“رحلتي إلى اسكندنافيا” كتاب توحدت خارطته مبنى ومعنى للكاتب عمر لوريكي

فكرت منذ مدة أن أطل على جنس أدبي آخر.. فكان أدب الرحلة يقودني، فاتحا أبوابه، خاصة بعد وقوفي مع تلامذتي عند مهارة الوصف / وصف رحلة، حيث كان نص الانطلاق مقتطفا من إحدى رحلات ابن بطوطة إلى مكة المكرمة، فوجدت نفسي مشتاقة لقراءة هذا النوع من السرد، وحصلت خلال نفس المدة على كتاب الأستاذ عمر لوريكي الموسوم بعنوان: رحلتي إلى اسكندنافيا.

 ربما كان ابن بطوطة أول من فتح باب الكتابة الأدبية في أدب الرحلة في كتابه: “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. هذا الأدب المميز والرائع والذي يوثق لنا صاحبه رحلاته ومشاهداته وانطباعاته عن البلاد التي زارها، كما يصف لنا سلوكات وعادات وتقاليد سكانه..

هو أدب وُجد منذ القرن العاشر الميلادي في أدبنا العربي ولا زال مثمرا حتى يومنا هذا، ومن أمثلته نستحضر، على سبيل الذكر لا الحصر، بعض العناوين:

– جولة في ربوع آسيا بين مصر و اليابان. لمحمد ثابت؛

الرحلة إلى أمريكا. لمحمد لبيب البتنوني؛

– أمريكا الوجه الآخر.  ليلى أبو زيد؛

– مشاهدات سائح في المماليك الأوروبية. عبد الوهاب ابو العيون؛

– تعال معي إلى أوروبا. لفرح جبران؛

– سلوى الأسفار في الرحلة إلى خير الديار. لمحمد بازي؛

 وكتاب: “رحلتي إلى اسكندنافيا” لعمر لوريكي معلنا بعنوانه على هذا الانتماء إلى الأدب الرحلي.

إنها تجربة مميزة عاشها الكاتب بكل تفاصيلها فدوّنها في كتاب من 74 صفحة، تؤثثها عناوين أمكنة زارها الكاتب وتركت أثرا جميلا في نفسيته، مثل: كوبنهاكن / لوند / لينيرو / كوتنبورغ / سكوروب / …   إلخ،  إضافة إلى كون الكتاب يضم صورا فوتوغرافية التقطها الكاتب عمر أثناء هذه الرحلة.

 لقد استمتعت كثيرا في التجول والسفر أنا أيضا، أثناء قراءتي لهذا العمل السردي. جلت الشوارع وجبت الحدائق ورأت عيني مارآه الكاتب وكأنه يقين، لأن لغة الكاتب لم تكن تكتفي بالتصوير فقط، بل كانت تتعداه إلى تشريح الموصوفات، إنه يملك مفاتيح لغة واصفة ممزوجة باستعارات وتشبيهات.

 يقول في الصفحة رقم 15: “الجمال الذي تكحلت به “لوند” ليس كما يبدو فعلا، ولا كما ينبغي أن يكون. إنها فتاة نحيفة أخطأت في حق حبيبها السابق مرارا و تكرارا..”.

 يتابع الكاتب هذا الوصف الباذخ في ص20 : “لوند في الصباح مزينة، فاتنة جدا، ممشوقة القوام، تغري بالدردشة، واحتساء فنجان قهوة بإحدى مقاهيها الراقية…”. إنها لغة شاعرية وشعرية، لغة تمتح من الطبيعة الخلابة للسويد.

فُتن الكاتب بهذا الجمال فشبه  المدن بالأنثى.. وتطل فلسفة الحياة على الكاتب وهو في طريقه إلى كوتنبورغ والذي سماه بالسفر الروحي إلى الماضي والآتي، ليقول: “لم تجرح الموسيقى الأشجار حين لا ترنو إلا للبكاء على أطلال نائية عن الأنس والدفء… الأشجار حوار صامت وعالم آخر من العذابات… ما تقدمه الطبيعة أكبر بكثير مما نقدمه نحن” ص 39.

 هو عمر الهاوي للتصوير الفوتوغرافي والمونتاج والكتابة، جعلنا نقرأ الرحلة ونشاهد الصور ونتأمل الأمكنة والفضاءات، غير أننا ذهبنا هناك رفقته بدون تأشيرة وبلا مطارات وبلا حقائب.. فلغته مشحونة شعريا، مختزلة عبارة، فتارة نجد أنفسنا بين عقلانية وواقعية المكان والزمان.

 وتارة يأخذنا بوجدانية شعرية ويبحر بنا في فضاءات الأخيلة الأرحب، يقول في ص 53 وهو يصف غابة سكوروب: “غابة سكوروب كامرأة بشعر مجعد ومهمل، كأنها فقدت زوجها منذ عشرين سنة، لكنها مازالت ترقب ظله وتخشاه، خشية حب لا رعب..”.

 أي وصف هذا الذي ينقلنا من الواقع ويسافر بنا

 عبر رحلة لغوية فاتنة؟ 

إنها لغة مكثفة ومزينة بلوحات تشكيلية ينحتها بريشة فنان، لغة حروفها تتلألأ جواهر في أسطر متناغمة نتنفس عطرها عبر الغابات والوديان والشواطئ والطرقات التي عبرها عمر خلال رحلته.

عاش الكاتب أياما لا تنسى باسكندنافيا، شرّع من خلالها البوح وأرّخ لهذه الرحلة، فوشح اللغة الوصفية بكل ما يأسر القارئ من بهاء.

عذرا لك أيها الكاتب، وأنا أكتب، غابت عني أشياء كثيرة قرأتها في هذا النص الرحلي الماتع والممتع، ولن أستطيع القبض على هذه الرحلة الممتدة من مدينة مراكش إلى شمال القارة الأوروبية، وعذرا لك أيها القارئ فالكتاب لن تنتهي متعته وإن أنهيت قراءته، فهو كتاب توحدت خارطته مبنى ومعنى، وما قدمته مجرد استكشاف لهذه الرحلة.

بقلم: مينة حدادي

رئيسة فرع رابطة كاتبات المغرب باشتوكة أيت باها

Related posts

Top