شعرية اللغة الدرامية في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” لسعد الله ونوس

إضاءة:
ليس المسرح الحديث مسرحا تاريخيا؛ فهو لا يروي القصص؛ قصص الأفراد أو العائلات، ولا يعرض قضايا، ولا يدافع عن أفكار أو مثاليات أو مذاهب، إن غاية المسرح الحديث هي عرض مواقف رئيسة في حياة البشرية، وقد أعلنها صامويل بيكيت صراحة حين قال: إن مسرحي عبارة عن أصوات رئيسة أساسية. ومن ثمة فإن اللغة الكلامية ليست جوهرية بالنسبة إليه وإلى أمثاله من كتاب المسرح المعاصر1، ومسرحية “الفيل يا ملك الزمان” لصاحبها عبد الله ونوس مثال للمسرح الحديث، الذي قلب الأوضاع القديمة والقواعد الراسخة، التي سنّها المسرح التقليدي؛ إذ نلاحظ أنها تسحب شيئا ما ثقتها في اللغة، وتتخلى عنها، مفضّلة أساليب ووسائل أكثر كفاية، وأعلى مقدرة وأكبر أداء وأبعد تأثيرا2؛ وتتمثل في بلاغة العناصر غير المنطوقة في اللغة الدرامية.

المسرحانية ودراما الحياة:
تتضح هذه المسرحانية بشكل واضح في العبارات الأخيرة التي أتت في نهاية المسرحية؛ المتمثلة في الحوار الآتي:
“الجميع: هذه حكاية
الممثل الخامس: ونحن ممثلون
الممثل الثالث: مثلناها لكم لكي نتعلم معكم عبرتها.
الجميع: حكاية دموية عنيفة،
وفي سهرة أخرى سنمثل جميعا تلك الحكاية.”
فالممثلون يشيرون إلى طبيعة العمل الذي يقومون به؛ إذ إننا أمام مسرح يعرض الواقع المسرحي ذاته؛ والممثل في هذه المسرحية لا ينفك يصرّح لنفسه وللجمهور بأنه مدرك لحقيقة وضعه، وأنه يمثل دورا أمام متفرجين، وهو ما يقودنا إلى القول إننا أمام ظاهرة المسرح داخل المسرح.
في مسرحية ” الفيل يا ملك الزمان” تم التخلي عن الصراع بين الشخوص والعمل على “مدرمة” الحياة؛ فالدراما الحديثة لم تعد صراعية، بل أنطولوجية؛ ذلك أن الانزلاق الشكلي والميتافيزيقي هو الذي يؤشر على تغيير حقيقي للنموذج، وإلى انبثاق ما سماه جان بيير سرزاك “دراما الحياة”، التي عوضت الدراما في الحياة بوصفها الشكل القديم الذي فرض نفسه منذ النهضة إلى نهاية القرن التاسع عشر، وقد غطت “دراما الحياة” حياة بأكملها؛ مؤشرة على كيفية تأثير الوسط والتاريخ والمجتمع على الشخصية- شخصية زكرياء أنموذجا في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”، في حين تغطي ” الدراما في الحياة” حقبة محددة من حياة البطل3؛ فشخصية زكرياء في هذا العمل، تأثرت بمن حولها، ورغم رغبتها الجارفة في التغيير لم تقو على رفع صوتها أكثر أمام سلطة الملك، وخيانة الناس الذين انحنوا خوفا، وتركوها وجها لوجه أمامه، مما اضطرها إلى التمثيل والتأثر بالجماعة، كما يشير إلى ذلك النص المسرحي بشكل حرفي:
” زكرياء:(يمثل ما يقوله بخفة وبراعة) نحن نحب الفيل يا ملك الزمان. مثلكم نحبه ونرعاه..”.
وهذا ما يدل بشكل واضح على ذوبان زكرياء في الوسط الذي عاش فيه، وإحساسه بالمأساة، لأنه لم يعش كما يريد. وهو الإحساس نفسه الذي تشعر به الجماعة لكنها لم تجرؤ على الجهر به خوفا من الجلاّد.

