رمبيتكو

“رمبيتيكو”هو مصطلح يطلق على الأغاني الشعبية اليونانية التي يرددها الفقراء والمسحوقون ليفرحوا قلوبهم المثقلة بالأسى، أغاني لا تكتمل إلا بسنطور يؤازره كمان وعود مع كيتار وبزق برقبة طويلة وجسم كمثري و لابد من رق محاط بصنوج وصوت مطرب او مطربة يلعلع في الفضاء.

أما “رمبيتيكو ” فهو اسم لفيلم عن دراما موسيقية جسّد (40) عاما مضطربة من حياة أسطورة الغناء الشعبي مطربة الربيتيكو “ماريكا نينو”، الفيلم تم عرضه عام 1983 من إخراج (كوستاس فيريس) وتأليف (سوتيريا ليوناردو) مع بعض التحريف عن القصة الحقيقية لماريكا لكنه حافظ على نقل المُشاهد إلى معايشة أجواء حقيقية من تاريخ اليونان.

ولدت المغنية ماريكا في سميرنا، تركيا في عام 1917 وهي اللقطة الأولى في الفيلم، والدها بشاربه اليوناني يعزف البزق ويغني قائداً تخت موسيقي من عازفين في ملهى ليلي بائس حيث الجميع سكارى تظلل رؤوسهم سحابة من دخان سكائر

يتم ترحيل ماريكا وعائلتها إلى اليونان مع جميع اليونانيين الآخرين في سميرنا عندما كانت في السابعة من عمرها، عاشت العائلة من عملها في ملهى ليلي لرجل يدعى (توماس) كان مالك الملهى والعشيق، كان يسكب كأسه أكراماَ لأم ماريكا ويحمل لها نهاراً عظمة مع نتفة لحم ملفوفة في كيس من أجل الصغيرة ماريكا ودبوس شعر لها من أجل لحظة خلوة بينما الزوج يتظاهر انه غير موجود في الدار، انتهاك للكرامة الزوجية مقابل لقمة عيش.

كان الأب قاسيا في تعامله مع ابنته ماريكا التي اعتادت وهي طفلة ان تأكل من ثمن رقصها بالشارع، كبرت قليلاً لتجلس مشاركة العازفين في الملهى تتوسط والديها وفي يدها رق بصنوج، بينما أمها تعزف وعيونها مفتوحة على سعتها تنظر للمجهول غير آبهة بنظرات الذئب توماس.

كان بعد اغلاق الملهى يبقى توماس يلاحقها في الشارع ويقنعها بأن تهجر عائلتها وتذهب معه للعيش، كان ترد عليه: أخاف من قدري، يجيبها توماس: أنا قدرك يا أدريانا ….أنا أحبك وسأخذك بعيدا.

ينشب عراك بين أم ماريكا و زوجها بدأه الزوج حين اتهمها بأنها تتظاهر بالمرض لتلحق حبيبها، انفجرت في وجهه لتذكرّه بأنه يبيعها ويعود ليحاكمها، يتوسع العراك ليصبح بالأيدي في الشارع لينتهي برمية كرسي من الزوج تجاه زوجته أردتها جثة في الحال ملقاة في الشارع بقميص نوم لا يستر جسدها، كله أمام أنظار الطفلة ماريكا التي لم تفهم سوى أن تجلس قرب جثة والدتها على أمل أن تكون على قيد الحياة.

بعمر (16) عاما تتزوج ماريكا من صانع ألعاب سحرية يتنقل بين القرى كالغجر في عربة تشاركه عروضه البهلوانية تاركة خلفها والدها للأبد.

تصارح زوجها بأنها حامل، يرد عليها بسيكارة في فمه وبؤس في عينيه بأن هذا ما كان ينقصه، بعد الولادة قال لها: الآن لا تقدرين على العمل هناك طفلة بين يديك والناس لم تعد تهوى مشاهدة الألعاب السحرية وتوجهوا لمشاهدة السينما ذلك الاختراع الجديد ولا أحد يرغب بنا بعد اليوم، عليه قرر أن يترك عائلته الصغيرة ويهاجر، لم ترمش عينيها ماريكا وتقبلت ما سمعت ببرود.

انضمت للفرقة التي تحيي جلسة الغناء كل ليلة في ملهى توماس وكانت تضرب على الرق بين صديق طفولتها ( يورغس” وعازف البزق الشاب “بابس” الذي بدأت تميل اليه وأنخرطا في علاقة حميمية، أقنعها حبيبها “بابس” بأن لها صوت جميل وعليه توجب إن تغني لا أن تجلس صامتة تضرب على الرق وعند تحويلها للغناء ستجني مالاَ أكثر وستتحسن معيشتها

جلست في التخت الموسيقي والكل يعزف ويحدق بها لتبدأ وصلتها الغنائية، خرج صوتها بلوري بعد أن مر شريط حياتها أمام عينيها كأنه فيلم سينمائي كل لقطاته تحكي عن عذابات ذاقتها من ضربها بحزام والدها ومنظر جثة والدتها ممددة وسط الشارع.

غنت وانطلق صوتها ليدهش الحضور، صمتوا عن ثرثرتهم المعتادة حتى كسروا الصحون أكراماً وصدق القائل : إذا فرح اليونانيون كسروا الصحون.

