شيخ الدرس المسرحي د. حسن المنيعي يقدم كتابه “شعرية الدراما المعاصرة”

 إن كتاب “شعرية الدراما المعاصرة” هو في الأساس مساهمة متواضعة تهدف إلى تقديم صورة مقتضبة عن أوضاع المسرح الحديث والمعاصر الذي هو في أغلب أشكاله نتاج تمرد ضد الجمالية المحاكاتية الأرسطية التي اعتمدها المسرح الدرامي.
وإذا كان مسرح نهاية القرن التاسع عشر قد أعلن هذا التمرد على يد الرومانسية التي تمردت ضد وحدة الزمان والمكان والفصل بين الاجناس (تراجيديا – كوميديا) الذي أدى إلى بروز دراما الغروتيسك، وبعدها الرمزية التي دعت إلى اجياد مسرح لا مرئي يكون متناغما مع الصور الداخلية والحالة الحلمية، فإن التمرد الحقيقي هو الذي اعلن عنه أنطونان آرطو حينما وضع أسس شعريته عن “مسرح القسوة” الذي يرتكز على ثقافة عضوية ويتواصل فيه الإنسان مع الكون في شموليته. لذلك كان أول ما رفضه هو النص، حيث كتب في هذا الصدد ما يلي: “إن المسرح الذي يُخضع الإخراج وإنجاز الفرجة للنص هو مسرح الأغبياء والمجانين والبقالة واللاشعراء والوضعيين أي ما هو غربي، ولأن المسرح هو فن حر ومستقل، فإن عليه – لكي ينبعث ويعيش –  أن يحدد ما يميزه عن النص والكلمة والأدب وعن كل الوسائل المكتوبة أو الثابتة”.
وكما هو معروف، فإن هذه الشعرية قد كان لها أثر كبير على الممارسة المسرحية الغربية. أولا، على مستوى إعداد الفرجة التي اعتمدت خطابا بصريا لا يلعب فيه لكلام إلا مجرد دور ثانوي، ثانيا، على مستوى بروز “مسرح الإخراج” الذي سيحول الخشبة المعاصرة إلى مختبر كبير يتم فيه البحث عن أشكال تعبيرية جديدة. ويجعل من الإخراج المسرحي فنا مستقلا لا يهتم بالمسرحية الجاهزة وبعناصرها الأساسية التي ركز عليها أرسطو كالحكاية والحوار والشخصية والصراع… الخ
بعبارة أخرى لقد صار “الاختراق”، أي اختراق قواعد المسرح الدرامي (سيكولوجي أو طبيعي) هو ميزة المسرح المعاصر. وقد تجسد هذا الاختراق في شعريات نذكر منها : التعبيرية التي انتجت “دراما المحطة” التي عوضت التسلسل المنطقي للحدث بمحطات تعالج في مواجهة مع قدره اليومي، و”المسرح الملحمي” الذي حطم عنصر “الإيهام” وتباثية الشخصية التي يمكن أن تتحول إلى سارد ومعلق، كما حطم التصور التقليدي للحبكة أي تسلسلها، حيث عوضه بسلسلة من المشاهد يتطور الحدث في نطاقها عبر التقطيع في الحركة والأغاني والتوليف واستعمال الرموز، وهناك أيضا “مسرح العبث” الذي ركز على تدمير اللغة واللامعنى (أو اللا منطق) والمحاكاة الساخرة للوجود الإنساني.
لقد تمت الإشارة إلى هذه الشعريات في المقالة الأولى “عن شعرية الدراما الحديثة” (ص 5)، وفي المقالة السادسة “دراما العبث.. المادة والآلية عند يونسكو” (ص 59)، وكما هو معلوم فقد نتج عن هذه الشعريات تحول كبير في الممارسة المسرحية خصوصا على مستوى الكتابة التي أصبحت – كما هو وارد في المقالة الثانية “أوضاع الدراما المعاصرة” ( ص 19) – تعطي للحركة ولغة الجسد، وتتأثر بأجناس أدبية أخرى كالرواية والشعر والحكاية والمقالة وكذا بحقول فنية مثل السينما والتشكيل والصورة الفوتوغرافية والوسائط الحديثة.
وهذا يعني أن المسرح أصيح يقوم على “هجنة” متجددة على الدوام، تقوم كتابته على الشذرة والتوليف، كما تقوم على الجمع بين المأساوي والكوميدي والملحمي للتعبير عن اهتزاز العلاقة التي تربط الإنسان بتاريخه وعوالمه. من هنا صار العمل المسرحي يعتمد “المونولوج” الذي يجعل من الجمهور المتلقي الرئيسي لمحكيات الحياة التي تقدمها الشخوص للتعبير عن المآسي التي عاشتها في الماضي. إضافة إلى ذلك، أصبح الجوار يشكل للمتكلمين فرصة لتقاسم منظوراتهم عن الحكاية، الشيء الذي حول الشخوص إلى مجرد وجوه لا تكتسي هوية خاصة، وإنما تتكلم وتمارس تجربة اللغة في الفضاء الحركي من خلال أصوات تساعد المتلقي على إدراك “اللامرئي” و “اللامعبر عنه” أو “اللامسمى”.
