صديقي الذي في خاطري..

عجيب أمر الصداقة عجبا أكثر من أمر الحب، فنحن لا نختار من تجمعنا بهم الحياة ولا نختار من نرتمي من أجل المغامرة القادمة معهم، لكننا نختار هل لنا أن نقدر قيمة لحظات الصداقة تلك أم لا. أنا كلما فكرت في مسألة الصداقة هذه لا أتذكر إلا شخصا واحدا، لن أقول من يكون أو جنسه أو جنس الصداقة التي كانت تجمعني به، فبالضرورة أنهم أدركوا جميعا عمن أتحدث، لكن لا أحد يعلم أنني فعلا لا أتذكر في ذلك الإنسان إلا اللحظات الجميلة أو المؤثرة التي أمضينا معا، كأن ذلك الشخص لم يتغير أبدا، كأن تلك النسخة التي عرفت لم تتغير ولم تتطور، لا لشيء سوى لأني أقدر الصداقة وأعلم أنه من الحظ الحقيقي أن تقابل صديقا حقيقيا واحدا طيلة فترة حياتك.
الصداقة ليست مشاعر محبة فقط، الصداقة شيء من المحبة والإعجاب والاكتشاف والألفة أيضا. أنا لم أعهد أن أختار الصفات بشكل عشوائي أبدا.. لكن هاته الصفات السابقة كلها عصير تجربة خاصة بي عما عايشت وشعرت عندما ارتميت في حضن الصداقة آخر مرة.
فاجأتني الحياة ذات مرة بلطف جميل على شكل إنسان، لم أرَ فيه شيئا من العيب أبدا، كنت أنظر إليه من اليوم الأول بإعجاب شديد كما أنظر إلى الحب تماما، شيء من الانتماء إليه والانتماء إلي كنت أشعر به. وكما كنت دائما أظن في الحب أنه دائم إلى الأبد، كنت أظن في الصداقة أنها ليست بالفانية، وكما أجهر بالحب في كل مرة، جهرت بالصداقة أيضا، جهرت بتلك المحبة والانتماء بكل جوارحي، البعض يقول إن مشاعري كانت عمياء أو بليدة.. لكنني أقول إنهم لم يعرفوه كما عرفته أنا، لأنها أنا التي وضعت يداي الاثنتين على دماء وعروق قلبه ذات يوم، أنا رأيت جوهره وهو ينبض، أما هم فلم يفعلوا.
الصداقة ليست علاقة بل شعور، شعور يشبه الأخوة بالدم، تشعر بالألم يمر منه إليك من نظرة وتتقاسم مشاعر الحسرة والحرقة والندم عن وقائع عاشها قبلك، فتقرر أن تشفي نفسك كي لا يشعر ألمك أنت ويتألم لك أيضا، ويشفي نفسه كي لا تشعر بآلامه أيضا، هذه هي الصداقة. أنا لا أذكر له مواقف بطولية لكي أنعته بصديق عمري، وإنما أتذكر لحظات لم أعد أشعر بها أن لي أخا وأختا فقط بل أصبح لي ثلاث، وهو أصغرهم. خوفي على حرقته طبعت بذاكرتي محبة صعبة الوصف، فأنا لا أظن أن الصداقة تخلق بالمواقف لأن الصداقة لا تأتي بالفرص، الصداقة عطية من عطاءات القدرة الإلهية، الصداقة لا تحصل كثيرا لكنها كافية لتجعلك تعيشها إلى الأبد، حتى بعد أن تنتهي.
التقيت الصداقة في ظروف لم أتوقع يوما أني سألتقي بها، عشت عمرا بذلك المكان ولم أقابل شخصا مميزا مثله فأحببته حبا كبيرا، في مرات كنت أراه أجمل الخلق فأحبه، ومرات أرى أن المميز فيه ألا شيء فيه مميز فأحبه أكثر، كنت أحبه لبساطته التي تخرجني من عالم غارق في المثالية المتصنعة فأعود به إلى طبيعتي. بدلا من المدح المزور الذي أجيده، كنت دائما ما أزعجه بالذم وأنا أضحك وأستمتع بانزعاجه البريء كما أفعل بأختي التي ولدت وأنا في سن الرابع عشر تماما. في الواقع الحب في الصداقة ليس حبا بالكلمات وإن كانت الكلمات مهمة لكنه حب بالطبيعة.
حتى الطعام له طعم خاص من يدي الصداقة، كأنك تشرب الشاي أول مرة بالنعناع، وكأن ذلك المقهى الذي كبرت وشبت على عتبته قد غير النادل بأول مرة تشاركان بها الطاولة. أنا أذكر جيدا أول مرة شاركته طاولة ذلك المقهى، كنا نلبس رداء أسودا وكانت مغامراتنا على الأبواب، كنا مستعدين لأن نملأ شغف بعضنا البعض، فأفضيت له بأمومتي وأفضى إلي ببنوته. كان يرمي رأسه إلى كتفي ونحن خارج الحدود فأشعر أنه ابن رزقت به كما كنت أرغب دائما، وكنت أعلم في قرارة نفسي أن عيني تقدمان له الأبوة التي كان دائما ينير بشغفه لها. لا شيء يقارن بالفراغ الذي كنا نتشاركه أبدا، لا شيء يقارن بذلك الإحساس بصدق أو اصطناع الضحكة الذي كنا نتشاركها.
