“رحلة الصيف والشتاء” للقاص محمد إدارغة

يعد القاص والناقد محمد إدارغة من القصاصين الذين فضلوا الاشتغال في الظل، بعيدا عن الأضواء دونما سقوط في شرك المحاباة أو المواربة. واستنادا إلى تأريخات بعض نصوص “رحلة الصيف والشتاء”، نستطيع أن نقف ولو بشكل تقريبي على بداية اهتمام محمد إدارغة بكتابة القصة القصيرة، وتحديدا بداية الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كما تشهد على ذلك منشوراته على صفحات الجرائد الوطنية والمجلات. وتأكيدا على حضور القاص وأهمية نصوصه في هذه الفترة بالذات، نوردها تباعا، حجتنا في ذلك تاريخ نشرها في مجموعة “رحلة الصيف والشتاء”:
> شذرات من أدب الحمار :17/04/1987
> الزبون رقم 2: 23/04/1987
> لحوم في المزاد العلني:          05/06/1987
> مجنون فوق العادة: 14/04/1988
> السفر ممنوع والرزق على الله: 10/08/1993
> شطحات صحفي تحت التمرين: 11/08/1993
> قرب الوادي: 14/9/1999
 وبذلك يكون القاص محمد إدارغة قد أمضى، لحد هذه النصوص  على الأقل، ما يناهز اثني عشر عاما في تجريب وتطوير هذا الفن المستحدث.
أما عن رحلتنا في مقاربة هذه المجموعة القصصية فستقتصر على خمسة نصوص نوردها على الشكل التالي:
> أحمر على أبيض، لحوم في المزاد العلني، البيت والحجر
السفر ممنوع والرزق على الله، رحلة الصيف والشتاء
رحلة سلوكية.
ويعود سبب اختيارنا لهذه النصوص أساسا إلى ما تتيحه من إمكانيات بنائية تشجع على مقاربة فضاء الزمان كعنصر من العناصر الفنية التي تجسد في الكائنات الحياةَ والموتَ عبر انبعاثها ونموها واندثارها.
أول ما يثيرنا في هذه المجموعة القصصية ملفوظ “رحلة” الذي يحمل في بعده الدلالي مفهوما مزدوجا يجمع بين المكان المحاصر بسؤال أين وإلى أين كان اتجاه الرحلة، أما الزمان فقد حدد سلفا في الصيف والشتاء.
ينضاف إلى هذا التساؤل أسئلة مصاحبة نوردها كالتالي: ما دلالة الواو الرابطة بين الصيف والشتاء؟ ما طبيعة الرحلة وما غاياتها؟ وما حدود بدايتها ونهايتها؟  ولماذا تزامنت الرحلة مع الصيف والشتاء دون سواهما؟ هل ثمة ما يربط رحلة الصيف والشتاء برحلة الشتاء والصيف؟ وأخيرا هل يجوز القول بأننا أمام أدب الرحلة وجودا وتواجدا؟
يهتدي القارئ وهو يقارب المجموعة القصصية إلى الإقرار المبدئي بائتلافها في المكان واختلافها في الزمان، بحيث يقودنا هذا التفاوت إلى تتبع حضور زمان الصيف والشتاء لمعرفة أبعادهما.
> مؤشرات زمن الصيف:
وتمثلها محتويات القصص التالية:
حلم: حيث “الحرارة تخنق الأنفاس”
أحمر وأبيض: “وكان ضياء القمر قد كفى أهل العرس مؤونة إعداد لوازم الإنارة”.
قرب الوادي: “بين زوايا الخيام الرابطة في هذا الامتداد الجاف يراود جفونا ساهرة وبطونا خاوية على عروشها”.
البيت والحجر: “بيت عتيق قاوم لعقود طويلة عواصف الرياح ورطوبة الأمطار وقيظ الصيف”.
زعرودة في كأس: “البذلة السوداء الأنيقة التي تلف جسمه الثخين، وربطة العنق رغم شدة القيظ، والحذاء الأسود اللامع”.
وأخيرا قصة رحلة الصيف والشتاء حيث “أقبل على المقهى كباقي أيام الصيف العادية” و”شواظ صهد حارقة ورياح هوجاء تتقاذفها حبات الرمل”.
