دلالات الرمز المسرحي في الخطاب  البصري

شكل الرمز منذ الأزل مداخل عديدة ودلالية ضمن التفضيلات الإنسانية، بوصفه وسيلة لحفظ تجاربهم الحسية البسيطة والمعقدة منها، والتي تأتي حينما تفرضها الخبرة الإنسانية بشحنات شعورية تنطوي على فهم جمعي متوارث للفن والثقافة والدين، وقد تتفرد عند أشخاص معينين مهتمين بدلالاته، فالرمز حاضر منذ الأزل وإلى يومنا هذا، ولعل تقادم الحضارات وتفاعل التجارب والتطور الثقافي فرض استخدامات وتشكلات للرمز بحيث تعددت دلالاته وتنوعت شفراته، لحين ظهور الحركة الرمزية، فوظف الرمز توظيفا فنيا فعالا على مستوى الأدب والشعر والمسرح. 
ويهدف هذا البحث على التعرف على خصوصيات الرمز وابتداعه في حقل المسرح البصري.

تحديدات الرمز 

يعرفه قدامة جعفر بأنه «الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، وهذا ما جاء به القرآن الكريم بقوله عز وجل ( آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام ألا رمزا).
وتشير الآية الكريمة إلى أهمية استخدام الإشارات بدل الكلام. 
«الرمز هو صورة معينة تدل على معنى آخر غير معناها الظاهر ألا انه معنى معين كذلك».
ويرى زكي نجيب أن الرمز «مصطلح أو اسم أو حتى صورة .. تكون مألوفة في الحياة ، وتنطوي بداهة على شيء، مجهول أو مخفي عنا».
ويذهب هيجل إلى أن الرمز «وسيط تجريدي للإشارة إلى عالم الأشياء، إبداع فني يرمي في آن واحد إلى عرض ذاته في خصوصية والى التعبير عن مدلول عام . ليس هو مدلول الموضوع وحده، وان كان لا يرتبط به». 
في حين ترى نهاد صليحة بأن الرمز
علاقة أو إشارة، قد تكون صورة أو كلمة أو نغمة – لها دلالة معروفة أو معنى معين في مجال التجربة الإنسانية المحسوسة والمتوارثة».
وتشير كذلك إلى أنه «وسيلة لتجسيد التجربة الفنية في صورة مكثفة ومركزة لها نفس الشحنة الشعورية التي تميز التجربة».

