رواد في تاريخ الإسلام..آثروا الثورة على الثروة -الحلقة 20-

 “…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…

جمال الدين الأفغاني:  في طليعة المُصلحين ومُوقظ الشرق وفيلسوف الإسلام

الجاهل الحي مَيّت والعالم المَيّت حيّ

“….في هُداة الليل وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت يُنادي بفجر جديد، صوت ينادي حيّ على الفلاح، فكان رجعة في كل مكان إنه صوت جمال الدين الأفغاني موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد…”، بهذه الكلمات القوية الواضحة تحدّث المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي عن جمال الدين الأفغاني إمام المُصلحين ومُوقظ الشرق وفيلسوف الإسلام والعاصفة العاتية في وجه الطغيان والاستبداد والاستعمار.

صاحب النداء العميق

إنه حقاً صاحب النداء العميق لإيقاظ الأمة من سباتها الأعمق الأعمى، ولم يذهب مالك بن نبي كثيراً في وصف القائد الإسلامي الفذ، فقد سبقه علم من أعلام الفكر الإسلامي الحديث عندما وقف أمام قبره في الأستانة وقال كلمات أصبحت تعريفاً شاملاً لجهاد جمال الدين الأفغاني ونضاله، ولنا أن نستدل بما قاله أحمد أمين: “… إنه مُحرّر العقول ومُحرّك القلوب ومُزلزل العُروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات البنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرّية تضيق نفساً بحريته..”، ومع ذلك فإن جمال الدين الذي سنتابع أفكاره ليس جمال الدين أسد أباي (وهو أسمه الحقيقي) بل السيد جمال الدين الأفغاني كما ظهر في أسطورته التي استقرت خلال مقامه في مصر وبانت ملامحها من أقوال تلاميذه ومُريديه في تلك الفترة، ومن أهم هؤلاء الإمام محمد عبده وأديب اسحق وسليم العنجوري كما ظهر في كتاباته حيث (العروة الوثقى) التي أصدرها كمجلة أسبوعية في باريس سنة 1884 بالتعاون الوثيق مع الشيخ محمد عبده، وكما ظهر في كتابه (الرّد على الدهريين)، وكما ظهر أخيراً في خاطرات جمال الدين الأفغاني التي جمعها محمد باشا المخزومي.

حياة حافلة

ليس من المُبالغة القول أن حياة الإمام الكبير أشبه بالأساطير، فقد تنقّل من بلد إلى آخر، وفي كل موضع حلّ به أثار المعارك العاصفة فبقى غبارها وآثارها عند لحظة نفيه أو ترحيله من هذا البلد إلى ذلك، فترك في كل وطن جذوة من النار والثورة مُشتعلة في وجه الفساد والظُلم والطغيان، وليس من المُبالغة أيضا أن شخصية جمال الدين الأفغاني هي أكثر شخصيات العالم الإسلامي الحديث إثارة ومُدعاة للدهشة، فهذا الأفغاني إسماً والإيراني حقاً، السني على ما يُعلن والشيعي في الصله، ترك موطنه (ليكن ما يكون) ومنهما إلى الهند إلى مصر إلى تركيا ثم إلى مصر ثانية حيث عاش حتى سنة 1879 قبل أن تتخذ حكومة الخديوي توفيق قرار بنفيه بحجة أنه رئيس جمعية سرّية من الشبان ذوي الطيش مُجتمعة على فساد الدين والدنيا، وهبّت به العواصف، فها هو ذا يتقلب بين المناصب فَيَصلُ إلى مَنصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) في وطنه في حكم الأمير الوطني محمد أعظم خان ثم رحل عن البلاد بعد هزيمة هذا الأمير أمام خصمه (شيرعلي)ُ الموالي للانجليز، وفي إيران دخل في صراع مع الشاه المُستبد نصّار الدين وأجبره على سحب امتياز شركة التمباك الانجليزية (ريجي) بعد أن نجح في جعل الشعب يقاطع إنتاجها، ممّا جعل الشاه يرسل خمسمائة من فرسانه يقتحمون عليه فراش مرضه في مكان مُقدس عند الإيرانيين هو (شاه عبد العظيم) ليقودوه إلى محفة خشنة وهو ينتفض من الحمى إلى خارج الحدود، وعندما طلب منه السلطان عبد الحميد وقف الهجوم على الشاه ناصر الدين أجابه إجابة أفزعته إذ قال: امتثالاً لشارة أمير المؤمنين فإني عفوت عن الشاه ناصر الدين”.

