شعرية العتبات في رواية “قبل الجنون بقليل” للكاتب المغربي عبد الغفور خوى

تعد عتبات النص paratexte/بمختلف أشكاله وأجناسه، من أهم عناصر المتعاليات النصية إلي جانب مفاهيم أخرى:التناص، التعالق النصي، معمارية النص والنص الواصف.بحيث نجد نوعين من العتبات: داخلية وأخرى خارجية. تتماس مع المتن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.تتجلى الخارجية منها في : الغلاف الأمامي و الخلفي بكل تجلياته اللغوية وغير اللغوية ( صورة الغلاف،العنوان،نوعية الخط،المؤشر التجنيسي، أيقونة دار النشر،كلمة الناشر،التعريف بالمؤلف،المسودات، الخ…).أما الداخلية، فتتضمن:الإهداء،التصدير، العناوين الفرعية ، الرسوم/ الصور الداخلية،الخ…) وكل ما يصاحب النص الرئيسي من كتابات. تدخل معه في علاقة جدلية قائمة على التبنين والمساعدة على إضاءة النص الداخلي.كما تساهم في استيعابه وتأويله والإحاطة به من جميع الجوانب الأسلوبية والفنية.بحيث تؤدي عتبات النص المحيطة والفوقية، دوراً كبيراً في مساعدة المتلقي (القارئ)على ولوج العالم النصي بشكل صحيح.كما تشكل بوصلة لتوجيه القراءة وتحديد مسارات خطوطها الكبرى.بالإضافة إلي دورها في تحديد هوية النص والإشارة إلى مضمونه.إنها تشكل إشارات جزئية يتم توظيفها داخل النص.بغض النظر عن سياقاتها الأصلية.و نظرا لأهميتها عد كثير من النقاد كل قراءة بدونها قراءة ناقصة مشوهة للنص الرئيسي. قسم جيرار جينيت العتبات إلى قسمين:تجلت الأولي فيما سماه بالنص المحيط .إنه كل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب.يتجلى في نوعين:النص المحيط التأليفي ويندرج تحته:اسم الكاتب،والعنوان الرئيسي والفرعي،والعناوين الداخلية، والاستهلال، والمقدمة، والإهداء، والتصدير، والملاحظات، والحواشي، والهوامش.والنص المحيط النشري ويندرج تحته:الغلاف، والجلادة، وكلمة الناشر،والسلسلة. والثاني النص الفوقي وهو نص غالباً لا ( يوجد مادياً ملحقاً بالنص ضمن نفس الكتاب، ولكن ينتشر في فضاء فيزيائي واجتماعي غير محدد بالقوة )( 1 ).وتنقسم بدورها إلى نوعين:نص فوقي عام.تدرج تحته اللقاءات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية،الحوارات،المناقشات،الندوات،المؤتمرات والقراءات النقدية.ونص فوقي خاص.يندرج تحته المراسلات العامة والخاصة،المسارات،المذكرات الحميمة،النص القبلي،التعليقات الذاتية. تقوم هذه العتبات مجتمعة بوظائف عدة .إنها تساعد على فهم خصوصية النص الأدبي وتحديد مقاصده الدلالية والتداولية واستجلاء العلاقة الموجودة بينها وبين العمل.كما أنها تنقل مركز التلقي من النص الرئيسي إلى النص الموازي.وهو الأمر الذي عدته الدراسات النقدية الحديثة ، مفتاحاً مهماً في دراسة النصوص المغلقة. حيث تجترح تلك العتبات نصاً صادماً للمتلقي. له مؤشرات الكشف عما يمكن أن تنطوي عليه مجاهل النص. كما تقدم تصوراً أولياً.يسعف النظرية النقدية في التحليل وإرساء قواعد جديدة لدراسة الخطاب الروائي.
تؤدي عتبات النص الداخلية منها و الخارجية دوراً أساسيا في استدراج المتلقي للولوج الممكن إلى عالم النص الأدبي وتوجيه قراءته وتحديد مسارات خطوطها الكبرى.لدرجة يمكن معها اعتبار كل قراءة للرواية بدونها بمثابة دراسة قيصرية اختزالية.يتعذر معها القبض على جوهر النص الإبداعي. كما من شأنها لي عنق النص وخنقه قبل الإمساك بدلالته الممكنة.إنها عبارة عن إشارات جزئية.يتم توظيفها داخل النص بغض النظر عن سياقاتها الأصلية. من خلال هذا التصور العام للعتبات،سنقدم مقاربة سيميائية لمختلف عناصر هذه العتبات وتجلياتها في رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ للروائي المغربي عبد الغفور خوى . سنتناول في هذه المقاربة العتبات الخارجية و الأخرى الداخلية. تتجلى الأولى في حمولة الغلاف الأمامي(صورة الغلاف،ألوان الصورة،العنوان،واسم الكاتب،والمؤشر التجنيسي )وحمولة الوحدة الخلفية للغلاف.لكن سنتجاوز أيقون دار النشر وطريقة عرضه. لأنه (حسب تصورنا على الأقل) لا يحمل سوى دورا قانونيا وإشهاريا أكثر منه فنيا.أما الثانية( الداخلية)، فتتشكل من الإهداء، التصدير، العناوين الفرعية الداخلية.