  مفهوم الرمز

يرى هنري بير بأن استخدام الرمز «جاء تمردا على مظاهر التعبير، مستبدلا تسمية الأشياء بمسمياتها، بوصفه صورة كبيرة تتفتح حول الفكرة».
وعلى الرغم من وجهة نظر هنري الأدبية، إلا أن الرمز يختلف عن الرمز في الصورة، ذلك أن الصورة الأدبية تقع ضمن مفهوم التخيل، في حين تقع الصورة ضمن مفهوم الخيال، فضلا عن أن الأدب يعتمد اللغة الاصطلاحية وغموض مواضعه التي ما تلبث أن تزول بمجرد معرفة ما يدل عليه أو يشير إليه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرمز يأتي كلمة أو جملة بلغة الأدب، في حين يأتي كصورة أو شاخص أو شخصية بلغة المسرح البصرية، أو اسم يفترض المكان أو الزمان داخله على أكثر من دلالة، ويرتبط بهما قطبان رئيسيان، يتمثل أحدهما بالبعد الظاهري للرمز، وهو ما تتلقاه الحواس مباشرة، ويحمل الثاني البعد الباطني المرمز والمستتر، وهو ذاته المراد إيصاله إلى المتلقي بوصفة حامل المعنى. ومن هنا يصبح للرمز عنصران متراكبان، أولهما معروف ومدرك من قبل أكثر الناس، وثانيهما الباطن الذي ينبغي حل شفرته أو إدراك معناه والذي يقوم المخرج بخلقه. وعليه فإن هناك علاقة بين قطبي الرمز
(ظاهره وباطنه )، من حيث أنه «صورة معينة تدل على معنى آخر غير معناه الظاهر، إلا انه معنى معين».
ولما كان الرمز يسوق نفسه نزولا إلى عمق الحضارات، فهذا يعني أن هناك نزوعا داخليا لدى الأفراد منذ الأزل لتوظيف الرمز ، بوصفه وسيلة لتجسيد الصورة الفنية، فالصورة الرمزية تنطوي على تأويل من الأفكار والانفعالات والإيحاءات غير المباشرة بدلا من التعبير المباشر.
ويرى (هيغل) بأن الرمز هو بداية الفن، معتبرا أن الشرق مبتكرا له ومبدعه، ويذهب إلى أن معناه ( حصر المعنى )
حينما يعرض ذاته في خصوصية التعبير عنها كمدلول. ومن هنا كان إنسان الحضارات الأولى يعبر عن كافة المظاهر وإشكال الحياة بصورة رمزية من خلال النحت أو الرسم أو الأواني الفخارية أو الطقوس الدينية والحروب وحتى اللون، معتبرا ذلك التعبير وجود حسي أو عياني  فهو صورة ومعنى معا. 
ولعل هذا المفهوم يسوقنا لاتجاهات عديدة لإشغالات الرمز، بل ويدفع بذاته نحو أشكال أخرى من التعبير الإنساني في الحكاية والمثل والحكمة واللغة والشعر واللغز والاستعارة والتشبيه والمجاز، حتى ينتهي بالدراسات السيميائية بوصفه
دالا. كما أن التجربة المتوارثة قد تداولت الرمز كعلامة أو إشارة بوصفه ينطوي على إيحاء وتمثيل ومحاكاة، يقوم بها الوعي الإبداعي وقدرته على التجريد بالرغم من كونه يوظف موضوع من العالم المعلوم،
يلج به إلى ما هو مجهول ويصبح المجهول معلوما ومعبرا عن حياة ومعنى.
  وعلى وفق ما تقدم، يصبح الرمز دالا نهتدي إليه أو نتقبله جميعا ( باتفاق ) من الكل «باعتباره يحقق مقصدا معينا بطريقة صحيحة».