بعد التحاق (يورغس) بخدمة الجيش ايام الحرب العالمية الثانية، تركت ماريكا بلدتها واتجهت الى أثينا للعمل في ملهى (بابس) الذي سبقها هناك وقد تعدلت أحواله و زادت أمواله وأمتلك ملهى خاصاً به، لكنها وجدت أمامها غريمة تنافسها بضراوة، لها صوت وشهرة أوسع أضافة لأمتلاكها قلب “بابس”وهي المغنية اليهودية الشهيرة “روزا أشكنازي”أحتد المد والجزر بين المطربتين لينتهي بأنتحار روزا بعد أن قطعت وريدها بسكين

تركت ماريكا أبنتها (أدريانا) اثناء الحرب العالمية الثانية مع والدة (يورغس) التي يحلو لها قراءة رسائل أبنها من الحرب على مسامع ماريكا كلما عرجت للأطمئنان على أبنتها

بدأت أجواء الحرب تفرض سطوتها حتى على الشبابيك التي غلفت بورق أزرق، شح الأكل و زيت الزيتون في بلد الزيتون وكانوا يتقاسمون الموجود بينهم، (بابس) بعد أنتحار (روزا) بهتت علاقته بماريكا وظهرت غريمة جديدة شابة هذه المرة أسمها (ماتينا) يتحجج (بابس) بأنه يريد ان يمد لها العون لتأخذ نصيبها في الغناء، لكن ماريكا شمت رائحة حب بينهما فأشتعلت غيرة لم تنطفئ بعدها.

أنتهت الحرب وعاد من بقى منهم حياً و كان (يورغس) بينهم، أول ما فعله هو التوجه للملهى لرؤية ماريكا التي كان قد أوصاها بالأعتناء بوالدته أثناء غيابه لكن العكس حصل، ما أن وقعت عيناها عليه جالس على طاولة أمام كأسه حتى أتجهت نحوه تسأله :كيف كانت الحرب؟ أجابها بمرارة: كثير من الدم كثير من ألكذب

انضم (يورغس) للتخت الموسيقي عازفاً وعينه على ماريكا التي تتخبط أمامه في غيرتها على (بابس)، نصحها ان تولي انتباهها لابنتها ولو بزيارة لأمه لأن المسكينة تفتقدها هناك، وأخبرها بأن والدها جالس في الصالة يريد لقائها بعد سنين فراق والأرجح ان ظهوره المفاجئ بسبب فراغ الجيب أكثر من فراغ القلب، جلس (باناكاس) والد ماريكا يعبأ جوفه بأقداح العرق اليوناني ريثما تطل عليه أبنته التي كان يضربها بالأمس وتنام جائعة واليوم أصبحت مغنية يشار لها بالبنان، لم تخرج للقائه أرسلت عمال الملهى ليلقوا به خارجاً، وقف غير مصدق ونظر أعلى رأسه كان أسم ماريكا مكتوب بخط كبير وقد غطى لافتة الملهى، حدق في الأسم ثم بصق ومشى

بعد أن خمدت الحرب الأهلية اليونانية عام 1949، قامت ماريكا بإيداع ابنتها في مدرسة داخلية، يوم التحاقها كانت تمسك الطفلة بيد (يورغس) المنحني عليها شفقة وعلى خطوات منها تقف أمها ماريكا منشغلة بتدخين سيكارتها دون ان تفكر حتى في ضمها لصدرها لحظة، رحلت المسكينة وهي تتلفت بأتجاه والدتها

أنشغلت ماريكا في غنائها وبدأت تسجل اغانيها على أسطوانات يعزف لها صديق الطفولة (يورغس) والحبيب المستحيل (بابس)، كان صيتها قد طش في العالم واصبحت أسطورة للريبيتيكو، لم يبقى الا ان تسافر الى الولايات المتحدة الأمريكية (شيكاغو) لأحياء حفلاتها هناك، عكر (يورغس) مزاجها بقوله أن أبنتها قد هربت من المدرسة الداخلية وتعمل راقصة لتغري زبائن ملهى (سيروس) بصباها المتفتح، ذهبت ماريكا أليها وسط وصلتها الراقصة ببدلة كأنها من أيام علاءالدين ومصباحه السحري وكحل عينيها أفسد برائتها وحركاتها بالتمايل توشي بأنها مبتدئة في مهنتها، سحبتها ماريكا من يدها بعيدا عن الصالة وبختها بشدة، ردت الصبية (أدريانا) على أمها قائلة : لم أجدك بجانبي يوماً لا في الحزن ولا في الفرح

سافرت ماريكا الى شيكاغو وبدأت في أحياء حفلاتها الواحدة تلو الأخرى وهي تغني لمحت زوجها الأول صاحب الالعاب السحرية ابو عربة الغجر والد أبنتها وقد بدا مختلفاً ببدلة أنيقة تحوط به بنات الليل ناثراً عليهن النقود، تركت التخت الموسيقي ومشت بأتجاهه تحدق به، عرفها ما أن وقعت عيناه عليها، وقف بعد أن نفض عنه كومة الزنابير من بنات الليل، انحنى أمامها و رفع يدها ليقدمها لفتياته قائلاً : ماريكا العظيمة.

ماتت ماريكا عند عودتها لأثينا بطعنة في بطنها ليلة احتفال صاخبة في الشارع بمناسبة عودتها، حملوا نعشها أفراد فرقتها بينهم يورغس وبابس وقبل أن ينثالوا بالتراب على النعش رموا عليه ذاك الرق بصنوج يوم كانت تدق به قبل أن يخرج صوتها على العالم، عند انتهائهم من مراسيم الدفن وكانوا جميعاً يحملون الآلاتهم الموسيقية، بدأوا يرقصون على عزفهم لأحدى أغنياتها، رفعوا قبعاتهم في الهواء صائحين: أفرحي يا ماريكا إنك فوق في الجنة، و رقصوا وكان رقصهم كالبكاء

الوسوم
Top