صفقة بلا تعاقد مهدت لها رزايا فلسطينية

منذ الإعلان عن عزم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عرض خطة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي؛ راق لصاحبها أن يطلق عليها اسم “الصفقة” وأن يحرص على إخفاء بنودها، فتابع الطرف الفلسطيني المعني بها، مؤشرات وجهتها وشروطها وبنودها، من خلال تلميحات وتصريحات متناثرة، ليظل تكتم الطرف الذي يعرضها، سببا في نفي صفة “الصفقة” عنها، على اعتبار الصفقات يتفق عليها طرفان، الآخر المعني بها، والوسيط الذي يعرضها، وفي الثنايا يتم الاتفاق على عناصر التوريد وشروط الاستفادة منها للبائع والمشتري.
غير أن أطرافا أخرى، في الإقليم، لم تتعجل الإعراب عن مواقفها حيال هكذا سياق، وواصل الناطقون باسم الإدارة الأميركية “التبشير” بأن اتصالاتها المتعلقة بهذه “الصفقة” تحقق نجاحا مطردا، وفي السياق كله راجت أقاويل عن بنود استخدمتها أطرف أخرى، على الخط الدعائي في السجال الدائر بين محورين في الإقليم، ومن هذه الأقاويل التي جرى تطييرها وثبت بطلانها، أن مصر عازمة على الإسهام في الحل، من خلال “بيع” أراض في شبه جزيرة سيناء، للفلسطينيين، في إطار بنود الصفقة، لتوسيع مساحة قطاع غزة المكتظة، وإسكان اللاجئين الفلسطينيين فيها.
الجانب الأميركي، الذي يُفترض أنه اعتزم تحقيق اختراق في انسداد آفاق التسوية وإيجاد حل للنزاع، ركز على عناصر الغواية، وتحدّث عن تنمية ومساعدات وفرص عمل وتدابير لضمان سهولة حركة الفلسطينيين وتحسين شروط حياتهم وإحياء فكرة حل الدولتين. لكن هذا الجانب الأميركي نفسه، استبق أموره واتخذ قراراً باعتماد الموقف الإسرائيلي بضم القدس الشرقية، وهو يعرف أن هذه النقطة تمثل سبباً كافياً للتطير من هذه الصفقة قبل عرضها، لما للقدس الشرقية من أهمية روحية في العالمين العربي والإسلامي. ثم استمر التمهيد للصفقة بطريقة تقلب الأولويات، إذ اتجه إلى عقد مؤتمر اقتصادي في مملكة البحرين، للإعلان عن حجم التنمية المزمعة في إطار الصفقة، في محاولة لتظهير المنافع الجاذبة للتأييد السياسي لها. وجاءت النتائج عكسية بحكم المنطق، إذ لا يصحّ الإعلان عن بنود للتنمية، قبل تحديد أرضها أو شروطها الجغرافية. وبدا واضحا، أن الاتصالات الإسرائيلية – الأميركية على مدار الساعة، ناقشت مجمل جوانب رؤية الإدارة، فجرى التعديل على النحو الذي يلائم رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف. وعلى هذا المستوى، تعاطت الولايات المتحدة مع المنظور اليهودي الديني والاستيطاني، ولم تقترب من المنظور العربي والفلسطيني على الطرف الآخر، بأبعاده الروحية وخلفياته التاريخية.
احتفالية الإدارة الأميركية يوم 28 يناير 2020 للإعلان عن الصفقة، شهدت العديد من الاختلالات التي تجاوزت مخالفة العرض الأميركي لمفهوم الصفقة، باعتبارها تُعقد بين طرفين، إذ غاب الطرف الآخر، لكن الطرف الإسرائيلي الحاضر، أمسك بالميكروفون، لكي يقدّم عرضا للتفصيلات، فيما كاميرات التلفزيون، ترصد اللغة الجسدية للرئيس الأميركي، بكل ما تنمّ عنه من استعلاء واستشعار القدرة على فرض ما يريد، علما بأن ما يريده هو إرضاء الطرف الإسرائيلي المتشدّد، والمتمسك بالاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبهيمنة إسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر.