الحركانية:
المقصود بالحركانية، الاعتماد على الحركة بوصفها أسلوبا من أساليب التعبير؛ فالشخوص في المسرحية تأخذ شكلها وتعبر عن نفسها حتى قبل أن تتحرك أو تتكلم؛ وذلك بمجرد حضورها المادي أمام المشاهدين، وتتجلى هذه الحقيقة عند صامويل بيكيت في قوله: “حينما ترفع الستار، يكون المؤلف قد عبّر عن الكثير مما يريد التعبير عنه، فبمجرد تواجد الشخوص فوق المنصّة، يعني الكثير ويوحي بالكثير، وذلك قبل أن تشرع في الكلام4”.
ولنأخذ مثالا على ذلك مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”، فمنذ البداية نسمع حركة أقدام تتراكض ورجل مسرع الخطى يلتقي بآخر يأتي من اليسار بخطى عجلى ويصادف هو الآخر رجلا خطاه ثقيلة، مما يجعل المشاهد يدرك انه أمام مشهد مخيف يبعث على الهروب من شيء ما، وهو ما يشد انتباهه لمواصلة البحث عن السبب الذي يجيب عنه قول الرجل الرابع:
“الرجل الرابع: ماذا تنتظر؟ طفل لين العود يدوسه فيل ضخم كفيل الملك”.
وفاة هذا الطفل جعلت الناس يجتمعون أمام أبواب القصر بزعامة زكرياء الذي طمأنهم بإمكانية الدخول لمقابلة الملك، وبالفعل دخلوا بخطوات مشتتة ومرتبكة ليجدوا الملك وفي يده الصولجان، فيخفضون رؤوسهم وينحنون إلى أقصى حدود الانحناء ولا يجرؤون على النهوض وفي مقدمتهم زكرياء.. إلى أن عم صمت ثقيل لا اختلاج فيه ولا حركة، فأذن لهم بالكلام، لكن الخوف جعل أصواتهم ترتعش وحركاتهم تشل، كما تشير إلى ذلك الإرشادات (تضع الأم يدها بهلع على فم الصغيرة وتجبرها على السكوت)، ولم يجرؤ أحد على مواجهة الملك بالحقيقة رغم محاولات زكرياء اليائسة(يائسا يلتفت نحو الناس المقوسي الظهور في انحناءة خوف) مما اضطره إلى افتعال طلب تزويج الفيل، وهو ما أدى إلى حركة دق الصولجان من لدن الملك إيذانا بموافقته على الطلب، بينما انسحب الناس بخطوات ذليلة ومقهورة.
إن هذه الحركات التي امتدت على طول المسرحية معظمها ذو مغزى، أحدثت حركة متجددة في ذهن المتلقي، ودفعت الحدث إلى الأمام5، ولعلها جميعها توحي بأننا أمام جماعة من الناس المغلوبين، انتهكت كلّ حرياتهم وحقوقهم، بما في ذلك الحق في الحياة، ورغم ما اتفقوا عليه، وما ضخ زكرياء في نفوسهم من ثورة لمواجهة الملك بالحقيقة للخروج من وضعيتهم البئيسة، حين مثلوا أمام الملك خارت كل قواهم، وشلت حركاتهم وارتعشت حناجرهم من شدة الخوف. أما حركات الملك والحراس فكلها تشير إلى البطش والجبروت.
إن نص مسرحية” الفيل يا ملك الزمان، ما هو إلا سيناريو أو وصف لحركات وتحركات الشخوص، وهو يمثل وسيلة التعبير الرئيسة وأداة الاتصال بالجمهور بالنسبة للمؤلف6، أما الحوار- عماد المسرح التقليدي- فهو هنا يخلو من كل حرارة وفكاهة وشاعرية وإيحاء، إن أغلب شخوص “عبد الله وانوس” عبارة عن أرقام يرمز لها بأسماء جنس، مثل الرجل1، المرأة1..

