شعرية الألم والسؤال في رواية “لم نمت… ذاك المساء”

يغلب ظني أن الرواية حقل سردي مفتوح على الواقع والمتخيل. فبقدر ما تتسع و تتراكم الأعمال السردية، تتعدد الطرائق وصيغ البناء. في هذه الحالة، تخضع الدلالة لجدل الآليات السردية. وعليه يمكن إعادة أي محتوى وفق أسلوب ورؤية جديدة. في هذا الاطار، يمكن للرواية أن توجه نظرها اتجاه التراجيديات اليوم التي تضع مصير الإنسان في المحك. خطرني هذا المدخل، وأنا أفتح رواية “لم نمت.. ذاك المساء” (الصادرة مؤخرا عن دار فالية ببني ملال) التي اختارت ثيمة حارقة تتمثل في الحب في واقع الحروب، من زوايا نظر شخوص، يمكن تصنيفها إلى قطبين، قطب حامل لأفكار ومبادئ النضال والتغيير، تشبعا في الجامعة بمرجعيات الفكر الاشتراكي. وقطب تندرج ضمنه شخوص تتاجر بالقيم وكل شيء. وكأن الكل يطرح للتأمل بين تفاصيل اليومي المتشابك.
في حقل الرواية لابد من تكسير البدهيات والحقائق السردية، مع بعض الأعمال التي تتوخى الإضافة والتأسيس، منها تكسير مركزية السارد. وهو المتحصل في هذا العمل الذي سعى إلى تقديم الحكاية عبر حوار بين صديقين على طاولة مقهى، حوار يعرض مسارات الشخوص، في تتبع لخطواتها في الحاضر ذات الامتدادات في الماضي. مما أدى لحضور النفس السيري الماثل في عرض بعض المعطيات (دراسة، عادات، اهتمام…) التي ساهمت في تشكيل الوعي والإدراك. ورد في رواية “لم نمت.. ذاك المساء” ص 65: “الحياة الطلابية تفرز علاقات جميلة جدا بين الرفاق والرفيقات… فقط في المعارك الطلابية وفي الاعتصامات تنضج العلاقات الايجابية. وفي الاعتصامات والمبيت الليلي بالجامعة تعرف الطلبة على موهبة زياد في الغناء، وتعرفوا على موهبة ميساء..
كانت تبدع في أداء أغاني ماجدة الرومي وأميمة الخليل والأسطورة جوليا بطرس..كانت تتحف المعتصمين بـ “حبيبي..” “يوما ما”…”على ما يبدو”…وكان هو ينافسها في المواويل وكان يبدع فيها، وكان أصلع أيام الجامعة، يلقبه الطلبة بـ “كولينا” الحكم الايطالي الشهير”.
الرواية ـ قيد الدرس ـ غنية بطرائق ومرجعيات، وهي بذلك تطرح جدلا بين الرواية والفكر. فهذا الأمر يمكن أن يحضر بقوة ضمن البناء الروائي. كأن الرواية تمتص ما هو نظري المسنود بوقائع وأحداث جديدة، أي تحيين الفكري ضمن طراوة أرض الرواية. فتتخذ النظريات أبعادا إنسانية و لمسات جمالية. نقرأ في رواية “لم نمت..ذاك المساء” ص 131 : “في المقهى الشعبي، كانت تتذكر نقاشات الجامعة..تتذكر نزار وكان يردد أن العمال والفلاحين والمشردين هم حطب الثورة، وكانت تحمل صورته في مخيالها وتضعها أمامها على الكرسي على يمينها و تقول له:
ـ أريت، أأحمق أنت، أ أريت..ها هم فروا يا رفيقي، فلا صاروا وقودا للثورة ولا يحزنون، هم هنا علقوا أرواحهم على رقابهم و ساروا في بلاد الله.. هل تأكدت أن النظرية متماسكة فقط في علاقتها بذاتها، وتتهاوى و تتعامى في الواقع تماما؟”.
