سطوة القانون وبرهان القضاء (الجزء الثاني والأخير)

ولرصد أهم المعالم القانونية المرجحة لعدالة القضاء على سطوة القانون وجموده المطبق، نأتي على أبرز سلطة تتمتع بها النيابة العامة، والأمر يتعلق هنا بسلطة الملاءمة، التي تعد تطبيقا صريحا لإعمال مبتغى القانون وإنفاذ القوانين الزجرية على الخصوص، فسلطة الملائمة تعد أسلوبا تقديريا لما يرد على النيابة العامة من مستندات ومحاضر وبلاغات بشأن ارتكاب الجرائم، فتتخذ فيها إما قرارا بتوجيه الاتهام، أو بحفظ المسطرة، لعلل تختلف بين انعدام الإثبات أو إنكار المشتبه فيه، أو تفعيلا لسلطة الملاءمة.
ثم إن هذه السلطة المعهودة إلى النيابة العامة تمكنها من مراعاة التداعيات التي قد تنشأ عن تحريك المتابعات بشأن وقائع جرمية لا تستأثر باهتمام الرأي العام، وذلك لمحدودية أثارها أو لطيش مقترفها – المجرم بالصدفة أو المجرم الناشئ – أو لخلو سجله الجنائي من السوابق القضائية، وأحيانا رغبة من قاضي النيابة العامة في الحفاظ على مصلحة الجاني والمجني عليه، وعلى بنائهم الأسري – الجرائم الأسرية والنزاعات بين الأقارب – وبالتالي تحقيق التوازن المجتمعي المطلوب.
فالعدالة المستقاة من عمل النيابة العامة تجد تبريرها وسندها في هذا المبدأ المؤسس بموجب القانون (المواد 40 و 49 من قانون المسطرة الجنائية)، لذلك فالمشرع عند إقراره مبدأ ملاءمة المتابعة والإجراءات الجنائية، وإسناد هذه الصلاحية إلى النيابة العامة وقضاء التحقيق، قد افترض في عملية تصريف العدالة أنها لا تقف عند تحريك الدعوى العمومية في جميع الجرائم المثبتة، أو توجيه الطعون في المقررات القضائية كيفما قضت منطوقاتها، وتلك لصورة قاتمة تجعل من قاضي النيابة العامة يباشر دورا آليا مجردا من المرونة والإنصاف، وتدفع به إلى منحى المطالبة بإيقاع العقاب في كل الأحوال، وما يستتبعه ذلك من تأزيم وتضخيم القضاء الجنائي، بدل تبني توجهات السياسة الجنائية المعاصرة كما سنتها السلطة التشريعية وأوضحت طريقة تنفيذها مناشير ودوريات رئيس النيابة العامة.
لهذا فإن مبدأ الملاءمة يضمن مبدأ استقلال النيابة العامة في انفرادها بالدفاع عن مصالح المجتمع ومطالبتها بتوقيع الجزاء القانوني المناسب، وليس إشباع الرغبات والصراعات وتنفيس الأحقاد، فالنيابة العامة ليست أداة طيعة لتنفيذ أهداف شخصية ولا ممر لازب لجر الخصوم إلى ساحة القضاء، تحت التهديد النفسي والمعنوي، وإنما هي مؤسسة مواطنة تنتمي للسلطة القضائية المستقلة، قد تقوم بحفظ المسطرة المتضمنة لجريمة تامة من حيث عناصرها التكوينية، كما قد لا تطعن في حكم قضى بالبراءة أو بالإعفاء، أو تلتمس وقف سير الدعوى العمومية وتقترح الصلح على أطراف الخصومة الجنائية، وأيضا قد تتابع في حالة سراح في موضع الاعتقال وغيرها من تمظهرات العدالة في طبيعة عمل النيابة العامة، كما وصفها الفقيه بورطاليس بحارسة القضاء، وموجهة الاجتهاد، وسند المصلحة العامة. وأشاد بدورها وأهدافها مونتيسكيو في معرض تعيين ملك فرنسا فيليب لوبون لوكلاء ينوبون عنه في مباشرة الدعوى العمومية باسمه.