التمثيل الصامت (البانتوميم):
ينطبق على الأداء المسرحي صفة التمثيل الصامت أو البانتوميم، حينما لا يستعمل الممثل من وسائل التعبير سوى الحركة أو الإيماء، وكذلك يكون البانتوميم حينما ينفصل الأداء الحركي عن لغة الكلام أو يتميز عنها. والحقيقة أن التمثيل لا يقل بلاغة عن الكلام الشفهي، بل هو أكثر وضوحا منه، إذ يصبح الحديث اللغوي بالنسبة له مجرد ثرثرة أو لغو7. ومن أمثلة ذلك حركة الناس اللاشعورية المتمثلة في مسح أحذيتهم ونفض ثيابهم، كما ورد في الإرشادات(يبدأ الناس لا شعوريا بمسح أحذيتهم وتنفيض ثيابهم) وهي حركة جماعية تعبر عن تأدبهم و احترامهم لقصر الملك، بل و تقديسه، وتعبر كذلك عن استسلامهم التام أمام الحارس، الذي سيتبعونه ليوصلهم إلى عرش الملك.
والمتأمل لفن التمثيل الصامت يرى أنه وسيلة تعبير، تعتمد على نوع من التناقض؛ فالممثل صامت وهو في الحقيقة يعبر بالحركة والإيماء، وهو من ناحية أخرى يتكلم أي يعبر عن نفسه، في حين أنه يلزم الصمت8. والصمت في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” في فضاء القصر الملكي هو أبلغ من الكلام، إذ شعر الجميع بالرهبة والخوف، وبدأت قلوبهم تدق، وأجسامهم تتعرق أمام هيبة القصر و الحراس المنتشرين كالأشباح في جميع جنبات القصر.

الديكور(الأثاث):
يعد الديكور، بمعناه الدقيق، أهم العناصر البصرية في المسرح، فكما هو الحال بالنسبة للملابس والموسيقى والأصوات التي سنتعرض لها بالتحليل لاحقا، فإن عناصر الديكور تعد إشارات ورموزا، حافلة بالمعاني، ثرية بالدلالات، أسوة بالعناصر اللغوية. فكل ديكور في نظر المتفرج له أهمية خاصة، على المستويين الدلالي والجمالي، حتى المنصة الخالية لها معنى، أي أن غياب الديكور مثل وجوده له مغزى9، والديكور في المسرح الحديث لا يميل إلى الإسراف؛ وفي بداية مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” نلفي المسرح فارغا وزقاقا تحصره في الخلف بيوت بائسة يتراكم عليها القدم والأوساخ؛ هذا الديكور-الأثاث- سيخلق مجالا؛ أي وسطا ملائما للشخصيات التي تتحرك داخله، بمعنى أن حركات الممثل وإيماءاته ونظراته يحكمها وجود هذه الأشياء التي تشترك في الأداء. فالمسرح الفارغ يرمز إلى العزلة والإقصاء والتهميش والبيوت القديمة والمتسخة، تمثل مجازا مرسلا علاقته المحلية؛ فالمقصود هم الناس البؤساء المقيمون في هذه البيوت المتراكمة، وهذا الديكور البسيط يوحي بموضوع المسرحية الذي يسلط الضوء على فئة اجتماعية هشة حرمت من كل الحريات والحقوق.
وفي مقابل هذا الفضاء هناك (فضاء قصر الملك) الذي يشغل حيزا كبيرا من المسرح حسب الإرشادات (كل الناس يجتمعون أمام أبواب القصر الذي يشغل الجزء الأكبر من المسرح..)، ومثل هذا الديكور يرمز إلى الهيمنة والطغيان الذي يمارسه صاحب هذا القصر على رعيته.
ويمكن القول بناء على ما سبق إن الفضاءين السابقين هما فضاءان متضادان؛ يمثلان معا استعارة تصورية اتجاهية؛ ذات بعد عمودي “الهيمنة والقوة فوق والخضوع والضعف تحت”10، كما يوضح ذلك هذا الرسم:
الديكور (أبواب القصر- القصر الملكي): فوق(الهيمنة والقوة)
الديكور: (بيوت بائسة يتراكم عليها القدم..): تحت (الخضوع والضعف)
هذه البنية الفنية التضادية التي شحن بها ونوس الديكور – الأثاث في مسرحيته، أغنت اللغة الدرامية غير المنطوقة، وجعلتها تقوم بدور مهم، وهو ما يطلق عليه(الديكور الممثل) أو الديكور الذي يؤدي دورا.

