“زورق إيلان”.. سؤال الهوية وسؤال الحرية

(هل يصح أن تختزل كل هذا العالم ـ بكل قضاياه ومسائله وأسئلته ـ في فرجات مسرحية أو في سكيتشلت هزلية لا فكر فيها ولا عمق؟
إن من طبيعة قضايا الناس الأحياء، في هذا الزمن الغامض والمعقد والمركب، أنها غير بسيطة، وهي بهذا تشبه زمنها، وتشبه بيئتها، وتشبه سياقها، ولا تختلف عنه في أي شيء)…..
من كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ـ حول المسرح الاحتفالي)
للأستاذ عبد السلام لحيابي ـ إديسوفت الدار البيضاء 2015 ـ ص 82

فن يحترق أمام عالم يغرق

إذا كان هناك من يقول (يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) فإن الاحتفالية تؤمن بأنه (يوجد في الفنون الحية ما لا يوجد في الحياة اليومية)، وأنه يجوز للشاعر والفنان ما لا يجوز لغيرهما، والفنان في هذا الكون الرمزي اللامحدود واللامتنهي هو سيد كونه وعالمه ومملكته، وهو فيها الصانع والمصور الخلاق، ومن حقه أن ينتصر للحقيقة الغائبة والمغيبة، وأن يكون ذلك على حساب هذا الوقائع الذي أوجدته السياسة، وهي في مستوى درجة الصفر، وأوجدته حسابات التجارة، وأوجدته صناعة الأسلحة وسماسرتها.
ولعل أخطر ما لدى الشاعر الفنان هي حريته في أن يرى العالم بعين الشعر وبعين السحر الخلاق، ومن خلال قراءة هذه المسرحية ـ النبوءة تأكدت لي الحقيقة التالية، وهي أنه يوجد في المسرح الحقيقي أخطر مما يوجد في الواقع الملتبس وفي وقائعه اليومية المزيفة، ونحن الآن هنا أمام كتابة مسرحية بلمسة شعرية وسحرية، كتابة استثنائية في رؤيتها وفي فلسفتها وفي بنيتها وفي شخوصها وفي حوارها وفي معناها ومغزاها، مسرحية بحس مأساوي ـ ملهاوي أوجدت أبجديتها ولغتها ومعجمها عين عالم حكيم، وأبصرت شخوصها وأحداثها عين فنان متنبئ، وعاش مأساويتها قلب شاعر مجنون، وتمثلها في حقيتها الظاهرة والخفية روح عراف، هي إذن رؤية إنسانية دقيقة ومركبة، رؤية لا تكتفي بالصور والمشاهد، وتذهب إلى ما بعدها، وإلى معناها ومغزها، وإلى فلسفتها وحكمتها، وهي بهذا تغوص في أعماق المعلومات التي تأتي بها وكالات الأنباء، وتعرضها القنوات والمواقع الإلكترونية، وتبثها في وقت الذروة من أجل كسب المزيد من المشاهدات، وهي بهذا تعطينا روح الواقع، وتنقل إلينا جوهر الأحداث والأشياء، وتعطينا الرؤية والرأي، وتعطينا الصورة وما خلفها، وتعطينا ما خفي منها أيضا، وهذا هو دور الفن في معناه الحقيقي، وذلك في عالم يميل اليوم تشييء وتبضيع كل شي، وتحويل مأساة الإنسان المعاصر إلى صور معروضة في (سوق البشرية) والجديد في هذه المسرحية هو عين الكاتب التي رأت، وهو قلبه الموجوع، وهو صرخته المكبوتة، وهو إحساسه بأن أشياء كثيرة في هذا العالم ليست على ما يرام، وهو إدانته للقوى الغامضة والخفية التي تصنع مأساة الإنسان الجديد في هذا العالم الجديد.
ومحمد أمين بنيوب، في هذه الكتابة الملتزمة بالقيم الإنسانية الحقيقية، لا يعرض علينا صورا يستجدي بها العواطف الميتة، ولكنه يقدم موقفا مبدئيا من مأساة يعيشها الإنسان المعاصر، ويقدمها بصدق، وبجرأة، وبوعي، وبانحياز تام إلى الجمال والكمال، ومن خلال شخصيات هاربة من وطن يحترق، إلى أوطان أخرى مجهولة، ويقدمها لنا وهي ذاهبة إلى مصيرها على متن زورق عائم على الماء، هي صورة درامية مفعمة بالبلاغة وبالمأساوية وبالعبثية، وليس هناك صورة أوضح وأفضح من هذه الصورة في اللامعقول والعبث، أن تجد أجساد وأرواح نفسها تركب الموت بحثا عن الحياة، وتهرب من الخوف إلى الخوف، وكل هذا من غير أن تحدد المسرحية الوطن الذي تهرب منه هذه الأجساد ـ الأرواح، لأن الأساس هو الهجرة، والتي تعلمها الإنسان من الطيور المهاجرة في السماء، والتي تبحث عن بيئة سليمة وعن هواء نقي، وعن الأمن والأمان، أيكون الإنسان أقل قيمة من هذه الطيور المهاجرة؟ ومتى كانت الطيور تعترف بالحدود؟ ومتى كان دخولها الأوطان الأخرى يتم بجواز السفر وبالتأشيرة؟
