شهر التراث بجهة العيون الساقية الحمراء: الرِّهان على البعد البيداغوجي لثقافة الصحراء

  في إطار الاحتفاء بشهر التراث، وتحت شعار: “من جيل إلى جيل”، نظم مركز الدراسات والأبحاث الحسانية بالعيون سلسلة من الندوات الثقافية خصصت للأبعاد البيداغوجية للتراث الثقافي الحساني طيلة الأيام الممتدة بين 06 و12 ماي 2021، وذلك بدعم من مديرية التراث بوزارة الشباب والثقافة والتواصل- قطاع الثقافة، وبتنسيق مع المديريات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بالعيون والطرفاية وبوجدور ومع “جمعية الساقية الحمراء الوطنية النسائية للتبراع وتنمية الابداع” بالسمارة.

     وقد ألقى مدير مركز الدراسات والأبحاث الحسانية ذ. هَيْبَ الحافظ كلمة افتتاحية في كل هذه اللقاءات أبرز أهميتها وكذا السياق الثقافي والتراثي الذي تندرج فيه الندوات والأهداف المتوخاة من ذلك، مؤكداً استعداد المركز وجاهزيته للمساهمة في تدبير الشأن التراثي بالمناطق الصحراوية على أوسع نطاق ووفق الامكانيات والتدابير المتاحة.

القيم التربوية في الثقافة الحسانية

     “القيم التربوية في الثقافة الحسانية”، هو موضوع الندوة الثقافية الأولى التي نظمت بالثانوية التقنية في العيون مساء يوم الجمعة 06 ماي 2022، حيث تمحورت حول مجموعة من القيم التربوية المتجلية في الثقافة الحسانية والأدب الشعبي الحساني، واستهلت بكلمة افتتاحية لمدير الثانوية ذ. أحمد معينطة الذي رحب في مستهلها بالباحثين والضيوف الحاضرين مبرزاً في الوقت نفسه الدلالات البيداغوجية لمثل هذه اللقاءات وتأثيرها الإيجابي على فئة المتعلمين، إلى جانب كلمة أخرى ألقتها ذة. سعاد الركَيبي تحدثت فيها عن الأبعاد الثقافية للتراث الحساني من خلال مكوناته ومراميه وامتداداته التنموية. كما ألقت التلميذة فاطمة معروفي كلمة دعت من خلالها المتعلمين إلى الاهتمام بموروثهم الثقافي وضرورة مجالسة الآباء والأمهات والأجداد للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم.

     لتنطلق عقب ذلك أشغال الندوة الثقافية استهلها الباحث د. محمد لمين ماء العينين بمداخلة بعنوان “القيم التربوية في المتن الشعري الحساني” تناول فيها دور الشعراء في ترسيخ القيم الفاضلة في الصحراء والأدوار التوجيهية التي يقومون بها في تنشئة المجتمع، ومساهمتهم في توحيد المجتمع وتوجيهه مستعملين في ذلك أبلغ العبارات والمفردات والصور الشعرية البديعة، فكان لهم صوت قوي ورسالة عميقة المغزى لتقويم سلوكات الناس وتصحيحها، ولاسيما الشباب منهم. وقد استدل الباحث في هذه المداخلة بمجموعة من النصوص الشعرية الحسانية في غرض النصيحة والحكمة والتوجيه وتحليلها والتوقف عند تفاصيلها وأبعادها. أما مداخلة “التجلي التربوي في الأمثال الشعبية الحسانية” للباحث ذ. لحبيب عيديد فقد ألقاها بالنيابة ذ. هَيْبَ الحافظ وتمحورت حول الأمثال الشعبية الحسانية كتراث أدبي رام بالأساس تعزيز المضامين والقيم الاجتماعية، والإنسانية والعلمية في المجتمـع، والعمل على توظيفها توظيفاً تربوياً يسهم فـي خلـق جيـل مـدرك وواعٍ لقـضاياه المجتمعية والإنسانية.

  وبعد تقديم وتحليل مجموعة من الأمثال الشعبية المحلية ذات الصلة، تضمنت المداخلة توصية دعت إلى الاهتمام بهذه الأمثال كرافد تعليمي وتربوي، والعمـل علـى تفعيلها من خلال تضمينها في المناهج والمقررات الدراسية بجميع المراحل التعليميـة وفي كافة التخصصات والمجالات، عن طريق المواقف الحياتية والخبرات التعليميـة المتنوعة، لأن من أهم الوظائف التربوية التي تقوم بها التربية هو الحفاظ على التراث الاجتماعي من خلال تناقله من جيل إلى آخر من عادات وتقاليد ومعـايير اجتماعيـة وبما فيها التراث الشعبي المتمثل في الأمثال الشعبية التي يمكـن أن تكـون موجهاً لسلوك الفرد في المجتمع واستخدامه كوسيلة ضبط اجتماعية لتلك السلوكيات.

