صديقي يهديني سماء كاملة الزرقة

صديقي الفقير هنأني في ذكرى ميلادي بقوله “أهديك هذا الصباح الجميل وهذه السماء الزرقاء”.
ماذا أفعل بـ”السماء الزرقاء”.. بربك كف عن بلاغة الفقراء وحذلقتهم.
شرد ذهني بعيدا متأمّلا في تاريخ الهدايا وفلسفتها، مقاماتها وأغراضها، قيمتها العينيّة والرمزيّة.
وتذكرت كيف حضرت في بعض العواصم الأوروبية معارض للهدايا المتبادلة بين الملوك والأمراء والدوقات والنبلاء، فلم تقع عيناي على أيّ هديّة ذات قيمة رمزيّة. كانت كلّها مصنوعة من أنفس المعادن ومرصعة بأثمن الأحجار.. أمّا النوايا فقد رحلت مع أصحابها، وكتمت سرّها تلك المعروضات الصامتة خلف الواجهات المحروسة بعناية فائقة.
تذكّرت ما قرأته عن قافلة الهدايا التي يصل أوّلها إلى بيت الفردوسي صاحب ملحمة “الشاهنامة” وتنبع من بيت أحد الولاّة، وذلك كشكل من أشكال الاعتذار بعد الإهانة، ولكن، هيهات.. لقد مات الفردوسي قبل أن يراها.
تذكّرت أعجوبة “تاج محل” كأثمن ما يقدّمه زوج إلى زوجته، وحيّ إلى ميّت،.. فهل يهدى الأموات أيضا بغير طلب الرحمة والغفران. الصراحة أنّي قد وجدت بيت جرير في رثاء زوجته أجمل، وربّما أبقى “لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار”.
توقّفت عند سير المشاهير من قادة المماليك وحتى القيان من الجواري العازفات والمغنيات، كيف كانوا يباعون ويشترون في أسواق النخاسة ثمّ يقع تبادلهم كهدايا!
ابتسمت في سرّي رغم الوجع الإنساني، وتخيّلتهم ملفوفين في الأوراق البرّاقة المخصّصة للهدايا بشريط أحمر، ثمّ يتمّ الكشف عنهم أمام صاحب المناسبة وضيوفه في حفل صاخب، فيشكره الأخير بقوله: لماذا عذبت نفسك يا رجل؟
جالت في خاطري الهدايا المسمومة والملغومة والصاعقة عبر التاريخ، من قصة “رأس المملوك جابر” في ألف ليلة وليلة، إلى الطرود المفخّخة في الأزمنة الحديثة.
قلت إن أجمل الهدايا هي تلك التي تأتي دون مناسبة، مثل قبلة يباغت بها الحبيب حبيبه، لكني استدركت وتذكرت شبح فايروس كورونا الذي يهدد بحرماننا من “جحيم القبل”.
الهديّة قديمة قدم التعارف والتوادد والمصالح أيضا. قبل بها الأنبياء ومارستها كل ثقافات الشعوب، لأنها تعني تذكّر الأحبّة في حالات البعد والسفر، لذلك وجدت أكشاك التذكارات والهدايا الرمزيّة في المطارات والمحطّات. أمّا في عالمنا العربي فأغلب الناس ينظرون إلى قيمتها العينيّة لا الرمزيّة.
الفقراء والطيبون يكثرون من الاستهلاك والإهداء والتبرع بكل ما هو مجاني، كالأدعية والقبلات والابتسامات، لذلك قبلت بـ”السماء الزرقاء والصباح الجديد” من صديقي الفقير وشكرته على هديته التي بادلته بمثلها في يوم ميلاده ثم بررت لإيليا أبوماضي قصيدته “أي شيء في العيد أهدي إليك”.

> حكيم المرزوقي كاتب تونسي

Related posts

Top