سرد الأشجان والأشواق اللامرئية في “إمارة البِئر” لمحمد سالم الشرقاوي

“إمارة البئر” هو عنوان رواية جديدة غطت (305 صفحة) من الحجم المتوسط، صادرة في طبعتين عن (دار أبي رقراق للطباعة والنشر- بالرباط/ المغرب 2015- 2016)، حاز بها صاحبها الكاتب الإعلامي والمبدع الروائي المغربي “محمد سالم الشرقاوي” على جائزة (مؤسسة ألموكَار في نسختها الثانية- 2016)؛ وتضم الرواية، بعد تصدير الناشر، ثلاثة فصول رئيسية، عنون الكاتب أولها ب”أصل الحكاية” وثانيها ب”وصل الحكاية” وثالثها ب”فصل الحكاية”، ويشتمل عدد كل فصل منها على أربعة محاور بالتساوي، جاء فيها ما أسماه الكاتب “ليلة الأنوار” محورا أخيرا وخاتمة للعمل في الآن نفسه.             نظرة في العنوان     يظهر منذ الوهلة الأولى، من خلال النظرة التي نسلطها على الغلاف والعنوان معا، أن هذا الأخير ينقسم إلى واحد رئيسي، هو عبارة عن جملة اسمية مركبة تركيبا إضافيا. أما العنوان الآخر، الفرعي والثانوي للرواية الموسوم ب (رواية من ثنائية السيرة والإخلاص)، فنلاحظ أنه يجنّسُ العمل ضمن خانة نوعية محددة، هي (الرواية) المقدمة عارية من النسبة والتخصيص، ما سيثير شكوك القارئ بصدد العمل، ويجعل القراء موزعين، بين من سيعتبرها رواية تخييلية، وآخرين سيرونها واقعية.
ويحيل عنوان الرواية دلاليا، على معانٍ عدّة تومئ بالعمق، والحياة، والبعد، بالنزاع والصراع حول اختيار من هو أهل للثقة لتدبّر شؤون البئر، التي ترسخت بعض معانيها في الوجدان الشعبي، بما يدل أحيانا، على رمزيتها للثقة والأمانة، وكتم الأسرار التي قد تمسي محفوظة أو مبعثرة؛ ويمكننا ملامسة دلالة هذا المعنى مثلا، فيما يقوله المثل الشعبي حثا منه على حفظ السر وأهمية حسن اختيار من نستودعه أسرارنا كما لو أنها كنوز غالية: «سرّك في بيرك». وكما يعتبر العنوان عتبة مهمة من عتبات القراءة والكتابة، فإن الغلاف يكتسي بدوره قيمة كبرى في تقاليد القراءة والنشر والتلقي، لهذا يليق بالإشارة إلى أن ثمة تطابقا قائما بينهما في هذا المؤلَّف الذي جاء فيه الغلاف لتعزيز المعنى الدلالي للعنوان وتكميله، بل إن من الحسنات التي تحسب لهذه الرواية، أن نصادف عنوانها ماضيا في تناسب ووِفاق تامين مع مضمونها وتفاصيل أحداثها، على نقيض ما نجده أحيانا في بعض الأعمال التي يحس القارئ حيالها بالامتعاض والقلق حينما يكتشف لحظة قراءته للعمل، أن عنوانه لا يمت بصلة إلى جوهر مضمونه، فيحسّ ساعتها بأنّ خِداعا وتمويها وغشًّا وتدليسا من أي نوع، مورس عليه أثناء اقتنائه له حتى وإن كان الأمر خارج سيطرة الكاتب وهو ينتقي لكتابه عنوانا مستفِزا وجذابا لافتا للانتباه.