الديكور الضوئي (الإضاءة):
إذا كانت الإضاءة في المسرح التقليدي ترتبط بجانب الزينة أو التجميل أو خلق جو واقعي للأحداث، فإن الضوء في المسرح الحديث على النقيض من ذلك يؤدي دورا يمكن أن نطلق عليه الغلو والمبالغة والتفخيم، فهو يقوم بإبراز بعض المشاهد، والتركيز عليها أشبه في ذلك بآلات النقر في الموسيقى، وهو جزء لا يتجزأ من النص، مثل الحوار تماما تزيد من حدة التأثير11 (Effet). ومما يدل على دور الإضاءة في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” ورودها في ختام المشهد الأول من المسرحية ( يعم الظلام، ويتلاشى صخبهم)؛ فالظلام في نهاية المشهد الأول أتى بعد ضجيج ولغط واحتجاج، وهو ظلام عام، لم يعط بصيص أمل لأصوات الرفض والتغيير والاحتجاج، إنه رمز للظلم واليأس والقلق والجزع الذي يخيم على الجميع بعد حادثة الفيل التي أودت بحياة الطفل وما سبقها من حوادث.
وفي مستهل المشهد الثاني (يضاء المسرح، باحة عامة، الناس مجتمعون، يقف زكرياء أمامهم..) للدلالة على استيقاظ وعي الناس وتنبههم جميعا، وفي مقدمتهم زكرياء، الذي سينير طريقهم ويوحد أصواتهم على كلمة واحدة في انتظار مواجهة الملك بحقيقة ما فعل فيله للطفل والناس جميعا، لكن سرعان ما سيخفت الضوء(يبدأ الضوء بالانطفاء تدريجيا) إلى أن يختفي لمدة من الزمن (غمغمة بعيدة تتخامد. ويعم الظلام فترة) في ختام المشهد الثاني، وذلك بالموازاة مع اختفاء أصوات الناس بعدما اصطحبهم الحارس في الطريق إلى الملك، وهو ظلام يبعث على الخوف والرهبة.
وأثناء مواجهة الملك يعود الضوء من جديد (ضوء كالشمس)، (والملك يتألق كالشهب) دلالة على رفعة مقامه وعظمته وقدسيته، وهو ما سبب ارتباكا للناس وتشتتا، فخوفا، ترجمته انحناءتهم الجماعية، التي يمكن القول – بقليل من المبالغة- إنها طقس من طقوس التعبد في حضرة الملك/ إله الشمس. فقدسية الفضاء امتصت كل احتجاتهم، ووضعت عنق زكرياء تحت المقصلة، لولا مرواغته بالتماس تزويج الفيل.. لتخفت الأضواء في النهاية (يتحركون بخطوات ذليلة منسحبين. وتخفت الأضواء فترة..) دلالة على انطفاء جذوة الثورة ضد الملك وكل ما يمثله من سلط (الفيل).
وفي الختام يمكننا أن نقول إن استخدام الإضاءة واللعب بها في المسرح المعاصر، أصبح يشغل المكان الذي كانت تشغله المبالغات الكلامية والغلو اللفظي في المسرحيات الكلاسيكية القديمة12، إذ تم استبدال عنصر بلاغي بعنصر آخر يؤدي الدور نفسه، ولكنه أبعد أثرا وأشمل دلالة. وعموما لقد عكست الإضاءة على امتداد المسرحية البعد السيكولوجي للشخوص وترجمت انفعالاتهم لإنتاج معان من قبيل الخوف والتوتر واليأس..