ولعل أخطر ما في هذه المسرحية هو ذلك الإحساس الذي يمكن أن تثيره لدى القارئ ـ المشاهد، والذي هو الإحساس بالرعب، والذي تفجره في النفوس والأرواح رعب الواقع، ورعب الوقائع فيه، هو عالم مجنون.. مجنون.. مجنون عالم ضيع أشرف ما لديه، والذي هو إنسانيته، وهو كرامة الإنسان، ولم يربح غير التيه والضياع في البر والبحر..
وتأتي هذه المسرحية، بكل حمولتها الوجدانية والفكرية والجمالية المسؤولة والغنية لحد البذخ، في زمن يدعو فيه البعض إلى التجريب الشكلاني الخالص، والتركيز على الصورة الخالية من الحياة ومن الحيوية ومن الإحساس الوجداني ومن الذكاء البشري الحي، وذلك لحساب الذكاء الاصطناعي المعلب في الشرائح، والتي يمكن أن يقدم التلفزيون أحسن منها بكل تأكيد، وذلك على مستوى إبهار العين التي ترى، وعلى مستوى خداع الحواس، ولكنها أبدا لا يمكن أن تقدم إحساس الإنسان المعاصر بكل هذه المآسي المخيفة والمرعبة التي يحياها في حياته اليومية، وما لا يعرفه بعض المسرحيين والباحثين، هو أن المسرح فن الإنسان بامتياز، أي الإنسان العاقل والمفكر والحائر والسائل والمتسائل والخائف الفاعل والمنفعل والمتفاعل والمحتفل والمعيد والعاشق والحالم والواهم، وليس الإنسان المستهلك لما هو مفبرك ومصنع، ونعرف أن الحقيقة في المسرح هي أم المسرح، وهي روحه أيضا، وبهذا فقد كان حاجة وجدانية وعقلية وروحية، قبل أن يكون حاجة لاستهلاك المعلبات من الأشياء ومن الصور ومن الأخبار ومن الإشاعات ومن المشاهد الغريبة والمثيرة والمدهشة والمبهرة، وهو أيضا فن الحياة والحيوية، في صدقها ومصداقيتها، وفي تلقائيتها وشفافيتها، ولا وجود لحيوية بدون حرية عاقلة وراشدة، وبدون قارئ ـ متفرج يساهم في المسرحية بحسه وتفكيره وبرأيه وبفعله وانفعاله، ويشعرنا الكاتب محمد أمين بنيوب ـ في مسرحيته ـ بأننا أمام هذه الفاجعة كلنا مسؤولون، وبأنه لا يليق بنا أن نتفرج ونحن نتعشى أو نتغذى، كما نفعل ذلك أمام أجهزة التلفزيون، ونتفرج على من؟ ونحن نعرف أن المأساة هي مأساتنا جميعا، وأنه من الممكن جدا أن أكون أنا أو أنت هو صالح الشامي، وأن تكون أية قارئة ـ متفرجة هي يارا البابلي أو هي شامة الأندلسي، وأن يكون أي طفل منا هو الطفل الغريق إيلان، والمأساة كما تصورها المسرحية ليست مأساة منطقة من العالم، ولكنها مأساة الإنسان في هذه القرية الكبيرة التي نسميها العالم.
والمسرح كذلك فن المدينة والمدنية، وهو فن التلاقي الشعبي في المكان العام، وهو الخروج من القوقعة التي يمثلها البيت، وهو بهذا ضد العزلة والانعزال، واللذين توفرهما الشاشة المضاءة، وهو فن الحوار والجدل الفكري، وهو فن الاختلاف والتعدد، وهو فن تحرير الإنسان بالمسرح، وتحرير المسرح بالإنسان، وكل هذه المعاني تقدمها لنا كتابة مسرحية جادة وجديدة، كتابة قائمة على رؤية إنسانية وكونية شاملة، لا تؤمن بالحدود والسدود، ولا بالوطنية في أبعادها الجغرافية الضيقة والمحدودة والمحددة، وتؤكد على أن أرض الله لعيال الله، وأن الأساس في الحياة في الحياة هو الحق في الحياة، والذي هو حق مشروع ومقدس، وأن هذا الحق لا يكتمل إلا بالحق في الأمن والأمان، لأنه لا معنى لحياة يسكنها الخوف، ويقيم فيها الرعب، ويتحكم فيها مجانين السياسة وسماسرة الصناعة والتجارة.