الإمارة وفضاؤها أما فيما يخص مضمون الرواية، فيمكننا اختزاله في ما يشكل بنية الرواية وحبكتها العامة، ممثلة في حدث الانطلاق الذي توالدت منه أحداث خضعت في سيرها للتحول والتطور والتعقيد، دون أن تنتهي إلى حلٍّ نهائي، الشيء الذي جعل خاتمتها مفتوحة على كل التفسيرات والتأويلات المحتملة، وهي مسألة طبيعية ما دام هذا العمل يمثل جزءًا أولا، سيأتي ثانيه متمِّمًا لما أطلق عليه الكاتب في توصيفه التذييلي لعنوانه الأصلي: (ثنائية السيرة والإخلاص).
وكما يليق بالذكر، فالأحداث الرئيسية للرواية، تؤرّخ لحقبة زمنية معلومة ومحددة، شهد فيها المجتمع المغربي حدثا عظيما وجليلا، سمَّاهُ الكاتب في المحور الرابع من فصل الحكاية ب”الزحف العظيم” كناية عن المسيرة الخضراء، التي شاركت فيها عائلة آل السّيّود باستماتة إلى جانب بلدة “بئر السبع” والقبائل المجاورة الواقعة على تخوم وحدود قبيلة “أعرابات”. وقد كانت هذه البلدة الصحراوية المليئة هدوءا وسكونا بقيادة أميرها “سيدي المختار العريبي”، قلبا نابضا لمحيط البئر، المكان، أو الفضاء الرئيسي على الأرجح، المحتضن لأحداث الرواية ووقائعها التخييلية فيها، وقد قدم لنا الكاتب وصفا تعريفيا لهذه البلدة، محاولا أن يحسس قارئه بقيمة الماء ومكانته المهمة فيها، بوصفه الثيمة المركزية التي أقيمت على منوالها حبكة الرواية وتنامت عن طريقها بنياتها الصغرى والكبرى، قائلا: «تبعد بلدة بئر السبع الغارقة في صمتها وهدوئها عن العاصمة، بحوالي ألف ومائتي كيلومترا إلى الجنوب الشرقي، وهي بلدة حدودية، يعتمد اقتصادها على التجارة وأنشطة الرعي والقليل من الزراعات المعيشية (…)، ويشكل الماء بالنسبة لقبيلة أعرابات كما بالنسبة لقبائل الصحراء الأخرى، مادة حيوية يستحيل الاستقرار بدونها»1
هكذا بالتالي، استهل الكاتب تقديمه لأحداث أثره الإبداعي، بدءا من لحظة استثنائية، تخللها حدث طارئ على وجه السرعة في زوال أحد أيام غشت/ أغسطس اللاهبة عام (1975)، مثل بداية لأحداث مثيرة ومشوقة، انطلقت مع تلقي السائق “مسعود” لإخطار رسمي عبر مكالمة هاتفية تطلب إجابة سيده “منصور السيود” عليها، لكنه لم يجب في الوقت المحدد لأسباب تتجاوزه، وأخرى خارجة عن تحكمه وسيطرته، لذلك خُصص زمن إضافي مهم لاستقبال المكالمة الثانية التي رفع منصور سماعة الهاتف ليجيب عن سائله في تمام الساعة السادسة و45 دقيقة من مساء اليوم ذاته، الذي شكل خاتمة للمحطة الأولى من فصل الرواية الأول.
