ذكرى محمود درويش

الاحتفال بذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش يعد مناسبة ليس فقط لاستحضار التجربة الشعرية لهذا الشاعر، بل كذلك فرصة لمساءلة الشعر العربي الراهن، وما هي مآلاته، خصوصا وأن الكتابة الشعرية باتت عرضة للاستسهال، وصار كل من تعلم القراءة والكتابة، يجرؤ على نظم الشعر، ويدعي أنه شاعر لا يشق له غبار، كما يقال.
التجربة الشعرية للراحل محمود درويش الذي تحل ذكرى وفاته التاسعة هذا الأسبوع – توفي يوم 9 غشت 2008- تشكل نموذجا متفردا على عدة مستويات:
المعجم الشعري؛ فقد كانت لدرويش لغته الخاصة، واستطاع أن يبتكر أساليب معينة في التعبير الشعري، يستشهد بها قراؤه في مناسبات متعددة ويتلذذون بترديدها، بالنظر لجرسها الموسيقي، من قبيل الشطر الشعري المعروف: يجب الذي يجب.. أو على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. وغير ذلك من التعابير.
هذه القوة في التعبير التي نستشفها من خلال الكلمة والإيقاع على حد سواء، تسمح لنا بالقول إن قصائد الشاعر محمود درويش تشكل بحق نموذجا للتجربة الشعرية الحقة التي من المفروض أن ينصت إليها شعراء الغد ويستوعبونها، ولا أقول يقلدونها.
وعلى ذكر التقليد والمحاكاة؛ فمن الواضح أن العديد من الأصوات الشعرية سواء المغربية أو العربية بصفة عامة، يبدو تأثرها جليا بالتجربة الشعرية لمحمود درويش، لا بل يحدث أن نطلع على قصيدة لأحدهم، ونعتقد لأول وهلة أنها لمحمود درويش بالذات، ليس لكونها تتحدث عن القضية الفلسطينية، أو لكونها ملتحمة بالأرض والشجر والبندقية ووو.. ولكن لاعتبار أن التجربة الشعرية لدرويش اكتسبت معجمها الخاص وإيقاعها الخاص كذلك.
وهناك – خصوصا مع سهولة البث والنشر التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي- هناك من بات يحرص على نشر صور التقطت له بصحبة الشاعر الراحل، بمناسبة ذكرى رحيله أو بدونها، ماذا يعنى هذا؟
ما هو الخطاب الذي يسعى أصحاب تلك الصور إلى إيصاله لأصدقائهم الافتراضيين؟
التعبير عن الإعجاب بالشاعر؟
التفاخر؟
الادعاء بأن من يتصور، من يلتقط صورة بصحبة شاعر فهو شاعر، سواء كان يكتب شعرا أم لم يكن يكتبه؟
لست أدري.
مما لا شك فيه أن كل ديوان شعري لمحمود درويش له بصمة خاصة؛ فتجربته الأخيرة في الممارسة الشعرية على الخصوص، ابتعدت إلى حد ما عن هاجس القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها السياسية والعاطفية وغير ذلك، والتحمت بالذات، ذات الشاعر في مواجهة الموت، ولعل ديوان جدارية -تجدون مقاطع منه ضمن الصفحة الأخيرة لهذا الملحق- أبرز مثال على ذلك.
صاحب هذه التجربة نفسها اعترف في أكثر من مناسبة بأنه يحاول أن يمحو الصورة التي كونها عنه العديد من قرائه بأنه شاعر القضية الفلسطينية، أو على الأقل أنه حاول أن يحقق انعطافة في ممارسته الشعرية، مثلما أنه اعترف بأنه لو كان بمقدوره، لحجب عن قرائه بداياته الشعرية، ونحن نعلم أن هذه البدايات هي ما يمثل بالذات شعر المقاومة، الشعر المرتبط بالقضية الفلسطينية.
هناك من يعتبر أن الاهتمام بالشعر الفلسطيني والاحتفاء به، راجع بالأساس، ليس إلى قيمة هذا الشعر في حد ذاته، ولكن بالنظر إلى التعاطف الذي نكنه لا شعوريا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي لأرضه.
التجربة الشعرية لمحمود درويش لا تتحدد فقط في معجمها الشعري الخاص ولغتها العنيفة وإيقاعها المتفرد، بل كذلك في ما يخص الإلقاء.
إن لمحمود درويش، وهذا يعلمه الجميع ويلمسه، طريقة متفردة في الإلقاء، إلى حد أننا قد نتصور أن الشعر لا يمكن أن يلقى سوى بتلك الطريقة بالذات، هناك أولا الصوت الجهوري، الحضور الجسدي للشاعر، حركاته، سكناته، تعابير ملامح وجهه، التشخيص، اللكنة، تصور المشهد الشعري، الطبقات الصوتية.. إلى غير ذلك من أساليب الإلقاء الشعري التي ينهجها الراحل محمود درويش والتي لم يكن يفتعلها بكل تأكيد.
استحضار ذكرى رحيل محمود درويش إذن، مناسبة ليس فقط للترحم عليه وما إلى ذلك، بل هي فرصة للأجيال الجديدة من الشعراء للتعلم من تجربة شعرية حقة، على مختلف الأصعدة.

عبد العالي بركات

[email protected]

الوسوم , ,

Related posts

Top