1ــ عتبات الخارج ( الحمولة الأمامية والخلفية):

أــ الحمولة اللسانية:
تتشكل العتبة الأولى/ الغلاف الأمامي لرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ من نوعين من العناصر .عناصر لغوية تحدد هوية هذا العمل. وأخرى غير لغوية( لوحة الغلاف،أيقون الناشر).تتكون العناصر اللغوية من اسم الروائي عبد الغفور خوى(إشارة إلى صاحب النص).إنها مسألة قانونية و إشهارية في الوقت نفسه.يوازيها على الغلاف الخلفي ما يشبه السيرة الذاتية للروائي.وعنوان الرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ والعنوان نفسه يتكرر على الغلاف الخلفي للرواية.وكلمة ـ رواية ــ باعتبارها مؤشرا تجنيسيا.يفتح آفاق انتظار القارئ المحتملة.لأن هذا المؤشر يربط الكاتب و القارئ بما يشبه العقد الذي يحدد شروط القراءة و التأويل.إذ بدون ذلك،ستغدو كل قراءة عملية مستحيلة وغير تواصلية.لكون النص السردي،نص تخييلي تداولي. واسم دار النشر(مؤسسة الرحاب الحديثة) وإيقونتها الإشهارية. أما الغلاف الخلفي، فيزيد عن الأمامي ، من خلال احتوائه على وجهتي نظر كل من الكاتبين المغربيين هشام ناجح و محمد محقق في الرواية بشكل جد مختصر.إن وجهة النظر الغيرية هاته، غالبا ما تكون عبارة عن مؤشر/ موجه للدلالة الممكنة والأبعاد الإيحائية للنص.