     وموازاة مع هذه الندوة، احتضنت الثانوية التقنية معرضاً مصغراً لمجموعة من القطع والمشغولات التراثية التي جسَّدت جوانب في مظاهر الحياة في الصحراء، كالخيمة ولوازمها، أدوات الترحال والرعي والماء، أدوات المطبخ، الألبسة، الحلي التقليدية وغير ذلك من المكونات التي تندرج ضمن المجموعة المتحفية لجمعية تراث الصحراء بمدينة العيون.

الحِرف النسائية في الصحراء

     بمدينة السمارة أقيمت الندوة الثقافية الثانية تحت عنوان “الحِرف النسائية في الصحراء” بشراكة مع “جمعية الساقية الحمراء الوطنية النسائية للتبراع وتنمية الابداع”، وذلك مساء السبت 07 ماي 2022 بفضاء مجمع الصناعة التقليدية، استهلت بكلمة افتتاحية ألقتها رئيسة الجمعية السيدة الناها لعبيد التي رحبت بالحاضرين والمشاركين في الندوة التي اعتبرتها لقاء مهما يندرج ضمن اهتمامات الجمعية ويعكس روح التعاون والبرامج المشتركة مع مركز الدراسات والأبحاث الحسانية بالعيون. لتنطلق عقب ذلك أشغال الندوة بمداخلتين، الأولى منهما ألقتها ذة. امينتو العلوي بعنوان “الحِرف النسائية بالصحراء في عصر الرقميات- عبور أم محطة وصول؟” طرحت في بدايتها إشكالية تأثير الرقميات على الحِرف النسائية وآفاقها، وقد تناولتها من خلال محورين: تعلق الأول منهما بثبات وتطور الحِرف النسائية بالصحراء من زاوية تربوية، أو من حيث التنشئة الاجتماعية وتوارث الحرفة/الصنعة والمحافظة على الهوية الإبداعية في مجتمع العولمة التي تهدد المورد الرئيس والسند الاقتصادي للمرأة في الصحراء.

     بينما ارتبط المحور الثاني بتأثير الرقميات على مستقبل وآفاق الحِرف النسائية، وقالت الباحثة في هذا الصدد أن اضطرت المرأة في المجتمع الصحراوي اضطرت إلى التكيف مع المؤثرات المستجدة التي غزت مجتمعها بشكل  أدى إلى لزعزعة بعض المفاهيم الاقتصادية السائدة في المجتمع، فبعد  أن كانت في ما مضى تنشأ  ضمن دائرة محددة مسبقة ومؤطرة نسبيا بنفس التعاملات التسويقية المألوفة لديها، نجد أن الوسائط الرقمية و مواقع التواصل الاجتماعي أرغمتها على التعامل مع منافسات  أخرى، ومواجهة معطيات لم تكن على استعداد لها، سيما مع ظهور مفهوم التجارة الإلكترونية.

     أما المداخلة الثانية، فقد ألقتها ذة. مريم البوداني بعنوان “الحِرف النسائية في الصحراء بين الأمس واليوم” أبرزت من خلالها مجموعة من التحولات التي شهدها مجال الصناعات اليدوية النسائية في الصحراء ومساهمة المرأة في تدبير حاجيات الحياة في الصحراء، وقد ربطتها بظروف التمدن والانتقال من حالات الترحال إلى حالات الاستقرار، مبررة ذلك بأن الأمر أضحى لزاما على المرأة الصحراوية تنمية مهاراتها الحِرفية لتساير حياة التمدن التي غيرت فكرة الصناعة والحرفة من منطق تضامني اجتماعي الى منطق ربحي ، اذ اصبحت المرأة الصحراوية تبحث عن استقلاليتها المادية من خلال حرفها ، فتوجهت للصناعة العصرية من خياطة عصرية، كالزرابي والطرز اليدوي فاستوحت من حياة البدو صناعتها وحاولت تطويرها محافظة على تيمة الاصالة والمعاصرة. 