وأنا أقرأ رواية “لم نمت.. ذاك المساء”، أحسست بدفء خاص. كون العمل السردي صيغ دون تكلف أو خبط. فهو يسوق حكاية حب، في ظل الحروب الدائرة رحاها في بلدان عربية. فامتدت هذه التيمة من سوريا إلى المغرب، و كذا بلدان أخرى مثل الجزائر. هل يستطيع الحب، على هامش التاريخ، أن يوحد ما تفرقت حوله السبل المذهبية والإيديولوجية؟ ذاك هو السؤال البارق بين قطبين، الأول يمثل قيم الحب والكرامة، في انتماء محمول على الجلد. وآخر يجسد القيم الجارية دون أفكار، ماعدا السمسرة والايديولوجيا التي تصوغ كل شيء على المقاس. نقرأ في رواية “لم نمت.. ذاك المساء” ص 135: “في الرباط، منال ترتب أغراضها، تشتاق إلى ابنتها كأنها لن تراها أبدا. تحس كل ما لا تستطيع احتماله. تحس كل ما يحسه الشخص الغريب، مسحوق الزجاج في العين، كومة حجر فوق الصدر، جفاف في الفم، فراغ قاتل، رغبة مستمرة في البكاء، رغبة دائمة في النحيب، شرود أبدي، كلام قليل، حلم قليل، كوابيس بلا عدد، خطأ ما يقع في مكان ما لا تتحمل مسؤوليته، خطأ ما فادح يقع في توزيع حصص الألم على الناس، ربما نصيبها كان أكبر، هل صدر منها شيء؟ هل تجاوزت خطا أحمر ما كي يعاقبها الله هكذا؟ ألم تكن عفيفة طوال الوقت؟.. ألم تكن عفيفة رغم أنهاكانت و ربا وحيدتين كما في جزيرة مهجورة؟ لو لم تكن مخلصة لزوج غائب طول الوقت لكان نزار هنا الآن، ولما عاشت الفقد و حدها، ألم تضع حب عمرها إكراما لزوج غائب طول الوقت”.
الجميل، أن الرواية هذه، انفتحت بقوة حبها على الهجرة والعيش على حافة الشوارع هنا..هناك. استنادا على تقنيات مؤطرة، منها الحوار بأشكاله، ومنه الحوار بيت جليسين ضمن مقهى بعيدة، في بلدة مهملة، حول حكاية الرواية أو قصة حب بين طالب فلسفة وموسيقى و مختصة في علم النفس. مما أدى إلى استثمار مظاهر من الذاكرة الطلابية الثرية بالحماس وحرارة المبدأ. وحاضر مفتت يطارد الحب والفكر معا.
الروائي رضوان ايار لم يأت للرواية من فراغ، بل من خلال تجربة قوية في المقروء المتعدد وفي الكتابة أيضا.لهذا ترى عمله الأول هذا ثرا بتعدد دلالي مشبع بالمفارقات والمرجعيا ت الموجهة له، ضمن أمكنة معبرة بدورها عن ذلك. في هذا السياق فالرواية تجادل الواقع علي مأساويته. استنادا على آليات جمالية من وصف المظاهر والأعماق، إلى توظيف الذاكرة في جدلها مع الحدث، فضلا عن الحوار البنائي.
أكيد وانطلاقا من هذا العمل العميق والجميل فكرة وسردا سلسا، أن الروائي رضوات ايار سيرمي بـ “حبات” مسبوكة في بركة السرد المغربي والعربي. وسيكون له مقامه وخصوصيته. ومنها تلك اللمسات الفلسفية التي توطد الصلة بين الفكر والأدب. وليس ذلك بغريب على رجل خبر دروب النظرية والتخييل. فلتكتشفوا معي هذا الخيط الرابط، دون ذوبان الرواية وانجرافها.

 بقلم: عبد الغني فوزي

Related posts

Top