ب ــ الحمولة غير اللسانية/الصور:
أما العنصر غير اللغوي المهيمن على الغلاف الأمامي لرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ ، فيبرز بشكل باهت على الغلاف الخلفي.إنه عبارة عن لوحة ليد يمنى وجمجمة تخترقها السبابة و الإبهام . بشكل يوحي بنوع من السريالية. وبهذا فعنوان الرواية الذي يوحي بالجنون،يرتبط بشكل عضوي بهذه اللوحة السريالية.وبهذا تشكل العتبة الأولى لرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ المفتاح الأول الذي يمكن من ولوج عوالمها النصية. كما لا تقل قيمة محتويات الوحدة الخلفية للغلاف عن قيمة محتوى الوحدة الأمامية.إنها امتداد طبيعي لها.ولمحتوياتها (صورة الجمجمة بألوان القانية،صورة الكاتب(عبد الغفور خوى ،شعار دار النشر ).تؤشر على وظائف عدة: أولها الاكتفاء بتأكيد المعنى الكامن في واجهة النص.أما الثانية استكمال المعنى المراد من هذه الواجهة والثالثة إحداث اضطراب يولد معنى مخالفاً للكامن في الغلاف الأمامي.قد يكون لغرض فني يريده مبدع النص.بهذا يتفاعل القارئ مع النص من خلال حالات عدة. تتشكل على إثرها بذور علاقة بينه وبين النص الروائي.مما يبنى مجموعة من المؤشرات الدالة على الأبعاد الإيحائية للنص. لكن على الرغم من أهمية العناصر المشكلة للعتبة، فقد تكون سلبية أحيانا.لأنها تقوم كنص قبل قراءة نص الرواية. خاصة فيما يتعلق بالرؤية الغيرية للرواية ( كما هو شأن رؤية الكاتبين هشام ناجح ومحمد محقق في الغلاف الخلفي لهذه الرواية ).وأحياناً يكون فضاءً علاماتياً ذا دلالات متضاربة.يحمل رؤية لغوية ودلالة بصرية فقط .بحيث يتقاطع اللغوي مع البصري التشكيلي في تدبيج الغلاف.إن أهمية صورة الغلاف،جعلت المتلقي يوليها أهمية بالغة بنفس درجة احتياج الناشر والكاتب إليها.لأن التفكير في مكوناتها ومحاولة تفكيكها،يجعل القارئ مشاركاً فعَّالاً في كتابة النص الذي غالبا ما يأبى أن يأتي كاملاً من مؤلفه.ويصرّ على أن يكون نبتة لا تنمو إلا بقراءة متلق قادر على تخيل ما لم يخض فيه الكاتب، الذي تكمن حرفيته في مدى استغلاله لطاقات المتلقي الذهنية والتذوقية. ونظرا لأهمية الصورة عدها البعض(وسيطاً توصيلياً بين المبدع والجمهور)( 2 ).تتجلى فيها أثار الروح ذاتاً مستقلة بشكل جوهري. لذا اهتم الناشرون والكتاب المعاصرون بتصميم أغلفتهم.ليس فقط لتكون فعّالة وقادرة على جذب الانتباه و فك شفرات النص واكتشاف علاقاته مع مختلف النصوص الأخرى.تحمل صورة الجمجمة على غلاف رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ الكثير من الثنائيات(تصل إلى حد التناقض). مثل ثنائية القدرة على الفعل وعدم القدرة/العجز،وثنائية الرؤية البصرية والعمى، وثنائية الفراغ و الامتلاء، وثنائية العقل والجنون،الخ… إنها مجموعة ثنائيات تؤسس مجتمعة لحالة من عدم التوازن.