     وبمناسبة هذه الندوة، تم تكريم السيدة مريم البيلال في التفاتة طيبة ولمسة وفاء تقديرا لمسارها الحٍرفي والإبداعي ومساهماتها الكثيرة والمتنوعة في إغناء وإثراء مجال الصناعة التقليدية في الصحراء وما أنتجته من قطع ومشغولات يدوية عديدة جمعت بين الوظائف النفعية والوظائف الجمالية.

وصايا للحفاظ على الموروث الثقافي الحساني

     بمدينة الطرفاية، وبالثانوية التأهيلية علي بن أبي طالب أقيمت الندوة الثقافية الثالثة تركزت بالأساس على مجموعة من القضايا والوصايا للمحافظة على الموروث الثقافي الحساني، وذلك مساء الثلاثاء 10 ماي 2022. مع انطلاقة الندوة، ألقى مدير الثانوية ذ. مولود كليتيم كلمة ترحيبية أشاد فيها بأهمية ومضمون الندوة واعتبرها بداية العمل المشترك مع مركز الدراسات والأبحاث الحسانية في كل مع يتعلق بالمساهمة في التعريف بالتراث الثقافي الحساني وتقريبه من فئة المتعلمين داعيا إياهم إلى إيلاء الاهتمام الكامل لهذا التراث ومثمنا جهود المهتمين والباحثين الساعية إلى تكريس هذا المسعى. بعد ذلك ألقى الباحث د. السالك بوغريون مداخلة حول التربية على التراث، حيث اعتبرها ممارسة بيداغوجية راقية ترسم في عمقها دعوة علنية وصريحة لفهم التراث وإدراك أهميته باعتباره يشكل بحمولاته الثقافية والتاريخية والاجتماعية سنداً علميّاً وتربويّاً أساسيّاً في تنمية الفرد والجماعة. مضيفاً أن أن التربية على التراث ذاكرة وسجل يمكن أن يتجدَّدا باستمرار حسب ما يتاح لهما من أبحاث ودراسات وأشكال صيانة وحفظ وترميم، فضلاً عن كونها فاعلية إنسانية متميِّزة لا محيد عنها، لأنها تكشف عن تطوُّر حياة مبدعيها الرُّوحية والمادية. فهو تراث أصيل ومتأصل يجسد تفكير المجتمع الذي أنتجه. وقدَّم الباحث بالمناسبة مجموعة من التدابير والمقترحات العملية الكفيلة باستثمار التراث الثقافي الحساني وجعله رافدا حيويا ودعامة فاعلة للتنمية المجتمعية، ليتناول الكلمة بعد ذلك ذ. حسن الداودي، راوية ومهتم بالثقافة الحسانية الذي قدم معطيات متنوعة حول الحياة ونمط العيش في الصحراء، شملت المسكن التقليدي والألعاب الشعبية ومظاهر الاحتفاليات الاجتماعية مع ما يرفقها من ممارسات وطقوس محلية معرضة للاندثار والانقراض باستمرار. وللحفاظ على مكونات وعناصر الموروث الثقافي الحساني وتثمينه، قدّم مجموعة من النصائح للتلاميذ الحاضرين وأبرز استعداده للقائهم ضمن أنشطة وبرامج ثقافية مماثلة لمساعدتهم على كسب المزيد من المعطيات الخاصة بقيمة وأهمية هذا الموروث الإنساني المشترك.

التراث الحساني، تعريفه وسبل المحافظة عليه

     الندوة الثقافية الرابعة دارت أطوارها بالثانوية الإعدادية عمر بن الخطاب في بوجدور، وقد كان موضوعها “التراث الحساني، تعريفه وسبل المحافظة عليه” استهلت بكلمة افتتاحية ألقاها مدير الثانوية ذ. عبد الله الراجي الذي كشف أهمية الندوة ودورها في تقريب التراث الحساني بمختلف مكوناته من الناشئة ومشيدا بالجهود العلمية والتنظيمية التي ساهمت في إنجاحها. وبدورهما، ألقى الأستاذان مصطفى زحل منسق الأندية التربوية وميارة عبدين عن نادي حقوق الانسان والتراث كلمتين توجيهيتين تنولا فيها أهمية اللقاء وانعكاسات الإيجابية في التنشيط الثقافي بالمؤسسة.