وبين المكالمة الأولى والثانية جرت أحداثٌ، سرد المؤلف تاريخها وعرَّف على نحو تقريبي، بالشخصيات التي تناوبت على أدائها، لافتا النظر إلى ما يطبع جزءا من الفضاء الممتد للصحراء المغربية، من مظاهر شعبية وتاريخية وأخلاقية وقيمية وثقافية أنثربولوجية، مجسدة فيما رصده الكاتب في محطات مختلفة من روايته، لكثير من تجليات الحياة الثقافية والاجتماعية للقبيلة، وما يصاحبها من طقوس وعادات وتقاليد وأعراف، كتردد بعض الناس على الأضرحة والمزارات ووصفه لعلاقتهم بشيوخها المعتبرين، وحديثه عن عقد الشرط المحدد بقيمة معلومة تُقدّمُ للفقيه في يوم معين (الأربعاء)، ثم وصفه لعادات الأكل وثقافة شرب الشاي، وتقاليد الخطبة والزواج وما يرافقها من مظاهر احتفالية تصل ذروتها مع نغمات رقصة الكَدرة، فضلا عن ذكره لبعض الظواهر المنتشرة بالصحراء، مثل ظاهرة “التبْلاح” مثلا، المعروفة بعادة تسمين البنات اللواتي يقبلن عليها قبل الزواج، يقول عنها المؤلِّف: «تقوم فيها السيدات بتسمين البنات، وذلك بإرغامهن على تناول بعض الأعشاب وشرب كميات من اللبن وتناول كبد الإبل وشحم السنام المعدّ بالطريقة التقليدية»، وغيرها من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليدَ متنوعة، يتداخل فيها المكون الديني بأبعاده الصوفية والعرفانية والروحية وسلطته الرمزية، المرتبطة بأمكنته والمنتمين إليها، ممن تحوّلوا إلى رموز معنوية مؤثرة، ترسّخت في اعتقادات الناس ومخيالهم بما يتجاوز سلطة الأب وتحكّمه في بيته، وتحضر بسلطانها في الحاضر والواقع المعاش كما كانت في الماضي قبل وفاتها (حالة سيدي المختار).      عوالم قيمية متشابكة      تبدأ مشكلة الرواية كنقطة تحوّل في أحداثها، انطلاقا من تغيُّر لون ماء البئر، بعدما كان ماءً “شفّافا” يوحي بخاصيّة حُلم التّطهّر أو ما يطلق عليه “غاستون بشلار” ب«أخلاق الماء»- في كتابه “الماء والأحلام”- التي عزّزها قول الراوي في النص: «وضعت فيها براميل مُلِئت بالماء لتنظيف المكان بعد النَّحْر»، بنفس درجة إيحائه بالخصوبة المستمرة التي تشي بوعي الانبثاق من ينبوع الحياة المنفلق والمتدفق من “ضربة صاعقة”، وبتغيّر ماء البئر تتحوّل لتصير “ضفيفة” حين يقلُّ ماؤها ويكثرُ روّادها، بيد أنَّ التفوّق آل في الأخير إلى الماء “العذب” الذي أوحى السارد إلى مذاقه في وصفه للبئر كوعاء حاملٍ له، قائلا: “برودتها وطعمها الحلو الزُّلال”.       لكن التحول العميق والخطير، المؤثر في مسار أحداث الرواية وفي قيم المجتمع والأفراد، بدأ منذ أن أصيبت البئر بأزمة ندرة المياه، ومع ظهور المغيفري ودخوله في مسألة تدبير وإنقاذ مائها، مما أفقد الشراد سلطة تقديرية ورمزية كانت له بعدما انتقلت له إمارة البئر بالوراثة من جده عبر أبيه، لاسيما عندما أصبح مصيرها في عهدة لجنة الخبراء الأجانب، وطُلِبَ منه ساعتها نقل المنصة إلى مكان آخر، وبتحويل سقيفة هذه الإمارة، يوازيه تحوُّلٌ كبير في المواقع، يقول الشراد: «ألم ترى كيف يتعامل رئيس لجنة الخبراء الأجانب مع المغيفري؟ إنه يعامله على قدم المساواة معي أنا آمر البئر، ومع الخليفة عمر!!». هكذا يبدو حقد الشراد على المغيفري، حاملا لمؤشر دال على تحوُّلٍ سيّء وتغيُّرٍ سلبي في القيم، يقول السارد: “ما يزال الناس لا يفهمون الحقد الذي يحمله الشراد على نسيبه المغيفري”.