لأن الجمجمة الفارغة وبشكل هندسي غريب و القابعة داخل الصورة،يخترقها أصبعان من الأذن اليمنى إلى اليسرى( على شكل مسدس مصوب )،تحمل أبعادا سريالية.كما أن التأمل في الخفي والظاهر( الثنائيات ) في شكلها الغريب،يكشف عن مجموعة أيقونات دالة على الاضطراب وعدم التوازن. لأن في فراغها إشارة إلى فقدان قدرتها على التفكير وكشف حقائق الواقع.إنها صورة تشير إلى أن المساحة الكبرى داخل السرد ستشغلها هذه الجمجمة/الذاكرة (وما يرتبط بها).تعاني من خلل واضطراب ما. يحتمل أن يكون سببه جسدياً،أو ثقافياً،أو اجتماعياً، أو عاطفياً أو سياسيا ، الخ…أو هي هذه العوامل كلها.إنها إشارة تتماس مع النمط الأول الذي تسعى الصورة ـ أية صورة ـ لإنتاجه. وهو النمط الواقعي الذي( يشير مباشرة إلى أحداث القصة… ولا يحتاج القارئ (معه) إلى كبير عناء في الربط بين النص والتشكيل)( 3 ).يحدد العنوان الغارق في البعد الزمني و السريالي الذي يعلو صورة الجمجمة مسار أحداث هذا الاضطراب.كما تؤدي الألوان المشكلة ملامح الصورة وخلفيتها دوراً في تعميق هذا الاضطراب. فيغلب على خلفية الصورة اللون الرمادي و الأزرق الداكن القريب من السواد في بعض الأماكن.وهو لون يقسم عالم الإنسان إلى قسمين:قسم إيجابي وقسم سلبي.يتجاذبان النفس.فتعيش مجبرة في منطقة البين بين. تحول فيها هذه الألوان المهيمنة،إلي لون قريب من البني الذي يوحي بالأهمية الموضوعة على القلق/ الاضطراب.يمتزج فيها اللون الأزرق الداكن الذي يرمز إلى عوالم الضياع و الاغتراب. بهذا تؤشر تركيبة الألوان على تحديد ملامح الصورة.لتعلن بأن هذه الجمجمة محاصرة بين عالمين مختلفين يتجاذبانها( اللون البني عالم أسفلها، واللون الرمادي عالم أعلاها).إنها مجموعة ألوان تضيف ـ مجتمعة ـ بعداً آخر من أبعاد المعاناة.إنه بعد التمزق الناجم عن قوة عالمين متضادين ( الواقع المعيش المفروض و الحالة الخاصة لهذه الجمجمة / الذاكرة التي قد تكون حاضرة في النص الرئيسي بشكل أو بآخر).إنها إضافة تضع لبنة في صرح المحكي الاحتمالي الذي تؤسس له هذه العتبات. لأن وضعية صورة الجمجمة على الغلاف، ومجموعة الألوان المحددة و الملامح التي تنتجها الصورة،تعلن عن مكامن الحيرة بين العقل والجنون.كما تفرض هذه الصورة على المتلقي الدخول إلى عالم الرواية من بوابة الاضطراب.باعتبارها بوابة تطلب من المتلقي الاستعداد بآليات قراءة حذرة،أو من بوابة الصراع بين الأنا والآخر.وهو على غلاف رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ ، يطرح سؤالين:الأول عن كيفية التعامل مع الجمجمة(الحالة)المرشحة لشغل المساحة الكبرى داخل السرد.والثاني عن كون هذه الجمجمة ( حالة الجنون) مرتبطة بالكاتب أم بشخصية من شخصيات الرواية. إن الإجابة عن هذين السؤالين غالبا ما ترتبط ببقية العتبات.بحيث يكون هذا دليل تعالقها بالمتن.كما قد يكون هذا دليل تعالق العتبات الأخرى والمتن أوبهما معاً.وهي إجابة ستساهم في الإجابة عن أسئلة هذه المقاربة.