محمد أمين بنيوب الكاتب من يكون؟

هو كاتب مسرحي وناقد وباحث وأستاذ بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، تخرج من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أولا، ثم تابع دراساته العليا الأخرى في الإعلام والاتصال، مما يعني أنه عاشق للمعرفة، وليس طالب شهادات ورقية، تهمه المعرفة والحكمة قبل كل شيء، والمهم عنده هو أن يمشي إليهما، وأن يطلبهما حيثما هما، وأرى أن هذا المسرح لديه ليس حرفة أو صنعة، ولكنه مجمع العلوم والفنون والآداب والصنائع المختلفة، وبهذا فقد كان في هذا المسرح أكبر من تقني، وهو أديب وفنان ومفكر ومناضل وجودي في المسرح وبالمسرح، وبالإضافة إلى هذا، فهو ناقد مسرحي بدون أحكام قطعية ونهائية، وبدون خطابية صارخة، وبدون أستاذية متعالية، وبدون الاعتداء على حرية المبدع، وبدون مناقشته في رؤيته وفي إحساسه وفي اختياراته الفكرية والسياسية والجمالية والأخلاقية، والمبدع حرية أو لا يكون، وهذا ما يجعل قراءاته النقدية قراءات عاشقة، فيها إحساس بجماليات المسرحية وفي الرغبة في أن يقتسم مع القارئ فهمه ومتعته الفنية والفكرية التي حصلت له، وهو بهذا كاتب جيد، لأنه ـ وبكل بساطة ـ قارئ جيد أيضا، وقراءاته هادئة ورصينة وعميقة ومتعددة ومتنوعة وبلا ضجيج وبلا افتعال وبلا ادعاء وبلا مصطلحات منقولة ومقتبسة وموضوعة في غير موضعها، وفي غير سياقها، وبلا زعم الانتساب إلى الحداثة أو إلى ما بعدها، والتي تظل دائما ـ ورغم كثرة الحديث عنها ـ حداثة لا وجود لها إلا في الكتب المترجمة، وليس في حياة المسرح والمسرحيين، وفي كل ترجمة شيء قليل أو كثير من الخيانة، وهذا ما أحسسته ولمسته في قراءته الجادة والعاشقة لمسرحية (شابكة) لمسرح الأوركيد ببني ملال، والتي تستخرج المعنى من روح وجسد المسرحية، ولا تسقطه عليها، ولا تقحمه عليها..
مرة أخرى أتساءل: محمد أمين بنيوب من يكون؟ هو مسرحي مغربي بإحساس عالمي وكوني، وكونيته تبدأ من ذاته التي تسع كل الناس، وتسع كل قضايا الإنسان في كل زمان ومكان، وهو كاتب ـ فنان ـ مفكر ومناضل وجودي ملتصق بالأرض التي أنبتته، وملتصق بالتربة الثقافية التي أفرزتها خصوصية هذه الأرض، وهو ابن مدينة مراكش الحمراء، عاصمة البهجة والفرح وعاصمة الاحتفال الشعبي والتعييد