 عالم، قدم فيه السارد “منصور السيود” في صورة بطل ملحمي قديم متطابق مع عالمه، لا يتجرد عن مبادئه ولا يتخلى بسهولة عن مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية، في حين، أظهر ابنه محمد الشيخ الملقب ب”الشرّاد” في وضعٍ صعبٍ في حكايةٍ تشابكت عليه خيوطها منذ لحظة ظهور بطلها الإشكالي في صورة شخصية ذكية متطلعة إلى أفق يلوح خلف ماء البئر، أُسنِدَ أداءُ دورها إلى “المغيفري” الذي غيَّر أحداثها جذريا وقلبها رأسا على عقب، على نحو شبيه ب بطريقة قلبه لوضعه الاجتماعي مُتحوّلا فيه من مجرَّد خادم وراعٍ للأغنام، إلى قيَّام يعدّ الشاي في البيوت.
ولئن قدم الكاتب شخصية الشراد في صورة من يجسد الحكمة القائلة، بـأن المجد الذي يصلك من أجدادك هو مسؤوليتك التي عليك الحفاظ عليها، فإن المغيفري يعد تجسيدا لما يعني عكس ذلك، في سعيه لتأكيد فكرة يتبناها، مؤداها أن مجدك أنت هو المسؤولية التي تورثها لأحفادك.
تلك شخصيات استثنائية ثلاث في رواية لن ينساها القارئ، ويقينا ستتخيَّلُ ملامحها وأفعالها، عساه يركّب صورا تقريبية عنها لا تخص أحدا غيره، كلما أحسن إسماع صمته إلى أصوات شخصيات ونبض حكاية يرويها له سارد عليم، يتكئ في سرده على تقنيات عديدة منها آلية الاسترجاع تحديدا، والسرد المتواتر والوصف والحوار والفلاش باك وأسلوب التداعي الحر، بالإضافة إلى رؤية سردية تنطلق من الخلف، يتبناها راوٍ يبدو معها مطلعا، ومنتميا، بحضوره الثقيل، الوازن، والمهيمن سرديا، على نحو يحتل موقعا قمينا به في هذا العمل الذي يمارس فيه حكيه من داخله وليس من خارجه، مّا جعله قريبا من الشخصيات ومن عالمها، وأيضا من مجالها المألوف لديه بكل قيمه وعاداته وطقوسه وسائر مكوناته الثقافية والاجتماعية.
على هذا المنوال نلفي الكاتب محمد سالم الشرقاوي ماضيا، ليوقظ في رواية “إمارة البئر”أشجانا نائمة، ويرسم في حلتها السردية البديعة حالات أشواق غير مرئية، للتاريخ والهوية وروحانية المكان، التي يذكيها استنطاقه للوجع الأصم والحنين الأخرس، أو«الحنين الصادم دائما» على الأرجح- كما يرى الروائي السوداني “أمير تاج السر”، خاصة عندما يعود المرء إلى وطنه أو بلده، فيجده غير ما رَصَفَه الحنين.. هكذا بالتتابع، تأتي منظومة الغربة في رواية “إمارة البئر” هنا، كثيمة أخرى يستوعبها النص فضلا عن ثيمة الماء.
إلى هنا إذن، تتمظهر “إمارة البئر” بوصفها رواية النوستالجيا، ورواية التخوم والحدود الراصدة «للاستثناء الثقافي المزعج لكل ما هو معولم»- على حد تعبير المفكر الفرنسي “رجيس دوبري”؛ وكما نجد في الرواية اعتزازا بالجذور وتطييبا للأصول والأعراق، نجد فيها أيضا احتفاءها بمهبط الوجدان الذي جعل السارد سِرّه على تخوم قلبه، وهو يستحضر ذاكرة فضاء صحراوي مخصوص بامتياز، بأصالة الإنسان وسائر المظاهر الثقافية والقيم الموطدة لعلاقات الناس فيما بينهم داخل الحياة الاجتماعية الشعبية، في محتدها العريق، الطبيعي الجميل، العفوي والفطري، في أسمى مظاهره النّقيّة، قبل أن يصيبه نثار الحضارة وضجيج المدنية. هامش:  1ـ محمد سالم الشرقاوي: إمارة البئر (رواية)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر- الرباط/ المغرب، ط2، 2016، ص 173

بقلم: عادل آيت أزكاغ

Related posts

Top