رواية “المغاربة” بين ترميم عماء الضوء واتساع فداحة المعنى

” قال كلانا:
إذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معنى ورؤيا
لنذهب، لنذهب إلى غدنا واثقين
بصدق الخيال، ومعجزة العشب “
هذا ما قاله محمود درويش واصفا لقاء بينه وبين إدوارد سعيد قبل ثلاثين سنة في نيويورك، وهو اقتباس من مقال عن الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد كنت بصدد قراءته، غير أن كلمة “تجربة” الواردة في مقدمة المقال، والكلمات التي تلتها مثل : الماضي / الغد / المعنى / الرؤيا / الخيال، كانت كافية إلى ضفاف أخرى كنت أقيم وأهيم فيها، أقتنص فيها ضياءات ما تخفيه وتظهره وتوحي إليه وتحيا به روحي العطشى وهي تنقب عن ماء الفكرة وعشب المعنى، روحي التي تبحث عن دهشة ما تقود حتما إلى فتوحات آسرة في الخلق، فكان طيب المقام على أرض “المغاربة” رواية الكاتب المغربي عبد الكريم الجويطي، الكاتب الذي تطوعه السرود ولا يتوانى في استخلاص كيمياء الحكي البلوري الصافي.
“المغاربة” عمل استطاع أن يشغل حواسي ويتلبس حدوسي ويركن في زوايا وعيي ليهيج شعاعات الطرح والتساؤل، ويقلق كل سكون هجين ويزحزح كل صمت غير مبلل بطراوة الحوار والنقاش الجوانيين، ” المغاربة ” عمل ليس فقط يحترم الذوق والجمال وصيغ بأمانة علمية محكمة، وتتوفر فيه ميكانيزمات الكتابة المسؤولة، متطور على مستوى البناء والهيكلة، تتناغم فيه الخيوط الرابطة بين ما هو جمالي وفني، وأكثر من ذلك يكسر القالب الجاهز في تقنيات الكتابة ليهدي للقارئ / المتتبع رحابة مشتهاة وحرية الجمال المبتغاة. بل هو عمل روائي يفرض زحزحة تجعل القارئ يعيش انفعالات بانية، حيث تتحرك الذات، تمارس ارتباكها وتتشرب ذهولها، كيف لا وهي تلسع بالسر، فمتى حضر السر توجت الكتابة وارتقت وسمت، نعم السر هو ذاك التماس الذي يربط بين روحين: روح الكاتب وروح القارئ .. نعم في رواية “المغاربة ” تشبعت السر وعشت لحظة التماس، وكنت في غمرة اغتسالي الباطني بفيوض دسها الروائي المغربي عبد الكريم الجويطي في الوعي والوجدان ، فيوض الكتابة العابرة لشموس المعنى المتقد ، والمؤسسة بعمق الرؤيا، فليس ماضي الكاتب وحده يشكل تجربته كما
قال محمود درويش بل أيضا حاضره ومستقبله الذي سيمضي إليه بكامل وثوقه بصدق الجرح وجلال الحبر .. حين تتبعت فصول رواية “المغاربة” كنت أتأبط غبطة نادرة، ملكات روحي تصغي إلى لوعة المداد، والكاتب في تمام جرحه، يخلق بينه وبين القارئ / المتتبع مساحات نور، مساحات كافية لتفتيت عتمات التلقي ،قادرة على خلق جسور حية في التواصل ، مساحات مدد فيها حياده المطلوب لتمرير الإشارة ، حتى ينأى عن خنق القارئ بوصايا منهكة أو تسييجات تقيد تفكيرهذا القارئ أو تسطو على حريته وذوقه، حضر الموقف وحضرت العقلانية وحضرت الجرأة والصرامة كما حضرت الروية والمرونة في قراءة الكاتب لذواتنا والعالم من حولنا، وتحقق تمكن الكاتب من ضبط مفاتيح الخطاب الروائي المتين.. في رواية “المغاربة” يذوب الكاتب الفردي في الجماعي ليقترب من شراك الألم المشترك، ينزع بتفوق حيوات ممكنة من كل موت متكرر، يبرع في تدوير عجزنا إلى قوة غير مستلبة ، قوة مواجهة الذات، ويتمكن