الديكور الصوتي:
يضطلع الديكور الصوتي بدور مهم في العرض المسرحي، فهو يمكن أن يتدخل في بداية المسرحية، أو في كل مطلع فصل من فصولها، لتهيئة المشاهد ونقله من عالم القاعة إلى عالم المنصة، والديكور الصوتي لا يقتصر على الموسيقى، فهو يشتمل كذلك على جميع الأصوات التي تتفوق على الموسيقى في مجال الدلالة، وبذلك تأتي وظائفها أكثر دقة وأكثر دلالة13. فأحيانا تقوم هذه الأصوات بخلق الجو الملائم، كما حدث في هذه المسرحية؛ إذ طغت هذه الأصوات (جلبة بعيدة وراء المسرح، ولولة، امرأة تصرخ…)، للدلالة على حدوث مصيبة، وهو ما تشير إليه الإرشادات المسرحية (تسود الضجة المتناهية..، ولولة نساء وأصوات ومختلف العبارات التي تنتشر من أفواه الناس أوقات المصائب)، (تدخل امرأة عجوز وهي تولول بصوت حاد، وتضرب بقبضتها على صدرها)، (تعلو ولولتها)، وكان صوت زكرياء مهيمنا على كل الأصوات الأخرى (يسيطر صوته على الضجيج) وحاول أن يهدئ الضوضاء ويجمع الأصوات المفككة (أصواتهم مفككة لم تتحد بعد..)، (يتضح أكثر تفكك الأصوات ويزداد نشازها)، وبالفعل حدث ذلك؛(بدأت الأصوات تتسق) إلى أن أصبحت أكثر اتساقا(الأصوات أكثر اتساقا واتحادا) حين اجتمعوا وأجمعوا على الجهر للملك بما أصابهم به فيله من خطوب ومصائب، لكن هذه الأصوات ستصبح مهموسة في حضرة الملك( تنتشر بينهم همسات مبحوحة ومندهشة) بمن فيهم زكرياء رغم جرأته( متجرئا، صوته راجف)، وفي مقابل هذه الأصوات المولولة والغاضبة نجد صوت الملك المترع بالسخرية(قهقهة)،ضاحكا من جبن رعيته وضعفها.
ولعل سعد الله ونوس في هذه المسرحية سخّر كل إمكانيات الأصوات لخدمة العمل المسرحي؛ إن أصوات الولولة الحادة والصراخ والأصوات الباكية، أنبأت عن فاجعة ألمّت بالناس وخلقت جوا من البؤس والشقاء. وفي إطار حديثنا عن استعمال الأصوات بوصفها وسيلة من وسائل التعبير، ينبغي أن نتذكر أن الذي أيقظ وعي الناس وأذكى في نفوسهم الرغبة في مناهضة الظلم هو ولولة المرأة وصراخها؛ وقد تفاعلت مع هذا الصوت بقية الأصوات الأخرى داخل المسرحية، مما نتج عنه حوار صوتي كبير، أسهم في تحرر الحوار المسرحي من أحادية الصوت؛ فالمسرحية لا تلتقط مختلف الأصوات فحسب، بل تلتقط قبل كل شيء العلاقات الحوارية بين هذه الأصوات، وتفاعلها الحواري14 . فولولة المرأة وصراخها أدى إلى حدوث كورال من الصراخ يقوده وينظمه زكرياء الذي يعيره سعد الله ونوس صوته الخاص ولغته وخطابه، هذا الصوت الذي سيرتجف في حضرة السلطان، وينتج عنه هو الآخر صوت القهقهة والضحك المغلف بالسخرية والاحتقار في نهاية المسرحية؛ لأن سعد الله ونوس لا يؤمن بصوت الفرد، وإنما يؤمن بصوت الجماعة.

الديكور الكمالياتي(الإكسسوار):
المقصود بالديكور الكمالياتي هو الأشياء الخفيفة المستعملة فوق منصة التمثيل، ولها وظيفة في المسرحية، مثل هذه الجمادات تعد جزءا من الأداء التمثيلي ومن الحدث، وللديكور الكمالي معان ودلالات، وتتمثل أهم عناصر هذا النوع من الديكور في الملابس التي تسهم في خلق الشخوص، ومن ثمة إبراز أعماق العمل المسرحي؛ فالشخوص في المسرح المعاصر تبدأ في التشكل والتعبير عن نفسها بمجرد ظهورها على المنصة، وحتى قبل أن تتحرك أو تتكلم، وذلك عن طريق وجودها المادي وما ترتديه من ملابس15. وفي هذه المسرحية “الفيل يا ملك الزمان” كانت الإشارة إلى الملابس ضمنية (.. بيوت بائسة يتراكم عليها القدم والأوساخ) فالديكور الأثاث يحيل بشكل غير صريح على الديكور الكمالي، ويشير إشارة خفية إلى ملابس السكان المتقادمة والمتسخة، وهو ما سيتضح لاحقا في الإرشادات المسرحية (يبدأ الناس لاشعوريا بمسح أحذيتهم وتنفيض ثيابهم)؛ فالأحذية والثياب متسخة، قديمة وعليها غبار، طالها النسيان وعدم الاهتمام، وبها القمل والبراغيت (انفضوا ثيابكم كي لا يهر منها قمل أو براغيث) كناية على التهميش والفقر. والبؤس في المظهر الخارجي للشخص يدل على نفسه البائسة، وما لاقته من ألوان الشقاء. وفي المسرح- كما هو معروف- كل شيء له دلالة، والملابس تفصح عن المهنة والانتماء الاجتماعي والقومي، ويمكن التعرف على الحقبة الزمنية، أو المرحلة التاريخية من خلال الملابس16..، وهو ما اضطلعت به الملابس في هذا العمل المسرحي؛ إذ كانت محملة بدلالات نفسية واجتماعية واقتصادية.
ومن الماديات الأخرى التي اضطلعت بدور مهم على المستوى الدلالي واللغة الدرامية، نذكر صولجان الملك؛ الذي كان دقه إيذانا بموافقة الملك على مطلب الشعب القاضي بتزويج الفيل؛ للدلالة على سلطوية القرار الملكي وقوته.
إن الديكور الكمالي للمسرحية كان علامة دالة على معاني البؤس والعجز، الذي طال صفوف فئة اجتماعية مضطهدة، بسبب تسلط الملك وجبروته، وعدم اكتراثه بأمور رعيته، وقد أدت الملابس دورها الرمزي البليغ في وصف الرعية والتعبير عن معاناتها، فيما جسد الصولجان غطرسة وتجبّر الحاكم.