2 ــ عتبات الداخل:

حين نتجاوز عتبة الغلاف ونحاول ولوج العوالم النصية لرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ ، نجد أنفسنا أما عتبات داخلية. تتجلى الأولى على شكل تناص.إنها عبارة عن قولة للكاتب الفرنسي المعروف أندريه جيد (أجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها المنطق) الصفحة:5. من دون أن يذكر الروائي مصدرها.تشتمل بدورها على كلمة الجنون التي تندرج ضمن تلك الثنائية التي اشرنا إليها سلفا:ثنائية الجنون/المنطق. تندرج قولة الكاتب أندريه جيد ضمن العتبات التصديرية. يرى جيرار جينيت بأن هذه الأخيرة عبارة عن (اقتباس يتموضع عامة على رأس الكتاب أو في جزء منه يكون في الغالب عبارة عن حكمة نثرية أو شعرية،أو مثل، قول مأثور، جملة لكاتب مشهور.يأتي بها الكاتب ليس فقط لما تقوله.لكن ـ أيضاً ـ من أجل قائلها)( 4 ).فقد يأتي التصدير ـ عادة ـ لتفسير العنوان.فتكون له وظيفة تداولية( واضعة لطريقة تسنن بها القراءة الواقعة في قلب الحوار الناشئ بين النص والحكمة التي رجع إليها الكاتب )( 5 ).كما قد تكون لها وظيفة توجيهية. تهدف إلى إبراز إستراتيجيات الاستقبال لدى المتلقي وتحديد مسارات التلقي لديه. ويمكن للتصدير أن يكون أيقوناً كالتصـدير بالرسم والنقوش والصور( لكن هذا النوع غائب في رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ). يحمل دلالات سيميائية موسعة لمعناه ورابطة بينه وبين المتن والغلاف. أما التصدير الداخلي الثاني في هذه الرواية ( المتضمن في الصفحة: 7) فقد عنونه الكاتب ب ـ كلمة لابد منها ـ.كأن الروائي عبد الغفور خوى يخبرها ويجبرنا في الوقت نفسه على التوقف عند هذه الكلمة.لكونها قد تكون من المفاتيح الهامة لهذا النص السردي. لأن عبارة ــ لابد ــ تحمل الوجوب و الضرورة.سيستوعبها القارئ حين يشرع في قراءة هذا النص. يقول السارد / الكاتب وكأنه يفشي للقارئ سرا:( صابر الصالحي صديق طفولتي وشغبي المالح، لعبنا معا،طاردنا القطط والكلاب، تسلقنا الأشجار،دخلنا المدرسة معا ذات صباح خريفي،هو واصل تعليمه وأنا انقطعت عن الدراسة. مارس صابر بعد حصوله عل الإجازة عدة مهن،أهمها تدريس مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي،ولم يستطع أن يندمج في المجتمع، حتى مستشفى الأمراض العقلية لم يستطع احتواءه،هو اليوم يجوب الشوارع ويدخن أعقاب السجائر بعد أن فقد عقله) الصفحة :7. كما يضيف الكاتب/السارد (بعد تقديم صديقه/شخصية صابر) إلى أن ما سيكتبه هو عبارة عن أوراق/مذكرات شخصية لصديقه صابر.يقول السارد:( هذه الأوراق أوراقه،وهذه المذكرات مذكراته(…) فإنني اليوم أعيد نسخها و تحريرها باسمه) الصفحة:7.فهل يعلن هذا التصدير على أن هذا النص الروائي عبارة عن سيرة غيرية هي سيرة صابر الصالحي صاغها صديقه/ الروائي عبد الغفور خوى ؟ أم هو فقط نوع من التمويه من طرف الكاتب ليوهم القارئ بواقعية هذا النص السردي ؟هذا ما ستكشف عنه مسارات النص الروائي .خاصة وأن الروائي يشير إلى أن هذه الأوراق ( المشكلة للنص السردي)،قد عنونها صاحبها / شخصية صابر باسم مقام معين. يقول:( كل مذكرة من هذه الأوراق عنونها صابر باسم ” مقام معين ” أما المذكرة الأخيرة فقد اجتهدت وعنونتها ب: ” مقام ما قبل الجنون بقليل ” توقفت المذكرات عند بداية ممارسة صابر لمهنة تدريس الفلسفة) الصفحة :7.تتوزع هذه المقامات الإحدى عشر في المسار السردي للرواية على الشكل التالي:مقام الرحيل(الصفحة:11)،مقام الوصل(الصفحة :21 )، مقام الأمل(الصفحة:29)،مقام العشق(الصفحة:37)، مقام الحزن(الصفحة:51)،مقام القتل (الصفحة : 65) ، مقام الهجر(الصفحة:71)، مقام الندم(الصفحة:79)،مقام اليأس(الصفحة: 85)،مقام الرجوع(الصفحة: 96)،مقام ما قبل الجنون بقليل(الصفحة:103)،المقام الأخير( الصفحة: 109،غير معنون). يعلن السارد من خلاله عن عدم قدرته عن مواصلة الكتابة و البوح.