فالاتفاق عنصر مهم من عناصر فهم تراكب الفكرة الرمزية، كونه مرتبط بفهم المعنى فهو قصدي، ويتعين أثر ذلك أن عملية إنتاج الرمز ليست باليسيرة، إذ ينبغي للفنان صانع الرمز أن يعي تراكبية إنشاء الرمز بوجهيه الظاهر والباطن، وأهمية أن يكون معروفا ومدركا من الجميع، فاختصار الرمز على فهم أحادي غير مشترك قد يؤدي بالضرورة إلى التشظي في فهم المعنى أو تعدد التأويل لذات الصورة المرمزة، وهو ما يجعل المعنى غير واضح أو على أقل تقدير غير مستوفي للمعنى المراد أو يدل عليه «فالرمز معنى أو إشارة مصطنعه لا ينبغي علينا أن نعرفه، إلا إذا عرفنا انه قد اتفق عليه».
ولعل تعددية توظيف  الرمز بين الموضوعي والمقصود، قد أدى إلى تعرض الرمز للخلط، ويعود ذلك بلا شك إلى ظروف متعددة بسبب تعدديته واستخدامه كمصطلح ومناطقية اشتغاله في العلوم والفنون والدين والأساطير وكافة مناحي الحياة، وفي الجانب الآخر هناك خلط بين الرمز والعلامة، أو هناك شبه تداخل بين الرمز كمفهوم عام وبين المذهب الرمزي أو الرمزية كمدرسة أدبية، بحيث يتجاوز دوره العلمي والأدبي إلى وظيفته الجمالية التي يتقبلها الفرد لبلوغه منطقية الحدس والخيال المبدع. وعلى وفق ما تقدم يمكن القول إن إثقال الرمز وصولا إلى درجات اللغز والغموض المغلق هو خروج عن معناه الآني السليم ووظيفته الجمالية، من حيث أنه من عالم الوجود المادي بوصفه رمزا واصطلاحا عرفيا.
ويرى (عما نوئيل كانت) أن الرمز تمثل من الخيال، يستدعي الكثير من الفكر .. ولا تقدر اللغة قط أن تقف على مستواه أو تجعله في متناول الفهم..
فالرمز فكرة وصورة معا وهي ليست تلقائية بالخيال، وعليه يمكن القول إن فهم الرمز ومعناه يرتبط بالجانب الحسي، في حين أن إنتاجه يرتبط بالجانب الذهني والخيال الإبداعي معا .. وعليه ينبغي أن لا نفعل الرمزية المجردة باستخدامنا أشكالا لا علاقة لها بالموضوعات، كما لا يمكن توظيف الرمزية المحددة حينما تعتمد على رسم صورة مشيدة أثناء خيالات لا عقلية، عندما نستخدم في إنتاج الرمز التجربة المريضة التي لا رابط بينها.
ويذهب ( يونغ ) إلى ذات الفهم من كون الرمز «صورة تكون مألوفة في الحياة اليومية تحمل معاني إضافية خاصة، إضافة إلى معناها التقليدي الواضح، إنها تنطوي على بداهة على شيء مبهم مجهول أو مخفي عنا».
ويستطرد بالقول أن التحولات عبر عملية طويلة من التطور، أصبحت عبارة عن صور جمعية تفعلها المجتمعات المتحضرة، ذلك أن الرمز لا بد أن يمتلك جذورا متجذرة في الواقع من وجهه الأول أصبحت بذلك عرفا جمعيا يستوجب عرضه بصورة تحمل معنى مقصود وأخر مستتر.
ما ينبغي أن نحدده هنا، هو أن الرمز ينتج ويقدم ويعرض، حينما تكون هناك حاجة للتعبير عما لا تستطيع اللغة أو  شيئا آخر أن يقدمه بطريقة أخرى.
إذ أن الرمز يتمثل لكونه مفهوم جمعي أولا وصورة جمالية ثانيا، ودلالة معرفية ثالثا، بل إنه لغة تجريدية تستدعي المعنى بأبهى صوره، حينما يتم ضبط وحداته الجزئية في كل موحد. فهو إما أن يشير وإما أن يدل أو يتعرض لما ينبغي أن يقوله الذهن المتقد بالإبداع، حيث أن المخيلة هنا تنطلق في التفسير وتحتمل التأويل فهو إذن تمثيل للأفكار والانفعالات بالإيماء غير المباشر بدلا من التعبير المباشر.

