شعرية المفارقة في “المشهد الأخير” للقاص المغربي عبد الرحيم التدلاوي

لا أحد يجادل في أن القصة القصيرة جدا حديثة العهد . وعلى الرغم من ذلك ، فإنها راكمت كما قصصيا ، أسس لبعض آليات هذا النوع القصصي . من ذلك الاختزال و بلاغة الاضمار ، ولا يتأتى ذلك دون تكثيف ، ضمن مساحة قصيرة تنطرح كعلبة أو لعبة خيوط . وهو ما يقتضي من قاص هذا النوع الوعي الدقيق بخطورة اللعب السردي ، ضمن حافة قد تنجرف ضمن الحشو أو التهجين غير الواعي بحضور الأشكال الإبداعية الأخرى القريبة من هذا النوع و المجادلة له ، نظرا لحضور نفس الخصائص التعبيرية ، مع الإختلاف الدقيق في خدمة الشكل الإبداعي مثل قصيدة النثر و الأمثال و الأخبار…من هذا المنطلق ، فالقصة القصيرة جدا ينبغي أن تبدع شكلها الخاص المفتوح على التعدد الذي يبني الوحدة المؤتلفة و المفتوحة على التكوين المستمر . حضرتني هذه الفكرة ، و أنا أتصفح قراءة المجموعة القصصية ” المشهد الأخير ” للقاص عبد الرحيم التدلاوي التي تتكون من أربع و ثمانين قصة قصيرة جدا. ويبدو أن العنوان الرأسي ” المشهد الأخير ” كأحد العناوين الداخلية ، منطبقا على كل قصة تنطرح كمشهد يتغذى على المفارقة المحيلة بقوة الإشارة و التلميح ، عوض الإخبار و التقرير على و قائع وحالات في المرجع ( الواقع و الفكر ) . لكن هذه المفارقات يتم إعادة بنائها من جديد ،على ضوء محتمل سردي ، تتحول معه المفارقة تلك إلى رسائل أو بالأحرى سهام نقد لواقع متعفن و مزيف . لهذا ، اختارت هذه اللمجموعة اعتماد المفارقة التي يتم تصعيدها تراجيديا في كل قصة ، للوصول إلى نهايات صادمة أو أنها توخز بسخرية سارية بين تلافيف سردية تقوم بتقضيم مكونات السرد من شخوص وأمكنة و أزمنة…وفي الغالب تركز هذه المجموعة على شخصبة مأزومة في علائقها ومستلزماتها الأخرى ، ضمن أمكنة مغلقة تبدو امتدادا طبيعيا لأفعال و مواقف الشخوص . فهذه القصص لا تقول وتخبر عن حقائق مألوفة ومتكلسة ، بل تعري طبقات التفكير و الأنساق ، مبرزة الزيف و الخديعة من خلال أحداث مذوتة ، توهمنا القصص أنها تقع في الواقع ، وبخلاف ذلك فهي تقع في التمثل و في الذوات ، من خلال حالات قد تعتمد الغرائبي ، لايصال فكرة سردية ما . لهذا أرجح ان كل قصة تبرز تناقضا ؛ و جماع التناقضات يفرز واقعا و أنساقا مطعوبة ،متصالحة مع هذا العالم وسيرة بطمأنينة ؛ كأن لا غرابة إلا ما يقع في القصص . نقرأ من المجموعة ـ قيد النظر ـ ما ورد في قصة ” المشهد الأخير ” :
” الجثة غارقة في قتلها…
المجرم حر طليق كهواء…
الشرطة عاجزة عن التعرف إليه و الإمساك به . بعد تفكير ، تقرر غلق الملف . و تقييد الجريمة الفظيعة ضد مجهول…مشكلة صغيرة أرقتهم ، عثورهم على الملف مفتوحا عن آخره ومن دون جثة ..”
تلفحك حرارة المجموعة ، وأنت تقرأ متنها قصة قصة ، قصص تلعب مع اليومي وكثافته الطاوية على تناقضات المعيش والحياة . وهي في هذا ، تسعى إلى امتصاص المفارقات اللصيقة أساسا بشخوص إشكالية ، ضمن يومها وتقطيعها المكاني . شخوص تفرقها سبل البحث عن ما يؤمن وجودها ويبرر وجودها ؛ ولكنها تتوحد في ذاك العمق المشدود للأصول الصامتة والمتجلية في عبوسة الملامح والمكان وملامح أفق موصد . في المقابل ، يبدو أن الكاتب على وعي حاد بشعرية القصة القصيرة جدا ؛ لذا ترى مربعه القصصي محتشدا بالتكثيف ، من خلال تعابير قصيرة ، تنبني على أفعال محددة ، تنطرح كمدارج في حركية تصعد من النفس الدرامي الذي يصفع بنهاية صادمة ، تدعوك لملء ثقوب وفراغات هذه القصص التي لا تخبر وتقول ؛ بل تشير وتلمح ، عبر سرد متخفف ، استنادا على تكسير يطال مفاصل الحكاية . من هنا ، يكون دور القارىء ضروريا ، للمشاركة في بناء المعنى غير اليقيني ، بل متعددا ، اعتمادا على قراءة منتجة . نقرأ قصة ” نصب ” من نفس المجموعة :
” نصبوا للراقصة و المغنية تمثالا من البرونز..
نصبوا للعداء تمثالا من ذهب..
نصبوا لأنفسهم تماثيل من الأماس و الياقوت..
و نصبوا للمفكر كمينا ، و للشعراء أعواد مشانق..”
المجموعة هذه ، تفجر جنونها في آخر التشكيل القصصي . فقصصها تنطلق هادئة ، و تتمخض عن تمرد ، يقلب ترتيب الأشياء المنطقي . الشيء الذي أدى إلى تعدد تقنيات هذه المجموعة ، من ذلك التخفف من ثقل الحدث كتفاصيل وأفعال إلى حالات أو التركيز على ما يقع في التمثل والحواس وملكات الإدراك . لهذا فشخوص النصوص عائدة من إكراهات مؤلمة ، لتفكر و تنطرح في قصص ، عبارة عن ثقوب جراح ترقب العالم الذي لا يأبه للمعنى وخدوش الداخل . وهي بذلك ( القصص ) أجراس أسئلة،صيغت عبر حلة لغوية لا تتوغل أكثر، و لا تبتعد عن معيار المألوف إلا بما يخدم الفكرة التي تبرز في تلك النهاية غير المتوقعة والتي تصل أحيانا إلى حد السخرية الموجعة من الحقائق المؤلمة كالموت والزيف ،إضافة إلى العلاقات الإنسانية و الإجتماعية المعطوبة ، بل أكثر من ذلك الحكي نفسه قد يتحول إلى قضية في تكسير للحد الفاصل و العازل بين الحياة والقصة ، في سعي إلى تأسيس حياة ثالثة بين الواقع و القصة ، من خلال خلق تواز بين الواقع و المتخيل . فكلاهما امتداد للآخر في هذه القصص .

> بقلم: عبد الغني فوزي

Related posts

Top