“رمضان” في قصص مغربية وأجنبية الحلقة1/2

حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.

        سيدنا قدر

> بقلم: مبارك ربيع

وإذا فكرة تشغل ذهناها. ترى أينبت شعرها دفعة واحدة فيما لو رق لها سيدنا قدر؟ وغذن فستنزل مثلا من على السطح وخصلات طويلة تنسدل إلى عجيزتها. ويفجا القوم. ولكن هذا كفيل بأن يفاجئها هي أيضا. وستنهال عليها مسعودة حسدا بالشتائم وربما بالضرب. ولكن مفتاحة قادرة في ذلك الوقت على أن تغادر الدار. إنها فتاة بالشعر، ترغب فيها كل البيوت كأختها. أختها، آه. حقا إن أختها لسعيدة. عندما تجلس لتمشطه يشكل كومتين من السنابل على جانبيها. أسود فاحم. وقد تزوجها ابن السيد الذي تخدم في بته من أجل شعرها ولا شك. ترى أي لون سيتخذ شعرها هي مفتاحة؟ ليكن فاحما كشعر أختها. وهذا يكفي. ولكن ماذا سيقولون إذا نزلت إليهم وقد أصبحت مفتاحة غارقة في الأسود الفاحم؟ إنه يلائم بشرتها البيضاء ووجهها البدري، وستتقدم يد مسعودة لتتحقق من أصالة الشعر، فتحاول أن تنتف بعضا منه وهي تردد:
ــ أيتها القرعاء، أيتها..
أما سيدها الكبير، إذا علم بالخبر، فسيطلبها وقد يقطع الدرجات نازلا إلى المطبخ، ليرى المعجزة، وهو يتمتم لتعظيم الله، ويده تداعب السبحةاللؤلئية.
أما سيدها الصغير فإنه يتزوجها. وتبتسم هي لسيدها الصغير في خفر، وهو يمد يدها إليها.. ولكنها صاحت بنفسها:
ــ أيتها القرعاء أنت تحملين، وأفاقت مذعورة من نوم أوشك أن يستغرقها، وتركت المدخنة. الدفء يجلب النوم، وحينئذ قد تضيع منها فرصة سيدنا قدر. ترى ألا يكون بالفعل قد مر أثناء غفوتها الخفيفة؟ وتلتفت إلى كل جهة. فإذا الليل حالك ما يزال. والنجوم تتراقص، والمدينة تتوهج بأنوارها على مرمى البصر. وعادت توبخ نفسها على إغفاءتها، إذا عادت إلى ذلك فلن تفيد شيئا من ليلتها. يجب أن تظل يقظى حتى آخر الليل، حيث يمر سيدنا قدر حاملا السعادة والبهجة لكل من كتبت لهم، وعادت تصيح بنفسها.
ــ أيتها القرعاء، إذا نمت..
وشرعت تذرع السطح ذهابا وغيابا دفعا للنوم، وسرعان ما نجحت في استعادة نشاطها رغم البرد القارس، وغمرتها البهجة للمنظر الذي تتمتع به وحدها في حرية، تنظر الأمل، وإذا هي تدندن بأغنية قديمة:
شعرك يا زين طوله قاما..
ريحة الورد والمسك والخزاما..
شعرك يا زين..
وما من شك في أنها قضت ساعات طوالا في موقفها ومسيرها على السطح حين خبت أنوار المدينة، وسطع فجأة من جهة الشرق نور وهاج. يا للجلال.. يا للروعة. ضياء من ألف لون لا لون له، لونه الامن والطمأنينة والسلام. وشدهت مفتاحة والضياء يتقدم شيئا فشيئا، وخيل إليها أن تقدمه غير مطرد كأنه يتوقف أحيانا، ولم لا؟ إنه يتوقف لاتقاط دعوات المكروبين الساهرين، واغرورقت عيناها بالدموع، فانسابت على خديها متتابعة.. ومنطقة الضياء.. وتبحث مفتاحة عن الكلمات وهي تغص بريقها والدموع.
وتراءى لها وكأن الضياء سيجتازها وقبل أن تجد الكلمات، ماذا تقول؟ كيف تقول؟ سيدنا قدر؟ وترامت خلف الضياء في ذعر، وبدا لها وكأن الضياء توقف. هيا، إنه ينصت، ودارت في رأسها صور متداخلة: مسعودة تأمر، أختها تمشط، وسيد وسيم يبتسم، كلا، كلا، وصاحت: الشعر. الشعر يا سيدنا قدر، أسود فاحم كأختي. وخيل إليها وكأن الضياء يبتسم، وكان يد مطمئنة ربتت على كتفها، وكأن صدر حنان ضمها، وكأن منديل رحمة كفكف دمعها، فغمرت أعماقها دفقة أمن وسلام. وخيل إليها وكأن الضياء يتفتق عن أشعة سحرية لاهية ارتاعت منها أولا، لكن خدرا لذيذا بدأ يتسرب من اللهيب إلى مسام رأسها، وبدأ اللهب يبتعد متراجعا جهة الشرق، ولكن الخدر ناشئ عن شعيرات تكافح لتطفو على سطح رأسها الملساء لتغطي قرعتها. وانجلت إحدى مشكلاتها، إذن لن ينبت الشعر فجأة، لكنه ينمو شيئا فشيئا. وزادت حرصا على أن تنال رأسها أكبر ما يمكن من تعرض لأشعة اللهب الذي بدا كحريق مهول، في أقصى شرق المدينة. وبدت لها أشباح سوداء تتراقص بينها وبين اللهب، فتحجب عنها أشعته الواخزة، برهة بعد برهة، إنها جماعات المكروبين الساهرين تتعرض مثلها لأشعة الرحمة. ألف شكر يا سيدنا قدر.
وعادت الأشباح تتراقص بينها وبين اللهب حينا بعد حين، وكلما حجب عن مفتاحة الشعاع أحست وكأن دلوا مثلجا يفرغ على رأسها. وتقاربت فترات احتجاب الشعاع ورجوعه، وأوشكت أن تصرخ بتلك الأشباح، بالرغم من تأكدها من أنها لن تسمعهاعلى هذه المسافة. حين سمعت أصواتا من بين تلك الأشباح تعلو:
ــ ارحموا الفتاة المسكينة. ارحموها واحرقوا مسعودة. وهتفت مفتاحة من أعماقها:
ــ شكرا يا سيدنا قدر. لا تحرقوها. لا. لا.
ووجدت نفسها تفتح عينيها محدقة في الشبح الهائل الساخط، الذي وقف يتمايل بينها وبين شمس الضحى اللاهبة. وذعرت مفتاحة وهي تقوم بغتة:
ــ للا للا مسعودة.
ــ يلوي لسانك. ناعسة في السطح إلى الظهر، ونحن نفتش.
وتقدمت مفتاحة نحو أسفل الدار تتحاشى الأذى.
تقدمت ساهمة كأنها تفكر في بعيد.

يتبع

< عبد العالي بركات

Related posts

Top