ردود الأفعال العربية الأولى، على مشهد العرض يوم 28 يناير تنوّعت ارتجالاً. وعنصر الارتجال هنا، أن من يعرضون، كانوا يؤكدون على أن هذه هي صيغة الحلّ وهذا هو السقف، الذي لن تُجرى أيّ مفاوضات فوقه، أو خارج إطار ما يُعرض. لكن بعض ردود الأفعال، جاءت في صيغة التذكير الضمني بأن المطلوب هو مفاوضات جادة للتوصل إلى حلّ، بمعنى أن هذا ليس حلّا، ومن هذا البعض من عاد ليذكر بأن الحلّ الدائم ينبغي أن يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، وهذا كان موقف الأمم المتحدة والعديد من الدول الأوروبية الوازنة.
من خلال تأمّل طريقة العرض الأميركي لما يُسمّى “الصفقة” كانت لافتة عبارات الشكر والتهاني، المتبادلة بين الرئيس ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. الأول يعبّر عن امتنانه لـ“جرأة” الثاني الذي قدّم “تنازلات مؤلمة”، بينما الثاني يشكر فريق الأول الذي بذل “جهودا مضنية”.
توحّد الفلسطينيون على موقف الرفض الباتّ للصفقة المزعومة
وفي حقيقة الأمر أن الطرفين كانا يحادثان بعضهما بعضا، وفي الهوامش كان نتنياهو يستخدم إشارات تساعد على تعزيز القناعة لدى الرئيس ترامب بأنه التزم الخط الصحيح، ومن بين الإشارات، وهي معتادة في تصريحاته، التلميح دون التفصيل بأنه بات يمتلك علاقات وفاقية مع أطراف عربية في الإقليم. ذلك علماً بأن الرجلين، ترامب ونتنياهو، كانا يبعثان برسالة يحتاجانها، كلُ إلى نظامه السياسي ومؤسساته التشريعية. فللأول مشكلته مع الكونغرس ومجلس الشيوخ والجهات القضائية، وللثاني مشكلة مع “الكنيست” يطلب منه حصانة ضد القضاء الذي يريد محاكمته. لذا كان الرجلان متضامنين، ويريدان تحقيق إنجاز مشترك، لذا اتسمت لغة العرض بالإيحاء بأن هذا “الإنجاز” الذي يريدانه قد تحقق واستوجب تبادل التهاني، حتى وإن كانت الصفقة بلا تعاقد، بل في غياب الطرف الآخر، المعني بتدابير التوريد وشروطه!
توحّد الفلسطينيون على موقف الرفض الباتّ للصفقة المزعومة. وفي اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، تجاوزت المواقف حال الارتجال، وحدد ممثلو الدول العربية طبيعة التسوية التي يريدونها، ودعوا إلى مفاوضات على أساس القرارات الدولية، وكان هناك إجماع على أن التسوية الدائمة التي ستصبّ في مصلحة السلام والاستقرار، هي تلك التي تكرّس القرارات الأممية حيال القدس والمستوطنات والحدود وطبيعة الدولة الفلسطينية المرتجاة، مع الحقوق غير القابلة للتصرّف، للاجئين الفلسطينيين في ممتلكاتهم.
جدير بالإشارة هنا، أن كل ما استند عليه ترامب في خطته، هو معاناة الشعب الفلسطيني الذي امتدحه وهو يتمثل موقف الراغب في إنهاء هذه المعاناة. لذا، كانت تفصيلات الغواية الاقتصادية في الصفقة، تركز على هذا العنصر، علماً بأن من أوصلوا الشعب الفلسطيني إلى هذه الحال البائسة، هم الفلسطينيون الحاكمون أنفسهم في غزة والضفة. فهؤلاء ساعدوا على تجرؤ الأميركي والليكودي الإسرائيلي على طرح هكذا رؤية، لاسيما وأن حال المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال وفي ظل شطب حقوقه السياسية وسد الآفاق أمام طموحاته في الاستقلال؛ كانت أفضل بكثير منها تحت حكم سلطات فلسطينية فاقدة للبوصلة، ولا تدرك البُعد الاجتماعي للحكم وللسياسة!

علي صادق 

كاتب وسياسي فلسطيني

Related posts

Top