الرمز المسرحي:

لعل من المسلم به أن الرمزية ظهرت كثورة على ما قبلها كالواقعية والطبيعية في الأدب، وجرت محاولات لتوظيفها في المسرح، ولقد كانت محاولات الشاعر  (ملارميه ) قد أثمرت وتبعه الكثيرون من الكتاب الدراميين في هذا المجال، حتى أصبحت الرمزية تيارا ومذهبا مهما في المسرح دعي (بالمسرح الرمزي) .. واتخذ لنفسه مدرسة جديدة مما وفر ظهور نماذج جديدة من الأدب الرمزي المسرحي لكتاب أمثال (ابسن النرويجي ومترلنك وتنسي وليامز وغيرهم).
ودعا أصحاب الرمزية إلى إلغاء وإقصاء كل ما هو واقعي وطبيعي على خشبة المسرح من الحيل المفتعلة والمفاجئات. وبذلك استحالت الرمزية إلى ضرب من التأثير واتجه الكثير من المخرجين لأن يكونوا من دعاة الرمزية، والدفاع عنها وتقديم كل ما هو رمزي. بعد إقصاء مبدأ الإيهام الذي قدمت له الواقعية، وعد المثاليون الجدد أمثال (كريج وابيا ومايرهولد) من الذين وطدوا الاتجاه الرمزي، فقد عاد المخرج للاستعانة بمهام جديدة تؤكد الرمز واستخداماته كما تؤكد أهميته، بل إن هذا التوجه بدأ يبحث عن مقارنات مع الأساليب التقليدية التي سبقته في محاولة لإثبات قدرة الرمز في بناء العرض البصري، بل إن الرمزية أولت جل الاهتمام بالإخراج لتعويض الوصف بالإيحاء المعبر الذي يستعين به
الشعراء في خلق الجو والرؤى «وكثيرا ما يحدد المؤلفون الرمزيين للمخرج طريقة الإخراج والإضاءة التي يحرصون على توافرها، كي تجري مسرحياتهم بالجو الذي يريدون».
لقد كانت التجارب الجديدة للمخرجين معظمها قد انحسر بالموجة الرمزية وقدموا أعمالا مسرحية غاية في الروعة والإتقان وبناء صورة العرض البصرية التي حققت الدهشة والإعجاب، حينما دعوا أكثرهم للتمسك بالرمزية، ويذهب
ادورد كوردن كريج ) بقوله «أحسب أنه ينبغي ألا يكون ثمة من ينازع في أمر الرمزية ولا من يوجس منها خيفة».
ولعل هذا التوجه نحو تفعيل الرمز فتح آفاق جديدة لدخول علوم إضافية بعد ظهور النظريات الجمالية لـ  (بوماجارتن) وظهور علم الأشكال والنزعة الشكلية ( الفورمالزم ) ونظرية الفن للفن.
لقد أكد الرمزيون أن الحقيقة لا يمكن أن تظهر صورتها الصادقة والأصيلة بظواهر الطبيعة والواقع، بل تظهر في أعماق الأشياء وليس تحت سطحها، فكانت وسيلتهم الرمز والإيحاء والتلميح. وليس الجهر والفضح والتصريح، ولعلها تترك في ذهن المتلقي  المتأمل صور تتعاون في مقدارها بما فيها من الجمال والمعاني والأهداف، وان لكل مشاهد منهم رؤيته وتخيلاته الخاصة، مما دفع المخرجين إلى البحث عن صيغ مبتكرة وتقنيات جديدة ورؤى إخراجية معبرة، معتبرين أن الصورة البصرية ما هي إلا شعر الفضاء الذي يكتنز باللون والضوء والموسيقى والإيقاع… عالم غريب من الإنشاء البصري الصوري، فعمد المخرجون الرمزيون إلى تفعيل دور الإشارة والرقص والإيقاع والكلمات والخط والصمت والنغمة المنطوقة… فالصورة الظاهرة هي من عالم مجهول هو عالم الخيال، بل راح (أبيا ) إلى أن يربط الموسيقى بالضوء في سيمفونية، واعتبر أن الضوء والظل متساويان في الأهمية، بوصفهما يحققان التجسيم والبعد
الثالث. فراح العديد منهم يبتدع أشكالا في الفضاء، وأصبح العرض يجسد ثلاثية الأبعاد وقيم الفضاء المسرحي بالأبعاد
والوسوع التكعيبي، وصارت هنالك موازنة بين الممثل والمنظر والضوء واللون، وراح المسرح يتلقف كل التقنيات الجديدة والمبتكرات التي تسهم في بناء الصورة البصرية المكتنزة بالدلالة والرمز والإيحاء، نحن أمام نقطة تحول أساسية في حلم أي مخرج في إمكانية الوصول لأي رؤية ومحاولة إيصالها إلى المتلقي،
حتى أصبح المتلقي يهفو إلى الرؤية أكثر من السماع، إن 
المخرج المسرحي بات «ينتقل إلى عالم آخر، عالم الخيال، وهناك يصنع رموزا بعينها من شأنها عدم الكشف عن العاطفة المجردة».
إن إغناء العرض المسرحي يتطلب من المخرج أن يتوغل في عوالمه النقية الشفيفة، من خلال خياله الخصب، مخاطبا المتلقي بأدوات وعناصر تساهم في إغناء الرؤية والفكرة والمعنى، بواسطة  «استخدام رموز تعبيرية مشكلة من العاطفة، خصوصا إذا كان الهدف وراء تصوير هذه العواطف هو أفراغها من فرديتها».
ويبدو هنا أن الرمزية تنحوا نحو العاطفة شأن الواقعية، إلا أنها بالمقابل لا تفعل دور العاطفة، إنما تحاول جاهدة إفراغها من محتواها الفردي، حتى تبدو وكأنها عامة شاملة لكبح مبدأ الإيهام الشامل والتقمص في التمثيل. فكان سعي المخرجين يتجه نحو إبداع وابتداع عوالم ترتكز على الإبداع والضوء ولحظات الصمت والظلال الموحية في تجسيد المعاني الرمزية، فعمدوا إلى توظيف الرمز في العرض وأولوه أهمية بالغة استندت على التكوينات والمكونات المسرحية وشعر الفضاء الرمزي، مما دفع الرمز لأن يختمر في ذهن المتلقي، حينما عمدوا إلى تحويل العرض المسرحي من فعل خطابي إلى فعل صوري.
إن الإخراج يقوم بتحويل الفراغ المسرحي بشقيه الأفقي والعمودي إلى عالم حسي، تعبر فيه الحركة والإضاءة والموسيقى والعناصر الأخرى عن كافة المظاهر.

> بقلم: حسين التكمه جي
*أجزاء من بحث طويل

Related posts

Top