> مؤشرات زمن الشتاء:
وتتمثلها قصتين اثنتين من قصص المجموعة وهما:
> مجنون فوق العادة في: “ذات مساء ممطر” ورحلة الصيف والشتاء في: “ولت أيام الصيف الأدبار/ لم يعد غبش الليل يسمح بالرؤية الواضحة / سأنزل ضيفا مع بداية الموسم الآتي/ اكتفي بهذه القلامة من رحلة الشتاء/ فجاء المطر مدرارا، وكشفت تضاريس المكان عن أسرارها الدفينة/ ارتوت الأرض الصلصالية بسرعة جارفة.
استنادا إلى هذا التتبع الإحصائي، يتأكد أن الأمر يتعلق بأطوار رحلة جرت أحداثها وتحركت شخوصها صيفا، وأن مؤشرات فصل الشتاء لم تكن إلا نتيجة اضطرابات جوية حدثت في الصيف تحديدا، ويتأكد بموازاة مع ذلك أن الواو الرابطة في عنوان المجموعة غير دالة كما هو معلوم على مطلق الجمع والاشتراك، وتتأكد أخيرا هيمنة حضور زمن الصيف على حساب زمن الشتاء والخريف الذي لم يكن ليظهر لولا تأريخين وردا في آخر قصتين مكناسيتين: “شذرات من أدب الحمار” و”قرب الوادي”، واللتين تحملان معا توقيع: 14/9/1999.أما زمن الربيع فيكاد يكون منعدما لولا ورود إشارتين باهتتين في لوحة الغلاف وفي قصة “رحلة الصيف والشتاء” حين ” وجد الاخضرار والرونق وجد للمياه الرقراقة خريرا بين الجبال والشعاب والأودة والسواقي” (ص64).
وأمام زمن الصيف الموحش، زمن اشتداد الحر وزمن العهارة والدعارة، وحيث الانتهاكات والخيانة لا تتوقف بالليل والنهار في البيت والقرية والمدينة والخيمة..
وضع كهذا سيولد لدى الإنسان إحساسا مفرطا بالزمان، “فيصاب بالذهول، ويزداد انشداده إلى البقاء، وتمسكه بالحياة ضدا على عواديها”(1)، تلاحق الإنسانَ العنةُ في تعاقب الفصول وسيادة الأبيض على الأسود، وهو نفس الإحساس الذي سيترجمه البطل حين قال: “أحاول تجسيم الأسباب الممكنة وراء هذا القلق الساطع المتعملق في ترسبات الأحشاء، الدنو سريعا من عتبات الشيخوخة احتمال، حدة الحساسية والإحساس احتمال، فظائع الزمان والمكان احتمال، انتكاس البشرية احتمال…”(2) تلاحق في تعاقب الفصول وسيادة قوة الأبيض على الأسود.
لقد أبان القاص  والناقد محمد إدارغة، في هذه المجموعة القصصية عن حس نقدي بمقتضيات الواقع، من خلال انشغاله بسؤال الكتابة القصصية في علاقتها  بإشكاليات الواقع على امتداد العقدين الثمانيني والتسعيني، واهتمامه المتزايد بطبقة المنسيين والمهمشين أو “الناس اللي تحت”(3)  على حد تعبير يوسف إدريس، محذرا من قدرة الزمان على تدمير المكان والإنسان، واستمرار انتشار زمن الخيانة والعهر حتى ضياع الإنسان في حمأة الموبقات والدنايا، فتتوقف الرحلات في كل الاتجاهات، ويغوص العالم العربي هنا وهناك في مستنقع اللا أدرية حتى إشعار آخر.
 بهذا الطرح النقدي، تكون القصة القصيرة قد راهنت على وصف الواقع وتثوريه في انتظار تغييره ولملمة جراحاته.

المراجع:
< انظر كتابنا: الفضاء الروائي في أعمال سحر خليفة، مطبعة أنفو برانت، الطبعة الأولى. ص:119.
< رحلة الصيف والشتاء. ص: 105.
< يوسف إدريس: مسرحية “الناس اللي تحت”.

بقلم: عمرو كناوي

Related posts

Top