أراضي المغربين

يروي شكيب أرسلان في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) “…..لقد تقلب الأفغاني كثيراً هنا وهناك، فها هو يتقلّب بين أراضي المغربين، أياما في باريس وحينا في روسيا ثم يعود إلى فارس وأخيرا يُراد له بالأمر السلطاني النافذ أن يستقر شبه سَجين في الأستانة، لقد ترك هذا الرجل فيمن اقتربوا منه أعظم الأثر كان يريد أن يكون رجلاً حكيماً من الحُكماء العظام ولكنه في الواقع كان مُشغولا بالعمل راغباً في تغييّر الواقع بكل الوسائل المُتاحة له، من تدبير الثورة إلى التحريض عليها إلى الكتابة في الصحف حتى الدردشة في مقاهي مصر وتحت سماء الأستانة يُوزع الثورة بيمناه والسعوط بيسراه، أقام ما أقام لمُحاربة واقع الطغاة والحكومات وأشعل من الثورات والانتفاضات ما لم يتيسّر بعضه لكثير من عظماء عصره وغيره من العصور، ورغم ذلك كله فانه عندما طلب البعض منه ترجمة مُوجزه لنفسه وحياته تحدّث بروح الثائر المُتواضع فقال: وأي نفع لمن يذكر أنني ولدت في سنة 1838 عمرت أكثر من نصف عصر، واضطرّرت لترك بلادي (الأفغان) مُضطربة تتلاعب بها الأهواء والأغراض وأُكرهت على مُبارحة الهند، وأجبرت على الابتعاد عن مصر أو أن شئت قل نفيت منها ومن الأستانة ومن أكثر عوام الأرض، كل هذه الأحوال خاطرت أي خواطر لا تسرّني وليس فيها أدنى فائدة للقوم…”.

السجن رياضة… النفي سياحة

ويواصل الأفغاني مُعقبّا على شهادته قائلا: أما القول بأنها لا تسرّني لا بمعنى أني نفيت من البلاد أو سجنت كلا، لأني أعتقد أن السجن بطلب الحق من الظالمين العُتاة رياضة والنفي في ذلك السبيل سياحة والقتل شهادة وهي أسمى المراتب، فأنا عن نفسي راض، ذلك لأن الحَمُول قد قعدت بي فلم تُوصلني إلى أسمى مرتبة وهي مرتبة الشهادة وحظني في مَصاف المَنفيين من أرض إلى أرض والمَسجُونين فيها، فما أبعدني في كل هذا عن أولي الهمّم، ومن قام بالأعمال الخطيرة أو المطلب الجلل..”.

الاستعمار والشرق

في عام 1868 والأفغاني في عنفوان شبابه وبدايات حياته العملية وتجاربه في الحكم والسياسة والسعوط، أتى النفوذ الاستعماري إلى قبل بلاده حينما ساند الانجليز الأمير الافغاني (شير علي) ضد الأمير الوطني محمد اعظم خان الذي استعان بجمال الدين الأفغاني وشاركه مشاركة فعلية في الحرب الوطنية دفاعا عن بلاده، ولكن النصر في هذه الجولة كان من نصيب الأمير الخائن ومن خلفه النفوذ الاستعماري،ُ فاضطر جمال الدين إلى مغادرة وطنه ليوادعه في كل مكان نفوذ الاستعمار وليكون في كل قطر أو بلد حرباً على هذا الاستعمار والاستبداد، وهما المعركتان اللتان صنعتا تلك الصفحات المَجيدة لهذا المناضل الفيلسوف، فالواقع أن الحرّية التي كان يقصدها جمال الدين عادة حين يستخدم هذه الكلمة لم تكن الحرّية الشخصية بل الحرّية القومية، أي الاستقلال الوطني سواء كان ذلك المُستبدين الشرقيين في داخل الوطن أو ازاء الاستعمار الأوروبي، وفي هذا يقول في واحد من اوضح اقواله بشأن الحرّية “..إذا صحّ أن من الأشياء ما ليس يُوهَب، فأهم هذه الأشياء الحرّية والاستقلال، لأن الحرّية الحقيقية لا يَهبها الملك والمُسيطر للأمة عن طيب خاطر، والاستقلال كذلك، بل هاتان النعمتان إنما حصلت عليهما الأمم أخذاً بقوة واقتدار..”.

