطنين انتهِك عرض أحد عشر طفلا من فلدات أكبادهم، فكان العفو على المُجرم هو الهدية التي قُدّمت لهم، والعودة للديار دون أن يشعر الأهالي بأن السلطة التي من المفروض أن توفر الحماية لهم قد أنصفتهم، وبقيت دماء أطفالهم مهدورة كما كرامتهم.
– شخصية المُحتج: أرى شخصيا أن المحتجين هم شخصية أخرى يفصح عنها النص في صفحتيه الأخيرتين، هي شخصية يمكن أن نعتبرها جاءت لتوازن الصراع وتدفع به جهة الانفراج، يقول “ولد المخزني”: “كنت بحال الضوبرمان كنتسنى.. حتى بانت لي فاميلة على قدها كتغوت.. الأم.. الأب.. والبرهوش.. حتى البرهوش كيغوت.. فارد جناحه للريح وكيغوت.. مقلّز فوق ظهر اباه بحال النسر وكيغوت.. فاتح صدره فوجهي وفوجه العجاجة وكيغوت.. تساطحت عيني فعينيه.. ضحك فوجهي.. كنت بحال الطير مسجون فقفز.. حسيت بالبرهوش مد يده للقفز وطلق سراحي” ص 71.
تحقق الشخصية شاعريتها وشعريتها الخاصة، وتشكل ملامحها بعيدا عن التنميط، هي، كما عبر عنها حسن المنيعي، شعرية مفتوحة، نلمس من خلالها تشكلا مغايرا لنسيج النص، ونستشرف تشكيلا مشهديا ينحصـر – كما عبر عنه حسن المنيعي في كتابه “شعرية الدراما المعاصرة” – في الجمع، بطريقة دينامية، بين أشكال تعبيرية متعددة وهجينة، وذلك عن طريق «التوليف» والتشذير: “أي هدم وإعادة بناء أشكال مسـرحية أو خارج/ مسرحية (رواية ـ قصة قصيرة ـ مقالة فلسفية ـ رسائل ـ جريدة ـ محكي عن الحياة) لإنتاج عمل يتقاطع فيه الدرامي والملحمي والغنائي..”.

الحوار/ اللغة

ما تقوله الشخصية في نص “تشوبا تشوب” حمال أوجه، ولا ينبغي فهمه بمعزل عن وظائفه التي حددتها أفعال الكلام، كما جاءت عند “أستن” على النحو التالي:
أولا: الفعل التعبيري المهتم بالمحتوى الدلالي، ويظهر جليا في حوارات رجال السلطة الصارمة، وأيضا في حوار “مول الكشكول”.
ثانيا: الفعل التأثيري الذي يعني القدرة التعبيرية والانفعالية، ويظهر عند “المخزني” الأب الساخط، وولد المخزني الذي يجر أذيال خيبته، ويريد أن يعبر عن أزمته النفسية.
ثالثا: الفعل التخاطبي والقائم على الاتفاق مع الآخر، وهي الحوارات بين “ولد المخزني”، و”مول الكشكول”.
يحافظ الحوار في هذا النص على البعد الشمولي الجدلي المفتوح، ويقوم على الحوارية بين المكونات النصية، والإخراجية، والسينوغرافية، وهو ما يشير إلى تعدد الأصوات polyphony، إنه حوار يقوم على تعايش مجموعة مكونات درامية تتقاطع بالأساس داخل الفضاء الواحد، وبالتالي فمراكز الإرسال تتعدد وتتباين من حيث قنواتها المفترضة، من جسد وملابس وديكور وموسيقى ووسائط غيرها، الأمر الذي نجده جليا في الإرشادات المسرحية. اعتمد النص إلى جانب الإرشادات المسرحية المدمجة في الحوارات إرشادات أخرى تأتي في بداية المشاهد ووسطها ونهايتها، وقد نصف ما قام به الكاتب بالتحايل الطباعي، فنحن بصدد 35 مقطعا للإرشادات التي توازي أحيانا نصف الصفحة، في نص يتكون من 51 صفحة في كليته، الشيء الذي سيجعلنا ننتبه إلى أننا لسنا أمام مؤلف استأنس بالخشبة، بل إنما هو الكاتب المخرج، ولو قمنا بعملية استخراج لهذا النص الواصف لقلنا دون مغالاة إننا بصدد سجلات إخراجية حقيقية.
اختار الكاتب لغة عامية، بسيطة ويومية، ولم يتورع أن يسمي الأشياء بمسمياتها الشعبية الدارجة في اليومي والمعيش دون خجل من توظيف ما يمكن أن نسميه لغة أو لهجة فاضحة غير منمقة. جاءت اللغة لتؤدي وظيفة تحدثية تجعل الكلام حركة، ووظيفة مقامية تجعل الحركة تولد العواطف والانفعالات، ووظيفة تحققية وهي القوة الإنجازية للحركة الفاعلة، فهي تأمر وتهدد وتعد.
اعتمد محسن زروال في هذا النص دراماتورجيا ركحية تستشرف المعطيات البصرية، في تنزيل اختياراتها الجمالية، معتمدا كتابة شذرية، منتهجا آلية التشظي والتفكيك. ربما لم يقدم النص وجهة نظر مباشرة للواقع بقدر ما قام بعملية تفكيك له، عبر طرق واختيارات مختلفة لتمرير الحكاية وسرد الأحداث. بهذا يكون المؤلف قد وضع شبكة علاقات وتصورات درامية تسير وفق خطة واضحة، بمساعدة عوامل محركة، وهي عوامل مادية من حيث وجودها المحسوس في النص، وفي الحياة أيضا، كما أنها أيضا ذات وجود نظري يحدده المنطق الخاص الذي يسير وفقه الحدث الدرامي: (رغبة البطل في الانتقام، رغبة المجتمع في الانتقام وجبر الضرر، البحث عن طرق لعقاب مجرمي الجنس والانتهاكات الجسدية، والتحرر من الماضي لاستشراف المستقبل).. النص صرخة تستفز قناعاتنا، ويخلق بآلياته الخاصة شعرية للفجيعة التي تطال فئات المجتمع المهمشة.

——————————————شروح لغوية:

المخزني: رجل سلطة مغربي، وهي أدنى الرتب، وغالبا ما يوكل إليها مهام تنفيذية من قبيل تفريق المتظاهرين، والحرص على الأمن العام في الأزقة والساحات العامة وغيرها.
القايد: رتبة من رتب رجال السلطة المغربية أعلى من المخزني.
مول الكشكول: كلمة (مول) تعني صاحب الشيء والمنسوب إليه، الكشكول هو الشال يوضع حول العنق.
تشوبا تشوب: لفظ إسباني لحلوى هي عبارة عن كرة صغيرة مثبتة على عصى بلاستيكية صغيرة، يتم مصّها حتى ينتهي حجمها.
البيدوفيل: الشخص ذو الميول الجنسية الشاذة.

 بقلم: دة. نزهة حيكون

Related posts

Top