هذا ما صارت عليه الدراما المعاصرة التي يهيمن التبادل اللغوي فيها على عرض الأحداث الفيزيقية. الشيء الذي حولها إلى تراجيديا اللغة – التي نقف على نموذج منها في المقالة السابعة “مسرح الكارثة ورهاناته” (ص 67) – حيث تتحول إلى لغة تبتعد عن المحاكاة والطبيعية لتؤسس لغة أخرى تتطابق مع إشكالية الإنسان المعاصر (الإنسان المابعد كما يسميه هارولد باكر) الذي هو نتاج الأزمات والكوارث والحروب.
هذا، وإذا كانت نظرية “مسرح مابعد الدراما” التي نطر لها الألماني هانز تيز ليمان قد أعلنت عن موت الدراما ولا تعترف بكتابتها وتطورها الداخلي كما هو الحال في المسرح الدرامي، فإنها قد أدخت إلى المسرح مفهوم “الأدائية / بيرفورمانس” باعتبارها فنا يقوم على المؤدي الذي لا يمثل ولا يحاكي شيئا بقدر ما يكون جسده هو موضوع العرض لفظا وحركة، كما أنه يحرص على إثارة إحساس المتفرج ليجعل منه جسدا يتفاعل مع العمل المسرحي ويندس في لحمته.
وعلى عكس هانز تيز ليمان يرى الفرنسي جون بيير سيرزاك – المقالة الثالثة “شعرية الدراما الحديثة” – أن الدراما لم تمت، وأن التخلي عن الحكاية الدرامية الموروثة عن أرسطو أصبحت تقوم على سلسلة غير متواصلة من الأحداث الصغيرة المستقلة نسبيا، كما أنها لم تعد صراعية بل “أنطولوجية”: الشيء الذي جعلها تتحول إلى “دراما الحياة” / drame de la vie بعد أن كانت منذ النهضة وحتى نهاية القرن التاسع عشر “دراما في الحياة” /  drame dans la vie من هنا يرى “سرزاك” أن المسرح المعاصر يرتكز على ما سماه “الشكل الرابسودي” / forme rhapsodique الذي يجعل الدراما تقوم على صوت خاص يتم سماعه إلى جانب أصوات الشخوص وتقاسمها بينهم: أي صوت “الرابسود” الذي ينظم عملية توليف النص حيث يندس في المتخيل، ويساهم في “تهجين” الدراما، أي من خلال ما تنطوي عليه من أنماط شعرية مختلفة (ملحمية، غنائية، درامية) تتجاور فيما بينها حيث تعمل الحدة الرابسودية على إنتاج حوار بين هذه الأجناس، وإبراز تداخل بين المحاكاة، والحكاية والتهجين الشكلي.
من هنا، فإن الدراما لا يعبر عنها في النص فحسب بل وأيضا في فضاء اللعب، وفي نطاق تمسرحي يكتسي طابع حضور أو احتفال وأداء “بيرفورمانس”. وبما أنها تقوم على التفكك والتشذير (الذي هو وظيفة الرابسود)، فإمها تؤسس خشبة يتحرر فيها الجسد من هيمنة الكلمة التي تصبح عنصرا ركحيا لا توجد أحيانا إلا من خلال الفعل المسرحي ساعة عرضه.
لإضاءة بعض جوانب الشكل الرابسودي ترجمت مقالتين، الأولى لجان بيير سزاك يتحدث فيها عن تقاسم الأصوات الذي حرر “الحوار” من أحادية الصوت لبروزه في شكل مونولوجات تتحاور فيما بينها. أما المقالة الثانية فإنها تتحدث عن الحوار السردي الذي يتركب من تهجينات، أي من حوار تقليدي ومنولوج داخلي ووصف لما تفعله الشخصية.
في الأخير أدرجت مقالة عن النقد وتمفصلاته انطلاقا من النقد الذوقي مرورا بالنقد الواصف (الصحفي) وصولا إلى النقد الجدلي الذي ينعكس في الدراسات المسرحية التي تهتم بالكتابة الدرامية والفرجة والأدائية من خلال تأسيس خطاب نقدي دقيق ومتماسك يرتكز على أدوات إجرائية مستمدة من حقول علمية.
هذه إشارة إلى محتويات الكتاب الذي أتمنى ان يساعد القارئ العربي على معرفة التطور الذي عرفته الدراما منذ نهاية القرن التاسع عشر.

* قدم الباحث المسرحي د. حسن المنيعي هذه الورقة بمناسبة توقيع وتقديم كتابه “شعرية الدراما المعاصرة” ضمن أنشطة الدورة  19 للمهرجان الوطن للمسرح بتطوان.
* كتاب “شعرية الدراما المعاصرة” للدكتور حسن المنيعي – منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة / سلسلة رقم: 47. (الطبعة الأولى 2017).  

Related posts

Top