اليومي المتجدد، وفن المسرح بهذا ليس غريبا عنه، ولا هو غريب عن روح الاحتفال المسرحي الشعبي اليومي في هذه المدينة، ومن طبيعة ساحة الفنا أنها فضاء مراكشي مغربي، ولكنها تراث عالمي، وهي عاصمة التلاقي الثقافي والحضاري الكوني، وهذا المسرح المغربي الشعبي التلقائي، هو الذي تفاعل إيجابيا مع الدراسة المسرحية في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وتفاعل مع مشاهداته المسرحية، وتفاعل مع قراءاته للمسرح العالمي، فكانت النتيجة مولد كاتب مسرحي جديد بثقافة مسرحية غنية ومركبة، فيها روح الشرق وعقل الغرب، وفيها روح اللحظة الحية الآن ـ هنا، بكل حمولتها الثقافية والحضارية المغربية العربية ـ الأمازيغية ـ الأفريقية ـ الموريسكية ـ الإسلامية ـ اليهودية..
وهو بهذا يؤمن بأن المسرح مدرسة، وأنه بيت من لا بيت له، وأنه منبر المستضعفين وصوتهم، وهو في هذا المسرح مبدع خلاق، أي صاحب رؤية ورؤيا، وصاحب خطاب ورسالة، ورؤيته تتعدى ذاته وجغرافيته، لتنفتح على كل العالم، ولعل من أهم وأخطر ما في هذا (المحمد أمين بنيوب) هو أنه الكاتب الذي يحب الكتابة وتعشقه الكتابة، ويظهر هذا بشكل واضح في هذه المسرحية التي تقول أشياء كثيرة بالكلمات والعبارات القليلة والمكثفة والمختزلة، وفيها أيضا جمالية وفائدة ومتعة وظلال وجرس وموسيقى ومعاني ظاهرة وأخرى خفية، لقد اختار أن يكون في هذا المسرح كاتبا، إيمانا منه بأن دولة المسرح تقوم على النص، والذي هو دستور المسرحية وقانونها الأولي والداخلي والأسمى، وبغير هذا النص ـ الدستور يسقط المسرح في الفوضى وفي الاستبداد وفي الاستعراض وفي التهريج وفي غياب الديمقراطية الثقافية..
وفي هذه المسرحية تقول يارا (المسرح هو الفن الوحيد المتبقي لاكتشاف جوهر الإنسان وحماقاته اللامتناهية) وهذا هو رأي الكاتب بكل تأكيد، وهو رأيي أنا أيضا، وهو رأي كل البشرية جمعاء، رأيها المصادر أو الممنوع أو المقموع بفعل سلطة هذا الواقع المجنون.
هذه هي حكاية ثلاثة أرواح تسكن ثلاثة أجساد، امرأتان ورجل، تبحث لها عن سكن بين اليابسة والماء، ولا تجد أمامها إلا زورق إيلان، والذي هو زرق الموت، والذي قد يبدو لمن يتعلق بأي شيء، بأنه .. زورق النجاة وزورق الحياة.

> بقلم: د. عبد الكريم برشيد

Related posts

Top