درس من مدريد…

ما حدث في العاصمة الإسبانية مدريد أول أمس، وما أفضت إليه نتائج الانتخابات الجهوية هناك، يفتح الأعين حول تغيير قادم في المشهد السياسي والانتخابي على صعيد إسبانيا ككل.
لقد حملت نتائج هذا الاقتراع الجهوي انبعاثا واضحا للحزب الشعبي اليميني، وذلك برغم كل الفضائح التي لفته في الفترة الأخيرة، كما حافظ الحزب الاشتراكي العمالي على وجوده، رغم  بعض التراجع العددي، ولكن، في المقابل، كانت النتيجة اللافتة للانتباه هي الهزيمة المدوية لحزب «بوديموس»، واندحاره، ما دفع زعيمه الأوحد بابلو إيغلسياس إلى إعلان استقالته وتنحيه عن العمل السياسي، كما أن حزب «سيودادانوس»، بدوره، شهد الانهيار، وحكمت نتائج الاقتراع بانتهائه من المشهد السياسي بالعاصمة مدريد.
يعني ما سبق، أن القطبين الحزبيين التقليديين في إسبانيا يحافظان اليوم على وجودهما، ويستعيدان القوة الانتخابية والتمثيلية مع بعض التفاوت فيما بينهما، ومقابل ذلك توقفت مسيرة أحزاب جديدة أنتجتها موجات الأعوام الأخيرة، وخصوصا «بوديموس» و»سيودادانوس»، والتي تركت أمكنتها وبعض مقاعدها لهيئات أخرى، بعضها كان قد خرج من داخل هذه التنظيمات الحديثة نفسها…
يجمع المراقبون للشأن السياسي الداخلي الإسباني أن ما أفضت إليه الانتخابات الجهوية بمدريد لن يقف عند هذا الحد، ولكن ستكون له تداعيات وامتدادات في صياغة معالم مشهد سياسي وتمثيلي جديد بالبلاد، ومن ثم بلورة وضع آخر يختلف عن واقع الانقسام ومظاهر البلوكاج الذي عانت منه إسبانيا طيلة الست سنوات الأخيرة.
وهذا التحول، الذي دشنه اقتراع مدريد أول أمس، يسائل أيضا بلادنا، باعتبار حجم الرهانات المطروحة على علاقاتها الثنائية والإستراتيجية مع الجارة الإيبيرية.
من جهة ثانية، وبلادنا تعتزم، بدورها، خوض انتخابات 2021، تعتبر نتائج انتخابات مدريد مفيدة  لعقلنا السياسي الجماعي، وباعثة على التأمل والتفكير في مستقبلنا.
لم يكن كافيا لزعيم «بوديموس» بابلو إيغليسياس أن يكون نجم الحوارات التلفزيونية، وممتلكا لمعجم الصراخ والمزايدات، ليصير زعيما حزبيا حقيقيا أو يقود حزبا يكتسح به المشهد الانتخابي ويزيح باقي القوى التقليدية والتاريخية، ولكن افتقاره لرؤية سياسية مجتمعية بعيدة المدى، وغياب الاستناد لمواقف واضحة، وأيضا ضعف استعداده للعمل الجماعي مع رفاقه ومؤسسي تياره، كل هذا جعل المعجبين والحواريين والمريدين يتفرقون من حوله بسرعة، وتختفي الأضواء عنه، ثم  في النهاية يخر ويسقط مهزوما ومدحورا.
الأحزاب الحقيقية لا تصنعها إذن الموجات الشعبوية العابرة أو الظرفيات والغايات المرحلية والمؤقتة، ولكنها تتبلور ضمن سياقات ومعارك وامتحانات في الميدان، وتتعلم أيضا من أخطائها وكبواتها، والأساسي أنها تكون ممتلكة لهويتها وأفقها الفكري والمجتمعي، ولاستقلاليتها و… مصداقيتها.
هزيمة بابلو إيغليسياس في مدريد تمنحنا نحن بدورنا درسا للاستفادة، مؤداه استحالة خلق زعماء بالصدفة، أو بناء مسارات حزبية وسياسية من دون مصداقية أو مرتكزات موضوعية أو أفق.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

الوسوم , ,

Related posts

Top