يقول:( أعذروني أحس بالعياء الشديد، أفكاري مشتتة أكثر، دماغي مكدود…) الصفحة:111.تخلق هذا المقامات لدى القارئ نوعا من الحيرة. يسكنها هاجس السفر، وشوق/الوصل،وطلب الأنس، كما تتخللها الحيرة،والقلق الوجوديين.اللذان يفرضان على المتلقي ولوج العوالم النصية لهذه الرواية من بوابة الغربة والاغتراب الواقعي و العقلي.وهما مع الذاكرة يشكلان ثالوثاً لا يمكن الفصل بين مكوناته.كما أنهما يستدعيان وضعية صورة جمجمة الغلاف، والعنوان المحتاج إلي مسند إليه لاستكماله.يطرحان كذلك سؤالين ضروريين عن العلاقة بين مضمونهما وبين جمجمة الغلاف الفارغة وعن قدرتهما على استدعاء نفس المسند إليه الذي استدعته الصورة لاستكمال العنوان.وإذا استعنا بالعتبة الأولى /قولة أندريه جيد وما تحمله من ثنائية(الجنون/المنطق)،يمكن إعادة بناء عنوان الرواية من خلال مفهوم الاغتراب المزدوج لشخصية صابر.اغتراب على مستوى الذاكرة /الجمجمة (حسب صورة الغلاف).وآخر على مستوى حياتية اليومية وعلاقاته مع باقي شخصيات الرواية( الواقعية منها و الورقية).مما يجعل شخصية صابر،تعيش تجربة قاسية انتهت إلى الجنون . فحين نعيد صياغته عنوان الرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ ونعمل على إقحام لفظة الاغتراب. يصبح العنوان الموازي هو: ـ اغتراب صابر الصالحي ــ أوــ اغتراب ذاكرة ـ أو صيغة أخرى يدخل هذا المضمون الاغترابي تحت عباءتها.بهذا، ينتسب مضمون هذا النص السردي (من خلال عتباته المختلفة) للقارئ أكثر من انتسابه للمؤلف والناشر.إنه وليد قراءات اعتباريته التأويلية ومخزونه المعرفي وقدراته على تضفير الخيوط المتوازية لبناء كيان سردي. ولعل هذا النسب بجوار التبعية والنقصان والاحتمالية،ما يجعل العتبات مدخلاً للنص القابع خلفها.لكن لا ترقى إلى أن تكون نصاً مستقلاً.إن التسليم بأن العتبات مدخل للنص، يصب في معين العلاقة بين العتبات ومستويات التوقع/ المحتمل. لأن هذه المداخل تحدد تمفصلاته الأيقونية واللسانية على السواء.كما ترسم مساراً توقعياً واحداً للمتلقي الواحد. يدلف من خلاله القارئ إلى عالم النص ليحدِّد وحده صحة هذا المسار أو خطأه. لكنه تحديد تتوقف عليه وضعية المتلقي داخل النص.أما النص المستقل فهو بحكم شموليته، فإن مؤلفه يفتح الباب أمام مسارات توقعية كثيرة. إن الترابط بين العتبتين الداخليتين ( التصدير و المقامات ) والعتبة الخارجية ( الغلاف الأمامي و الخلفي) لرواية ــ قبل الجنون بقليل ــ ظاهر رغم اختلاف طبيعتهما.إن الغلاف بوحداته اللسانية وغير اللسانية (العتبة البصرية /الصورة )،و التصدير،والمقامات( العتبة اللسانية) عبارة عن تعالق آخر.يتجلى من خلاله تعالق المرئي والمكتوب.يدخل النص الفوقي في علاقة جدلية مع النص السردي للرواية.وكذا مع شخصيات النص وكاتبه.وقد يكون ملحقاً بنص الرواية أو مستقلاً عنه.بحيث (تندرج تحته كل الرسائل والخطابات الموجودة خارج الكتاب(أو داخله) ،عامة أو خاصة،فتكون متعلقة به ودائرة في فلكه )(6 ).وكما تعالقت العتبات بعضها ببعض، تعالقت كذلك مع المتن الروائي الرئيسي. بحيث يبرز هذا التعالق على عدة مستويات:
1 ــ المستوى الأول : مستوى المضمون، فمضمون الرواية يدور في فلك الغربة والاغتراب و قسوة الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي خلقت جيل من الضياع. وهو مضمون مهدت له العتبات وهيئت المتلقي لقبوله. 2 ــ المستوى الثاني: مستوى الفضاء المرئي/الصورة.هذا الفضاء القابع في العنوان باعتباره مسرح أحداث المتن السردي.كما أن موقعه أعلى صفحة الغلاف يقابله سطوة الفضاء داخل النص . مما يخلق نوعا من التناسب مع هذا الموقع.فكانت بداية رحلة شخصية صابر (بأبعادها الجغرافية، والثقافية،والاجتماعية)أحد أهم أسباب حالة الاضطراب والغرائبية المسيطرة على الذاكرة (جمجمة غلاف الرواية).

