رحيل أيقونة العيطة الفنانة الحاجة الحمداوية

توفيت الحاجة الحمداوية، أيقونة فن العيطة، فجر يوم أمس الاثنين، بمستشفى الشيخ زايد بالرباط. وكانت الحاجة الحمداوية التي تصدرت المشهد الفني بأغانيها المميزة منذ عقود، قد تعرضت لوعكة صحية ناتجة عن مضاعفات إصابتها بالسرطان، ما استدعى نقلها للمستشفى.
يذكر أن الحمداوية عاصرت المجد الذهبي للأغنية المغربية في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وذلك قبل أن تعلن عن اعتزالها الغناء خلال الأشهر الماضية.
وتعتبر الراحلة التي فارقت الحياة عن عمر ناهز 91 سنة، من أقدم الفنانات المغربيات في مجال فن العيطة، إذ ارتبطت به منذ ظهورها على الساحة الفنية، في وقت كان المجتمع المغربي المحافظ، ينظر فيه إلى الفن بنوع من التحفظ والحذر.
ورثت الحاجة الحمداوية – واسمها الحقيقي الحجاجية الحمداوية – حب العيطة، عن والدها الذي كان يعشق هذا الفن، وكان لا يدع مناسبة تمر دون الاحتفال بدعوة “شيخات” العيطة.
بعد إنهاء زواجها في سن 19 عاما، دخلت الحاجة الحمداوية عالم الفن من باب المسرح ضمن فرقة الفنان المغربي بوشعيب البيضاوي، ولم تكن تعلم وهي تؤدي أدوارها المسرحية أن طريقا آخر سينفتح أمامها وسيكون لها فيه الريادة ولن يفارقها عنه سوى وهن الجسد وضعفه.
تحولت الحجاجية من المسرح إلى غناء العيطة بعدما لمس البيضاوي في صوتها بحة مميزة، وفي العيطة وجدت ذاتها وأبدعت وأتقنت حتى صارت أغانيها على كل لسان، وتركت بصمتها الخاصة على تراث مغربي عمره قرون.
كانت الحاجة الحمداوية ضيفة دائمة على مخافر الأمن الفرنسي في مرحلة الاستعمار، فبعد كل أغنية تغنيها يتم استدعاؤها واستنطاقها بشأن معاني كلمات الأغنية والمقصود منها والتلميحات التي وراءها.
وحين غنت الحمداوية في الخمسينيات أغنية “آش جاب لينا حتى بليتينا آ الشيباني… آش جاب لينا حتى كويتينا آ الشيباني… فمو مهدوم فيه خدمة يوم”، لم تكن تعلم أن هذه الكلمات التي صارت على لسان جميع المغاربة ستصبح علامة فارقة في قدرها.
فبسبب هذه الأغنية ذاقت مرارة السجن والتعذيب، إذ اتهمتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الدار البيضاء بلمز وذم “بنعرفة” الذي نصبته سلطات الحماية الفرنسية سلطانا على المغرب بعد نفي السلطان الشرعي محمد الخامس.
وكما تعرضت الحمداوية للاعتقال والتعنيف، تعرض عدد من فناني العيطة من جيلها للقمع والتضييق في تلك المرحلة، حيث كانت الفرق الغنائية التقليدية تتنقل بين المدن والقبائل بترخيص وإذن مختوم من الإدارة الاستعمارية، فكان يحرم منه الفنانون الذين يغنون أنواعا معينة من “العيوط” خاصة تلك التي يعتبرونها تحريضية وتقوي العاطفة الوطنية والدينية.
لم تتحمل الحمداوية المضايقات المستمرة التي تعرضت لها بسبب أغانيها، فحملت أوجاعها وهاجرت إلى باريس حيث تعرفت على ثلة من الفنانين المغاربة والعرب.
وفي عاصمة الأنوار، أبدعت في أداء أغان جديدة ظلت علامات فارقة في مشوارها الفني، لكن المضايقات والاستجوابات لم تتوقف من طرف عناصر الأمن، فرجعت إلى المغرب بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى.
بعد الاستقلال بدأت نجاحاتها تتوالى، فغنت في القصور الملكية في عهد 3 ملوك: محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، وغنت في حفلات الجنرال محمد أوفقير ورجال الدولة، كما شاركت في إحياء زفاف الملك محمد السادس وشقيقه الأمير مولاي رشيد.
كانت وقفتها على المسرح وهي تحمل الدف وترتدي القفطان المغربي الأنيق، تضفي على أدائها سحرا جعلها تحظى بإعجاب الجمهور واحترامه وتقديره.. لقد أضفت الراحلة على هذا التراث الموسيقي والشعري المرساوي طابعا عصريا حيث اعتمدت توزيعات موسيقية عصرية باستعمال مختلف الآلات الحديثة التي بوأتها إلى مستوى السمفونية، وسيظل خالدا مشهد وقوفها شامخة أمام جوق موسيقي ضخم خلال إحدى سهراتها الكبرى بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط والتي نقلتها التلفزة المغربية ءانذاك وأثارت دهشة الجميع.. الشيء الذي زاد من إشعاع أغانيها وانتشارها على نطاق واسع..
رحم الله الفقيدة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

***

شهادات في حق الحاجة الحداوية

  • الفنان الموسيقي الأستاذ مصطفى أحريش

تعد الراحلة الحاجة الحمداوية من أقدم الفنانات على مستوى الأغنية الشعبية الموسومة بالعيطة. انطلقت مسيرتها الفنية في عهد الاستعمار. منذ أن كانت طفلة، ساهمت في ترسيخ الأغنية المرساوية البيضاوية، إلى جانب ثلة من الفنانين، حيث أعطوا لهذا النمط الغنائي شكله العصري.
كان المنطلق هو المسرح، حيث كانت تجمع بين التشخيص المسرحي والأداء الغنائي في العرض نفسه، ضمن فرقة بوشعيب البيضاوي، لكن بعد رحيل هذا الأخير، شقت مسارها الفني الخاص بعد أن تشبعت بالتراث الغنائي الشعبي، العيطة منه على الخصوص، وأدت بصحبة الجوق العصري الوطني مجموعة من الأعمال الغنائية المستمدة من فن العيطة، كما قامت في ما بعد بتأسيس جوق خاص، وظفت فيه آلات لم تكن تستعمل في غناء العيطة كالقانون وغيره.
لقد عصرنت الراحلة هذا الفن وأعطته إشعاعا قويا، وكانت تتميز بلباسها التقليدي المغربي، وجالت مختلف قارات العالم، حيث يمكن اعتبارها سفيرة حقيقية للفن الشعبي المغربي بمختلف أبعاده.
من خصالها المميزة أنها كانت تعطف على الأطفال اليتامى والمتخلى عنهم وترعاهم إلى أن ينجحوا في حياتهم.

  • الباحث في تراث العيطة الدكتور والشاعر حسن نجمي

حافظت الحاجة الحمداوية على فن محكي شفوي، وتركت بصمتها المتميزة فيه، فقد أعطت هذا التراث الموسيقي والشعري نفسا عصريا. كلمات أغانيها مأخوذة من معجم العيطة بتوزيع موسيقي عصري، أي أنها أخضعت العيطة لمقتضيات التوزيع الموسيقي الأوركسترالي، مما جعل فنها سريع الانتشار ويلامس العمق والوجدان المغربي العام.

Related posts

Top