سحر المكان في رواية “صرخة المصابيح” للكاتب المغربي حسن إمامي

(صرخة المصابيح)، هذه الاستعارة الجميلة؛ المصابيح هي عادة كاشفة لكن مصيرها دراماتيكي هذه المرة؛ لم يكتشف سرقتها أحد ولأن النور عنيد وإحساس الروائي مرهف وهو الذي عاش الكثير من تفاصيل الحكاية، سمعها تصرخ ولم يتجاهل قضيتها فراح يعدو خلف تلك التفاصيل منقبا تارة ومستجوبا أخرى؛ الرحلة مغرية وحزينة وعلى صفحاتها استرجع تاريخ ثقافات وحضارات وعادات وقصص الحب والاحتيال. لقد كانت الأمكنة الشاهد الكبير حول ما وقع؛ ولأن القضية لازالت عالقة ولأن استنزاف الآثار والتحف لازال يؤرق الذاكرة سأحاول العودة للمكان في هذه الرحلة الشيقة والمتعبة ليس بغرض التحقيق ولكن لأقترب من بعض معالم القضية مجاليا والكشف عن جزء من جمالية المكان وسحره ورمزيته في العلاقة بموضوع المصابيح.
 قضية المصابيح بعيدا عن حقيقة القضية التي تطرحها الرواية، هي أيضا صرخة لتستعيد هذه الأمكنة موقعها الحقيقي وخاصة في مجال مكناس – وليلي – مولاي إدريس زرهون، هذا المثلث الذي يخفي الكثير من أسرار المنطقة بل البلد بامتداداته الثقافية و الحضارية.
“..أذكر أنني بعته خوابي  طينية اقتنيتها من البيوت المغربية من مدينة مولاي ادريس زرهون ومكناس وجبل زرهون.”ص52
“طيب لبنى. قد أتفق معك. لكن الإشباع للكتابة لا يكون عندي إلا مع إيفاء المكان حقه واستحضار تفاعلاته. ربما أحذف هذه الفقرات في كتابة صرخة المصابيح، ربما الصرخة هي للأمكنة كذلك إلى جانب التحف الأثرية.”ص 69.

1ـ وليلي:

 شاهدة على تعاقب حضارات و تعايش ثقافات تتعرض لسرقة و ليست أية سرقة انها سرقة ثقافة مع ما يحمله النور من رمزية في استجلاء الثقافة و مرجعياتها. ” مرت سيارة و على متنها أربعة موظفين بإدارة الموقع الأثري وليلي. بعد نصف ساعة تقريبا هاهم عائدون في إياب على غير العادة. يومها أو ليلتها كانت تلك السرقة لتمثال إله الخمر باكوس.”ص 12
“كلف (علي بن محمد) سن 2005 من طرف مندوبية مديرية الثقافة.. بنقل الصندوق المحمل بتلك القناديل إلى مكان المهرجان.. و تختفي القناديل بعد ليلتين  فقط من حطها الرحال بمدينة مكناس.”ص13

2- مولاي ادريس زرهون:

 القاعدة الخلفية لهذا الموقع التاريخي، في علاقة عميقة ومؤكدة من قبل الباحثين، لكنها تحتاج للكثير من الأضواء لتمثل العمق التاريخي والمجالي واستلهام سحر هذا المكان الذي ظل مركز استقطاب ولازال يحتضن الكثير من الممارسات الثقافية في أبعادها المحلية والوطنية والدولية. علاقة التداخل والتكامل بين وليلي ومولاي إدريس، انعكست على تمثل الزائرين بحيث إن كلا منهما يستدعي الآخر، والحديث في الرواية عن أحدهما غالبا ما يقترن بالآخر كمكان، مما يقوي ورود الفرضية السالفة الذكر.
 “لقد نشأت في منطقة زرهون وجبله وموقعه الأثري وليلي. بالنسبة لي إن علم الآثار هو حليب الرضاعة الذي تغذيت به منذ طفولتي؛ وحبي لهذا المجال هو حب لأمومة وحضانته.”ص 16-17.

3- مكناسة الزيتون:

 مكة والناس؛ الفونيم (س) ورمزيته في العلاقة بالمكناسيين؛ الراهن يجعل منها مركزا لمولاي إدريس وعمقها وليلي وغيرهما من التجمعات السكنية المجاورة، لكن الزائر الذي يقترب من هذه العلاقة يعرف أن من أسباب استقطاب مكناس للزوار، القرب من وليلي ومولاي إدريس. مكناس لها تاريخها المنقوش على معالمها التي صمدت رغم الإهمال؛ مكناس الحاضرة التي تجمع العمران والثقافة والفن، فتحت أفقا أكثر رحابة للمجال الثلاثي. مكناس هي امتداد للتراث العمراني والبشري لكنها تأوي فضاءات أخرى من ساحات جميلة وأسوار ومواقع؛ مكناس هيكلت الاحتفاء بهذا التراث وغيره بقاعات سينما ومسارح على علاتها وفنادق ومقاهي ومطاعم وحانات وعلب ليلية… مكناس رغم إجماع أهلها على تراجع بريقها واقتصادها وحياتها الاجتماعية والثقافية عموما، فهي لازالت مجال استقطاب داخلي وخارجي؛ ويفرد لها الكاتب توصيفا استغرق 15 صفحة (من ص66 إلى ص 80).
“وكانت الكتابة عن باب بوعماير: “محور طرقي  كبير تتقاطعه شوارع واسعة ؛ملتقى الأصالة و المعاصرة ؛المدينة القديمة و المدينة الجديدة… مركب سينمائي تجاري: داوليز. مقهى مطل على منظر الساحة الجميل.. وما تبقى من غابة مستهدفة و مهددة بالانقراض؛ غابة الشباب..”.ص67
 أعود للعامية وذاكرة سكانها وأسترجع شعارا سمعته بل رددته مع الساكنة في الانتخابات التشريعية الأخيرة (مكناس يا جوهرة خرجوا عليك الشفارة)؛ نعم بالأمس سرقوا المصابيح وأشياء أخرى، كانوا يسرقون الأشياء الثمينة خلسة، إنهم اليوم يسرقون ما طالت أيديهم: الماء والكهرباء والطرقات والحدائق… أدعو صديقي حسن لتوسيع دائرة الصراخ لتشمل المساحات الخضراء والأسوار والرمال… وقد بدأ ذلك فعلا في الرواية:
“.. أمامه الصور على الجدران؛ و رواية محمد الأشعري (القوس و الفراشة )؛ و رواية محمد أمنصور (باكوس )؛ وملحقات و جرائد و مجلات تناولت التراث الأثري بالمغرب؛ والسرقات التي تتم لهذا التراث؛ و السماسرة الذين يتاجرون في الحي و الميت فما أدرانا بالوطن” ص9-10.

4ـ ساحة الهديم:

ينطلق منها البطل وصديقته و أحيانا ينتهيا بها. إنه تقليد عادة ما يكرره الكثير من زوار مكناس؛ أكيد أن عمق الساحة أكبر و أرحب مما أتصور. لكن بالإضافة إلى ذلك لدي انطباع أن هذه الساحة أصبحت أشبه بفضاء استقبال و مرفأ للتفكر و الوداع على أمل اللقاء. يلتقي في ذلك السائح المستكشف و التاجر و العاشق و اللص و السياسي.
“ساحة الهديم؛ مشاهد جمالية؛ تجمعات بشرية. ساحة الهديم؛ فضاء الغنى الثقافي و التنوع الفني و ألحان الحركة الإنسانية؛ سياح أجانب و شغف بالحلول تحت سماء الساحة. عشق سفر و احتراق الزمن التاريخي..”ص 76 .
الكتابة عن ساحة الهديم تستغرق الكثير و الحوار بين سعيد و لبنى عنها يطول “لقد شعر سعيد الحاكي بأن مدة كتابته عن ساحة الهديم قد كانت طويلة و ممتدة عبر الزمن التاريخي البعيد و السحيق؛ كما عبر امتداد الأمكنة في مختلف بقاع العالم  التي تمثلها جنسيات السياح الأجانب الذين يزورونها”ص79.
5ـ الحانة (البار): مكناس معروفة ببنيتها السياحية و إشعاعها الثقافي و من ضمن مجالات الاستقطاب فيها حاناتها و مطاعمها الكثيرة و القريبة من بعضها البعض. العروض متنوعة، ومختلفة هي أيضا. من نقط قوة مكناس. حتى إنها تنافس كبريات المدن في هذا المجال داخليا و خارجيا. الحانات و المطاعم في مكناس تحتضن جزءا من الحديث عن تاريخ وثقافة المجال الثلاثي، و ليس صدفة أثير جزء مهم من النقاش حول الآثار بحانة باكوس ثم حانة الريصاني حتى إن (سعيد) جن جنونه و هو يسترجع قضية السرقة هناك.
 “جولته بحانات المدينة الجديدة حمرية جعلها بداية بحانة باكوس. إسم على مسمى.. ربما أراد منها و من تسميتها أن تشفع له بخيط جديد في قضيته التي يبحث فيها. انتقل بعدها لحانة مجاورة كانت هي حانة الريصاني. ها هو أصبح يبحث داخل الممنوع عن الممنوع…الرفقة بجانبه أمام مقصف الحانة دليل سياحي بالموقع الأثري وليلي و تاجر بازار بالمدينة العتيقة مكناس” ص 42-43.
هذه ومضات، وفي انتظار استرجاع المصابيح كما تم استرجاع الباب المراكشي، أو على الأقل معرفة ما وقع حول أهم الأمكنة التي احتضنت رحلة الروائي أو السارد، وهذا موضوع آخر أتمنى أن أستطيع العودة إليه في مقال آخر.
 اختيار هذه الأمكنة بالإضافة إلى حجم حضورها في الرواية هو انجذاب فيه الكثير من الذاتية، لم أستطع التخلص منها بحكم ارتباطي الثقافي والمجالي بهذه المدينة التي كنت أعتقد أنني أعرفها جيدا، لكنني و بعد قراءة هذه الرواية وأعمال أخرى، وبعد العودة إليها بعد طول فراق، اكتشفت أنني أجهل الكثير من أسرارها الغنية.
 لكن إحساسا بالحب أتقاسمه مع الكثير لهذه المدينة، يجعلنا نتشبث مع الأديب حسن إمامي بأمل عودة المصابيح ـ قضية الرواية الأساسية ـ والكثير من المعالم الجميلة التي ستقوي علاقتنا بها، لتنهض وتكشف عن سحرها وتتجمل أكثر ونحبها أكثر.

> بقلم: فؤاد هنو

Related posts

Top