خاتمة:
تضافرت عناصر اللغة الدرامية غير المنطوقة في هذا العمل المسرحي بشكل جلي؛ إذ كانت جميعها تعبر عن المعنى نفسه؛ فالمسرحانية دلت على ضعف حيلة المحكومين في مواجهة سطوة الحاكم، وشخّصت عدم قدرتهم على نقل معاناتهم الحقيقية، وهذا الضعف عبّرت عنه خطاهم الثقيلة والمتعبة ببلاغة، ودلّت عليه أقدامهم الراكضة، خوفا مما حلّ بهم، وكانت ولولتهم وصرخاتهم طلبا للنجدة، أصدق شاهد على الألم الذي سكن فيهم، هذا الصراخ سيتلاشى، ويتبخّر ، ويعمّ الصمت، وترتجف الحناجر في حضرة الملك، كل ذلك تم تصويره في مشهد درامي ممتلئ بالبؤس الذي كشفت عنه البيوت القديمة، المتسخة، وعرّته الملابس الرثة التي يهرّ منها القمل والبراغيث.

الهوامش:

– حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005 ، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ص32.
2- حول كتاب جون بيير سرزاك (شعرية الدراما الحديثة) قراءة فلور غارسان مارو، إعداد وترجمة حسن المنيعي (شعرية الدراما الحديثة) منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة رقم 47 ، صص 30-31 .
3 – foucre michélle(le geste et la parole dans le théatre de Samuel Beckett ,Nizet,paris, 1970
4 – حمادة إبراهيم (المرجع نفسه) ص 36.
5- علي أحمد باكثير(فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية)الناشر مكتبة مصر، دون طبعة، ص78.
6- حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005 ، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ص 52
7- حمادة إبراهيم (المرجع نفسه)ص 56.
8 – حمادة إبراهيم (المرجع نفسه)ص57
9- حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ص 63.
10 – عبد المجيد جحفة(دراسات دلالية في اللغة العربية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2018، ص158.
11 – حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ص 74.
12- حمادة إبراهيم (المرجع نفسه)ص74.
13 – حمادة إبراهيم (المرجع نفسه)ص 81
14- جان بيير سرزاك (تقاسم الأصوات) إعداد وترجمة حسن المنيعي (شعرية الدراما الحديثة) منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة رقم 47، ص 56
15 – حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ص 78.
16- نديم معلا(لغة العرض المسرحي)، منشورات المدى،دون طبعة،ص65

لائحة المصادر والمراجع العربية:
– سعد الله ونوس (الفيل يا ملك الزمان) منشورات دار الآداب- بيروت.
– حمادة إبراهيم (اللغة الدرامية العناصر المنطوقة والعناصر غير المنطوقة) الطبعة الأولى 2005 ، منشورات المجلس الأعلى للثقافة،
– حسن المنيعي( شعرية الدراما المعاصرة) إعداد وترجمة، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، سلسلة رقم 47
– علي أحمد باكثير(فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية)الناشر مكتبة مصر .
– عبد المجيد جحفة(دراسات دلالية في اللغة العربية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2018،

لائحة المراجع الفرنسية

foucre michéle(le geste et la parole dans le théatre de Samuel Beckett ,Nizet,paris, 1970

> بقلم: بوشعيب العصبي

Related posts

Top