الصداقة مرتبة أيضا بالحماقة، ليست حماقة مشاركة سرير من نصف متر فقط، لكنها حماقة ارتكاب الكوارث تحت دريعة اكتشاف الدنيا أيضا، لأن لها طعما خاصا مع قليل من صلصة الصداقة. كنت أنا وهو نغير بين الطفولة والرشد كما نغير من الملابس، وكنا نتبادل التشرد ودفئ العائلة بيننا كما نتبادل الغطاء، تماما كأننا كنا نعيش حياتين اثنتين كيفما شاء المزاج. كنا أيضا نستلذ الفقر معا في نهاية الشهر كي نعيش حياة الغنى معا في بداياته، مثل معتوهين بليدين نكرر نفس الصبيانية كل شهر، كنا فقط صديقين.
الغريب في أمر الصداقة أنها تجعلك تفضي إليها بأسرار من شأنها أن تكسر ظهرك، فمن كان يقدر الصداقة ويحسبك منه حفظ السر وحمى ظهرك من الانكسار، ومن لم يكن من طينة الخيرين رماك بما فيك من عيب وما ليس فيك وشق صدرك بكلام جارح. ما يحصل في هاته الحالات أنك تعيش فترة صدمة وحزن عصيبين، ليس على خصامه ولا على فراقه، وإنما لأنك تبكي موت الصداقة التي لن تعود مرة أخرى ولن تجد منها إلا رياح الذكريات التي تعصف بك مرة وتحملك إلى بر الأمان مرة أخرى.
لا أدري ما كان الحل معه، كنت نسختي الحقيقية معه هو فقط، لكنها نفس النسخة التي جرحت كرامته واحتقرته دون أن تتعمد أو تلاحظ أو تعلم، فيعاقبني هو على شكل إهمال في أكثر الأوقات حاجة إليه، متعمدا، فأشعر بالغضب والانكسار والوحدة واليتم في آن واحد. فبدأت أجلس إلى نفسي كثيرا وأتساءل كيف لي أن أنقذ هاته الصداقة، دون أن ألاحظ أنه في نفس اللحظة، مثل ابن عاص كان يفكر في ذريعة ينسل بها من صداقتي. كلماته الجارحة في كل مرة كانت طريقا بدون عودة، يغضب فيجرحني ويغادر ثم يتيه ويعود لي باكيا شاكيا من وحشتي فأعفو عنه وأضمه إلي، إلى أن يحمل نفس السكين ويغدر به في صدري مرة أخرى. واستمرينا على هذا الحال حتى جاء اليوم الذي تملكني الخوف فحملت سكينا حمئا وغرسته في قلب صداقتنا، شهدت موتها ورميت بالتراب على تابوتها كي لا أشهد اللحظة التي سينتهي بها حبي له، فما كنت لأستحمل أن أكرهه يوما ما، ما كنت لأستحمل أن أتذكر لحظاتنا معا وعيناي مليئتان بالدموع، ما كنت لأستحمل أن أؤذيه مثل ما أذيته وما كنت لأستحمل أن تأتي سيرته فأشعر بالغضب والكره، فغضبي على نفسي هائن ولا يهون حبه علي، فعلت ذلك كي يعيش حبه داخلي إلى الأبد ولو على حساب صداقتنا، لأن هذه هي الصداقة الحقيقية.
الآن وأنا أعلم جيدا في حضن من يكون، مثل أم أو أخت أو حبيبة لا أريده إلا سعيدا تحت أي سقف كان وبين دراعي أي صديق أصبح يعيش، فمثلما لم أعهد أن أستكبر فيه حياتي لا أستكبر فيه السعادة. أسأل عنه من حين إلى آخر رغم أني أعلم أن النسخة التي عرفتها لن تنهض من التابوت وأن النسخة التي أسأل عن حالها ليست بشيء مما عرفته عليه. أراه من بعيد، يكرر الكلام الذي كنت أقول، وأراه وهو يعيش أساليبي في الحياة، أراه حزينا وأعلم أنني تركت فراغا داخله، وأحلم بلحظاتنا معا مرات فأصحو ولا أستوعب أنه رحل إلا بعد مدة، لكنني في داخل نفسي اكتفيت من هاته النسخة الجديدة ومن العفو الذي كنت أعفو ومن الجراح التي تتكرر كثيرا وكثيرا، ولا أريده عائدا إلي مرة أخرى، أريده فقط في ذكرياتي، كنز داخلي أتفاخر به فمن الحظ الكبير أن ننعم بشعور الصداقة ولو مرة واحدة طيلة فترة العمر، ذلك في رثاء الصداقة…

Related posts

Top