     لتنطلق أشغال الندوة بمداخلتين، قدّم الأولى منهما الباحث ذ. محمد اطريح بعنوان “صيانة الموروث الثقافي الحساني، من الفاعل إلى الفاعل” اقترح فيها خطة عملية للمحافظة على الموروثات الثقافية في الصحراء وحمايتها من الاندثار، بدءاً من عملية التجميع والتوثيق، مرورا بالنشر والدراسة والتمحيص والمقارنة بالاستعانة بالذاكرات الحية والمهتمين والأكاديميين ممن يولون اهتماماتهم بالشأن التراثي في الصحراء، إلى جانب عرض بـ”البوير بونت” حول “الأمثال الشعبية الحسانية والتنشئة الاجتماعية- المرأة نموذجاً”، تضمن مدخلا حول مفهوم التنشئة المجتمعية استنادا إلى مجموعة من النظريات والآراء، قبل أن يتساءل عن الكيفية التي أسس بها المجتمع الحساني شخصية المرأة وحدود الحرية التي منحها إياها، بمثل تساؤله عن الأدوار التي لعبتها الأمثال الشعبية في تشكيل صورة المرأة الصحراوية. وقد عزز الباحث مداخلة بمجموعة من الأمثال المحلية التي تمحورت حول المرأة ضمن سياقات اجتماعية مختلفة مع التوقف عند مضامينها ودلالاتها التربوية والتوجيهية، مستخلصاً أن مدوّنة الأمثال الشعبية الحسانية في الصحراء مكون أدبي بارز ومؤثر لعب دورا مهما في تكوين شخصية المرآة ومنحها وضعية اعتبارية استثنائية.

     بينما تناول الباحث ذ. محمد فاضل لفيرس في المداخلة الثانية الأبعاد الأخلاقية والتربوية لثقافة الصحراء وسبل المحافطة عليها” مركزا في ورقته على البعد الوظيفي للتراث، أي الاهتمام بالتراث ومحاولة الاستفادة منه وجعله مادة مساهمة في تربية النشء، إذ لا خير في علم لا ينفع، كما يقال. وقد أغنى حديثه بتقديم مجموعة من النماذج الثقافية المستمدة من ثقافة الأجداد والأسلاف في ما يتعلق بالتشبت بالقيم المجتمعية الفاضلة، كبر الوالدين واحترام الغير والتعاون وحسن الجوار والصدق والأمانة..وغيرها، وكذا صون التراث وتقديرها أهميته واعتبار ذلك من المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق الأفراد والجماعات، بوصفه مستودعا خصبا وخزانا لمعارف وخبرات وإبداعات كثيرة شاهدة على منجزات وعطاءات السلف، تجمّعت وتراكمت لترسم ذاكرة المجتمع.

شريط ثقافة رحل الصحراء

     صاحب الندوات الأربع المذكورة، عرض شريط سمعي بصري بعنوان “صور من الحياة الثقافية لرحل الصحراء (5 د.)، أنجزه وقدّمه الباحث ذ. إبراهيم الحَيْسن، وتقد تضمن الكثير من الصور والمشاهد النادرة التي توثق لنمط العيش في الصحراء، مصحوبة بتعاليق ترسم سمات البداوة كنظامٍ معيشي يعتمد بالأساس على الإنتاج المُعَدِّ للاستهلاك اليومي ويقوم على التِّرحال -بمستوياته المتعدِّدة- ويجعل من الطبيعة مصدراً وحيداً للعيش والإنتاج، إلى جانب صور أخرى تعنى بخصائص بدو الرحل، كالتنقل والبساطة في المسكن والملبس والمأكل والمشرب والزينة والتزيُّن والمُداواة، زيادة على العديد من المشاهد الخاصة بالتقاليد الثقافية والاجتماعية وطقوس العبور المحلية، كطقوس الولادة والختان والزواج والطلاق وشعائر الموت والدَّفن، فضلاً عن طقوس اللعب والهول والغناء والرقص الاحتفالي والتفكُّه والفرجة الشعبية..إلخ..

     وعلى العموم، فقد تركت الندوات الثقافية الأربع المقامة بجهة العيون الساقية الحمراء في إطار “شهر التراث” استحسانا طيبا لدى كل المنظمين والمشاركين والحاضرين لقيمة الباحثين المشاركين ولأهمية المواضيع التي تم اختيارها هذا العام بأبعاد بيداغوجية هادفة فتحت أفقاً واسعا للعمل المشترك مع المؤسسات التعليمية ومع مختلف المكونات المدرسية بالجهة لرسم برنامج ثقافي مشترك من شأنه أن يساهم كثيراً في تثمين التراث الثقافي الحساني وإبراز المزيد من جوانبه التربوية والتعليمية.

     خاص: بيان اليوم

Related posts

Top