وإذا كان فن القاضي هو إتباع القوانين في السوابق القضائية حسب فيكتور هيجو، فإن الاجتهاد القضائي المتكون من تراكم وتعاضد مجموعة من السوابق القضائية، قد شكل مصدرا لا محيد عنه في تشكيل القاعدة القانونية في جميع فروع القانون، ولأن القضاء بحكم ولايته العامة في تطبيق القوانين وإنفاذها تنكشف له عيوب النص ونقائصه، فيعمل على ملء فراغاتها وتوضيح معناها المرتاب، من خلال الانفتاح على التطبيقات القضائية الأجنبية المماثلة، والنهل من قواعد العدل والإنصاف، درءا لتحجج الأطراف بذريعة انعدام النص أو غموضه، للإفلات من العقاب والتملص من واقعية المسؤولية الثابتة.
والاجتهاد القضائي الذي ينبري فيه القضاة إلى تحقيق العدل والعدالة من وراء تطبيق القانون، هو ذلك الاجتهاد القار والمتواتر بين محاكم الموضوع، والذي تعمل من أجله محكمة النقض على ضمان توحيده كما أكدت عليه المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية.
وتبعا لذلك فإن مبدأ استقرار الاجتهاد القضائي يرد عليه استثناء مُؤداه أن محكمة النقض قد تَعدل عن سابق اجتهادها متى تغيرت مصالح المتقاضين، لكن تغيير الاجتهاد القضائي بأخر قد يتطلب وقتا طويلا حتى تتبين جدوى هذا التغيير وأسبابه، لأن في القرارات المبدئية والاجتهادية تمهيد لصدور قوانين لاحقة تفعيلا لها.
وعليه، فإن حكم القاضي في الحفاظ على موازين العدالة المتساوية يستدعي بالضرورة التخلص من قيود النص الجامد، وإمضاء قواعد تفسير النص المبهم بشكل واضح ومفهوم، والأخذ بقرينة البراءة، وإنجاز مبدأ حسن النية في المعاملات المدنية، والحرص على تثبيت التوازن الثلاثي في قضايا الأسرة بين الزوج والزوجة والأبناء، واستدراك ثقة المرتفق في الإدارة عبر حل النزاعات الإدارية بالشكل الذي يجعل المتقاضي يلامس تساوي وضعه القانوني مع مركز الإدارة أمام القضاء.
وفي سياق أخر، تزداد عدالة القضاء الزجري في الاستبيان والبرهان بتبني المشرع المغربي للنظام التفتيشي التنقيبي، الذي يقوم على جمع الأدلة والبحث عن مرتكبي الجريمة والتثبت من وقوعها قبل ممارسة الادعاء وتوجيه الاتهام، بمعنى أخر أن سوابق المتهم لا تنهض حجة على فساد سلوكه ولا دلالة على خطورته الإجرامية التي تبيح الحكم عليه في جرائمه المتوالية من غير فحص الأدلة، وتقديرها، ومواجهته بشهود الإثبات والنفي وإجراء الخبرات والإنابات، فالأسلوب التفتيشي في التحقيق الجنائي يستمد قوته من الشكليات التي تسبق المحاكمة، والتي تؤثر في كل المراحل اللاحقة بها، مما يكسبها دورا حاسما في مسار الدعوى العمومية، وهو ما لا يتوفر في النظام الاتهامي المفتقد لأوجه العدالة في تمثلاته، بحيث يسمح للمشتكي بتوجيه الاتهام الفردي بدون قيد أو شرط وبالتالي تسيده للاتهام الجنائي والتحكم فيه.