أبناء الشرق

 هكذا أخذ الأفغاني  يُقارن الحرّية بالاستقلال وكأنهما شيء واحد أو شيئان مرتبطان جوهريا على الأقل، فها هو يتحدث إلى أبناء الشرق مستنهضا عزيمتهم لمقاومة المستعمر منكرا عليهم استكانتهم وخضوعهم قائلا: أنرضى ونحن المُؤمنون وقد كانت لنا الكلمة العليا أن تُضرب علينا الذلّة والمسكنة، أو أن يَستبد في ديارنا وأموالنا من لا يذهب مذهبنا ولا يَرد مَشربنا ولا يَحترم شريعتنا ولا يرقب فينا ذمة؟، بل أكبر همّه أن يسوق علينا الجيوش حتى يُخلى منا أوطاننا  ويَستخلف فينا بعدنا أبناء جلدته..”، أو حينما يقول “..إن أسلوب الأوروبيين الاستعماريين وهم بسبيل السيطرة على مقادير الشرق يقوم بين ما يقوم عليه على إقصاء كل وطني حرّ يُمكنه الجهر بمطالب وطنية..”، ويتضح هذا المعنى لكلمة الحرّية بأنها الشجاعة الأدبية من فقرة هامة من العروة الوثقى تتحدث عن المعنى المُضاد للحرّية كما يبتغيها الأفغاني فيقول “..إن المُولعين بحب الحياة يقضونها من خوف الذلّ في الذلّ، ويعيشون من خوف العبودية في العبودية، ويتجرّعون مرارات سَكَرات الموت في كل لحظة خوفاً من الموت لا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخار بنى الإنسان..”، وعندما يناقش العلاقة بين الشعب ومُستعمريه يحدّد معالم (الخيانة) فإنه لا يراها قاصرة على المُتعاونين مع الأعداء فحسب، بل يراها كذلك عاراً لاصقاً بالسلبيين والُمتهادنين في المعركة ضد هؤلاء الأعداء فيقول: “…. لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقد ويُسلمها للعدو بثمن بخس أو بغير بخس، وكل ثمن تباع به البلاد فهو بخس، بل خائن الوطن من يكون سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، ويدع قدماً لعدو تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها…”.

النداء الأخير

لم تكن معركة الأفغاني ضد الاستعمار الأوروبي محصورة في وطن، ولكنها ساحة مُمتدة لتشمل كل أوطان الشرق، ولذلك اهتم الأفغاني كثيراً بمفهوم الأمة الإسلامية حتى أن أحد أهدافه الكبرى كان بعثه من جديد إلى الحياة من أجل مُواجهة الحكام المُستبدين بالأمة واستثارة المُسلمين من الهند إلى الجزائر من أجل الوقوف صفاً واحداً في وجه الاستعمار الغربي، وبالتالي فقد عوّل كثيراً على دور الشعب في مقاومة الغزو الأوروبي مُوضحاً الدور الحاسم لحرب الشعب في الصراع ضد الاستعمار، ففي سنة 1883 وبعد أن احتل الانجليز مصر وسرّحوا جيشها الوطني الذي قاده عرابي، كتب الأفغاني في العروة الوثقى مقالا تحت عنوان (فرصة يجب ألا تضيع) تحدث فيه عن دور الجماهير المُسلحة بأسلوب حرب الشعب، وكيف أنها أجدى في ظروف مُعينة من الحرب النظامية التي تنهزم جيوشها بانهزام القيادات، وضرب لذلك أمثلة منها الحرب الوطنية الشعبية التي خاضها شعب الأفغان ضد ستين ألفا من قوات الانجليز فانتصر عليها بعد عامين من الاحتلال، نداء كتبه السيد جمال الدين (كما أحب أن يصفه تلامذته ومريديه) سنة 1883 وبعد أقل من عام على احتلال مصر في وقت باتت معركته مزدوجة ضد الاستبداد والاستعمار معا حتى انتقل إلى جوار ربه عام 1897 في حاضرة الخلافة الإسلامية، بعد أن بلغ الاستبداد ذروته بفعل التخلف والطغيان الذي نال أخيراً من حياة الإمام الثائر بمؤامرة أودت بحياته الحافلة بالنضال الثابت على القول والفعل، وكرس حياته فيها لإنقاذ الأمة من سباتها الأعمى وأخذ يرسم لنا طريقها الحاضري والمستقبلي ويقول لرجالاتها وعموم ساساتها: يبقى الجاهل الحي مَيّت والعالم المَيّت حيّ، فلا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون فهم…!!

Related posts

Top