من استنطاق ومحاورات خراباتنا لنجيد صخب الصمت ونتعلم صمت الصخب، كما برع الكاتب في ترميم عماء الضوء فينا لتتسع فداحات الكون.. بين محمد الغافقي وبين أخيه العسكري عبد الهادي وبين صفية وبين حسن أوشن وبين هاملت وهوراشيو والباشا وآخرون عشنا مخاض سفر يؤرق ليشق ثوب تساؤلات حاسمة في تشكيل الوعي والتكوين والهوية والدين والإنسان ،تسائل الرواية وتعري أعطاب التربية والسلوك وتفضح علل التاريخ والسياسة والسلطة والقيم والعادات ، تسائل الحلم والحرية والحب والخيانة والخذلان، تسائل الوطن بكل ما للكلمة من سيول الانتماء والانكسار والهزيمة والعجز والموت والحياة والدم والتهميش والوجود والعدم .. رواية المغاربة حركت حبر العديد من النقاد والمهتمين وعشاق الأدب ، وصفحات عدة تناولت هذا العمل الروائي سواء بقراءات أكاديمية أو على شكل تأملات أو أخرى عاشقة أو على شكل انطباعات وغيرها ، والعمل جدير بهذه الوقفات الجادة وجدير بأخرى لتنوع وثراء ما ينطق به ، وكلها جهود تحسب لأصحابها لما تناولت ولما سبرت فيها من أغوار .. أما ورقتي هاته ارتايت أن تكون فقط عربون شكر للكاتب ، فقدمتها كالتقاطات خفيفة ، ولأن العمل حقا استطاع أن يخلف في كياني فرحا واعتزازا ،أصررت أن أوثق إعجابي ولو بحفيف كلمة وندف معنى .
تناولت الرواية وأنا في تمام ارتباك وعيي القبْلي، حيث تتراكم الأفكار المسبقة التي قد تفرزها البديهة وهي تقفز إلى سطح ما يوحي به الغلاف والعنوان، لكن ما إن شرعت في في التهام الصفحات وجدت شرودي تمتصه سطوة غريبة تملكتني، فغادرت ركني، وجهتي ذاكرة بكاملها، طفولة بكل طراوتها ،هوية بكل شروخها، وجرح بكل جبروته وكبريائه، عشت حتما لذة المكاشفة وقسوة الصدام ،وبينهما تطل المأساة الجماعية مقتلعة من واقع مضطرب حد الفناء ..
بين فصول الرواية، لم تكن مواويل جبل “بوكماز” الجريحة وحدها شاهدة على كل ذاك الدمار الموغل في الروح ، لم تكن نايات الرعاة شاهدة وحدها على حدة الآهات وهي تتلوى في حلكة الفراغات ، لقد كانت مواطن الخرابات المرصوصة في دم المعنى حاضرة بقوة تنطق ، نعم هي دعوة من الكاتب لميلادات جديدة، دعوة للمشاركة والتفاعل والتغيير من أجل فرد قادر على صنع الفكرة والرأي وصنع الحق والمصير، فرد مسؤول يحترم آدميته وإحساسه ووجوده، فرد يطبع بصمته في هذا الكون ويخلق تميزه، فرد يشغل العقل ويفعل فكره، فرد لا ينساق وراء القطيع.
فصول الرواية اتسعت برمزياتها وإيحاءاتها لتروي القارئ بما تحمله من أسرار، تقود إلى رغبة الكاتب في كشف الغطاء عن عطب الروح المغربية العربية البعيدة، الروح التي قرأها الكاتب بدقة وحلول ليعري ضمورها وهي مكبلة بالوهم والهزيمة والرضوخ، هي دعوة إذن من الكاتب أولا ثم من جوف موت العربي واستسلامه وعجزه لبعث همة وإرادة جديدتين لإحياء وجوده وبعث أنوار جديدة في بنيان الإنسان، الإنسان الحقيقي المنذور للحياة والحب وللإنسانية الحقة.
في رواية “المغاربة” يكتب عبد الكريم الجويطي ليهدينا فرصة الاستمتاع إلى لحظة حاسمة في لعبة الكتابة، يكتب لكي لا يسكت الصوت الداخلي. تقول “سيلفيا بلاث ” أنا أكتب فقط لأن هناك صوتا في داخلي لن يسكت.

Related posts

Top