وما قيل عن عدالة القضاء الزجري في مقدرة الاجتهاد واستجابته لمتطلبات المساواة، يصدق على القضاء المدني والتجاري والإداري، وتفسير هذا الطرح في أن العملية القضائية ببلادنا ومنذ صدور دستور 2011، وتأكيده على عدالة القانون في فصله 110، أخذت مسارا استراتيجيا يقطع مع العهد القديم الموغل في التشبث بحرفية النصوص والاكتفاء بذاتيها، ومضمونها الظاهر، ولو شكلت ضررا بمصالح الأفراد، ويربط الصلة من جديد بالفطنة والمرونة والدنو أكثر من العدالة وتقريبها من المتقاضين في حسانتها وإيجابياتها.
لذلك، فقد كانت المبارزة منذ ظهور الأنظمة القانونية الكبرى وانقسام توجهاتها واختلافها بين التوجه الروماني الجرماني (نظام القانون المدون)، والتوجه الأنجلوساكسوني (نظام السوابق القضائية)، قائمة بين نظرية الكفاية الذاتية للقانون باعتباره أقصى ما توصل إليه الفكر الإنساني في تنظيم الشؤون العامة، وبين نظرية عدالة القضاء التي توفر للقاضي هامشا مضاعفا للاجتهاد، وفضاء أرحب لاستيعاب مشاهد القانون وتوزيع عدالته وتطويره بما لا يقلل من سيادته.
ونضيف عليه أن نتائج المقارنة بين هاذين النظامين قد خلصت إلى ترجيح فعالية النظام الأنجلوسكسوني على حساب نظام القانون المدون، لمرونته المستمدة من قاعدة: (أن ما لا يمنعه القانون فهو يبيحه) وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص جازم بالتحريم، كما تم إثباته في مجموعة من التقارير العلمية، ومن بينها تقرير البنك الدولي المنجز سنة 2004 حول مواكبة الأنظمة القانونية للتنافسية التجارية.
ولتحقيق هذا التوازن في عمل القضاء في الأخذ بين تطبيق ما سطرته السلطة المكلفة بالتشريع، وبين ملامسة العدالة واستجلائها من القوانين الجامدة، من خلال البحث في مداخل إعمالها ومنافذ تطويعها من غير أن يخالف القاضي النص، وهي لعملية تتطلب تحقيقا بالغا وتدقيقا مضنيا بالنسبة للنظم القضائية التي تسيطر على تشريعاتها قواعد المذهب الروماني الجرماني، فإن الجدير بالمشرع أن يتبع مسلكا وسطا، ومذهبا مختلطا عند التشريع، يجمع فيه ويلملم أهم التطبيقات والأساليب الفعالة في كلا الاتجاهين (الروماني الجرماني والأنجلوسكسوني)، فلا نكب في الالتزام بالشكلية الجافة والإجراءات الثقيلة المقيدة لملكة الإبداع والتطوير والاعتدال، ولا نميل كل الميل نحو تغليب قواعد العدل والإنصاف والعادات والأعراف.
وتلافيا لأي فشل في مرحلة ترميم المناهج الفكرية لإرساء القانون، ينبغي ألا نعتمد عليها وحدها، وألا نغترف من خصائصها بالكلية، مما يجانف ويخالف ما تجود به أحكام الشريعة الإسلامية في مصادرها الأصلية (القرآن الكريم والسنة النبوية) والفرعية (القياس، الاستحسان، الاستصحاب، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا..) من توجيه إلى الأخذ بالعدل عند الفصل، وإقامة الميزان عند الحكم، وعندئذ نكون قد أقمنا تناسقا تاما بين مضامين المدارس القانونية الكبرى، مدرسة الفقه الإسلامي، ومدرسة القانون المدني (الروماني الجرماني)، ومدرسة القانون المشترك (الأنجلوساكسوني).

<عمر بحبـو
باحـث في العلـوم القـانونيـة

Related posts

Top