3 ــ المستوى الثالث:مستوى المؤشر التجنيسي المضطرب.

بحيث نجد ما يؤشر على جنس الرواية( الغلاف الأمامي) وما يؤشر السيرة الغيرية المستوحاة من العتبة الداخلية المعنونة ب:( كلمة لا بد منها).

4 ــ المستوى الرابع: مستوى الشخصيات.

بحيث تتعالق جمجمة الغلاف مع شخصية صابر(الشخصية المحورية في الرواية) التي استحوذت على المساحة الكبرى داخل النص. يربط بينهما الحيرة والاضطراب، والعيش في منطقة الهامش حيث اليقين و اللايقين.إن شخصية صابر لا تعرف الاستقرار المادي والنفسي على السواء،على الرغم من كونها تحلم بهما معا.مما يجعلها ممزقة ومشدودة إلى عالمين.أحدهما عالم الحقيقة ، والثاني عالم الوهم.

بين العتبات ونص الرواية:

تتكون رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ من مجموعة من المقامات. تشكل في مجملها مسارات سردية لما عانته الشخصية المحورية للرواية( شخصية صابر ابن قرية العوينة المثقف). غادرت القرية هرباً من ظروف العيش القاسية من جهة و البحث عن الحرية والحياة الأفضل في المدن العملاقة(مدينة الدار البيضاء).لكن بين قرية العوينة و مدينة الدار البيضاء تدخل شخصية صابر في متاهات لا تنتهي. تكشف من خلالها عن الوجه الحقيقي لهذه المدن/ الحياة التي تقوم على التناقضات الصارخة. مما يضاعف معاناة شخصية صابر عبر مسارات متوازية تلتقي في مناطق عدة(مراحل الرحلة والاستقرار وعلاقاته مع باقي شخصيات الرواية و فضاءاتها). فتقلب هذه الرحلة حياته رأساً على عقب. وبين المقام الأول(المسار السردي الأول) مقال الرحيل ( من قرية العوينة إلى الدار البيضاء) وبين المقام ما قبل الأخير(المسار السردي ما قبل الأخير)مقام/ الرجوع (من الدار البيضاء إلى قرية العوينة)،تتصدع ذات صابر مرة أخرى.إذ على الرغم من اختلاف الفضاء الأول عن الثاني،فإن كليهما يعرف الاضطراب وعدم التوازن. يجعل الشخصية المحورية/ شخصية صابر تعيش نوعا من الاغتراب. يقودها إلى الجنون.إن هذا ما أشرنا إليه عند تناول الثنائيات التي ميزت عتبات النص.مما يبين أن إدراك وظيفة اشتغال مختلف العتبات (الخارجية والداخلية)،وتوالدها وتدرجها وعلاقاتها بالمسار السردي الرئيس، وكذلك ببعضها باعتبارها علامات للتمظهر،تؤدي إلى إنتاج دلالة مشتركة.إنها دلالة الجنون التي تعني الوقوف على الجانب النقيض من الواقع و الحياة.
حددت هذه القراءة أهم العتبات الممكنة التي تمنحها(حسب مقاربتنا لها) رواية ــ قبل الجنون بقليل ــ للروائي المغربي عبد الغفور خوى. مما مكننا من تحديد ما يلي : أـ شكلت الصورة والألوان وحدتان مركزيتان. بحيث ارتبطت دلالتهما ببقية الوحدات التي تتشكل منها العتبات. ب ـ تعمل العتبات مجتمعة على بناء نص احتمالي. باعتباره نتاج تفاعل مقصديات كل من الكاتب والناشر والقارئ على السواء. ينتسب النص على إثرها للقارئ أكثر من انتسابه للمؤلف وحده والناشر.على الرغم من كونها نصا احتماليا.لأن وجوده منوط بالمتن اللساني القابع خلفه. يؤكد صحة معطيات جزئياته وصدق وظيفته.إنه نص تابع رغم تموقعه على خط بداية القراءة و ناقص رغم اكتمال عناصره.
ج ـ لا تخرج العتبات عن كونها مدخل للنص القابع خلفها.بحيث لا ترقى إلى أن تكون نصاً مستقلاً.
ذ ـ لا يقف دور القراءة النقدية الإشهارية( في كثير من الأحيان )عند المدح والثناء.بقدر ما تتخطى هذا الدور إلى إنتاج المعرفة بآليات نقدية سليمة ومعطيات نابعة من صميم النص .يدرك من خلالها المتلقي ما لم يدركه في محيط وثنايا النص الرئيسي . هـ ـ ينبع الاختلاف في فهم مغزى النص الواحد من قارئ لآخر. إن كثيرا من النصوص الروائية قُدمت لها أكثر من قراءة.جاء بعضها على طرفي نقيض. تكمن أهمية العتبات في كونها ترسم طريقا لولوج النص السردي الرئيسي. كما تمد القارئ ببعض المفاتيح التي تمكن من سبر أغوار النص والغوص في أبعاده الدلالية و الأسلوبية.

الهوامـش:
الصفحات المشار إليها مأخوذة من :خوى(عبد الغفور)، قبل الجنون بقليل،(رواية)،ط1،مؤسسة الرحاب الحديثة،بيروت، 2016(112صفحة).
(1) بلعابد( عبد الحق)، عتبات ، جيرار جينيت من النص إلي المناص، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، ،2008 ، الصفحة: 102. (2) أحمد مختار عمر،اللغة واللون،ط 2،عالم الكتب للنشر والتوزيع، القاهرة،مصر، 1997،الصفحة:85.
(3) محمد فكري الجزار،العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي،ط1،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة ، 1998، الصفحة: 51.
(4) بلعابد ( عبد الحق)، عتبات ،جيرار جينيت من النص إلي المناص،( مرجع سابق)،الصفحة:134.
(5) حسن محمد حماد، تداخل الأنواع في النصوص العربية،ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، الصفحة: 156. (6) عبد الفتاح الحجمري، عتبات النص البنية والدلال، ط1، منشورات الرابط، الدار البيضاء( المغرب)، 1996، الصفحة: 65.

بقلم : سعيد بوعيطة

Related posts

Top