صورة الأم في ديوان “كقبضة يد” للشاعرة المغربية ثريا وقاص

تحضر صورة الأم محملة بزخم من الدلالات الوجدانية والرمزية المكثّفة، فهي تمثل تيمة بؤرية داخل المتن الشعري باعتبارها بنية دلالية رمزية كبرى، لنسق القيم النبيلة/ المضادة لواقع انهيار النسق القيمي.
إن صورة الأم في بعدها الرمزي الإيحائي المطبوع بالقداسة والطهرانية، هي آلية نفسية ووجودية تستمد منها الأنا الشاعرة معناها وجدوى كينونتها.
يهيمن حقل لغوي ودلالي لتيمة الأم داخل الديوان الشعري، والذي يرمز إلى دلالات وجدانية وإنسانية عميقة، تتضافر مبلورة صورة قدسية للأم، ووجودها الرمزي الذي يتحقق معه معنى العالم واستمرارية فعل الإبداع.
ما يبرز الأهمية القصوى والحضور المفصلي لصورة الأم، تخصيص الشاعرة للأم عتبة إهداء، باعتبارها شجرة الأسرة وظلالها الوارفة والرحيمة.
“إلى أمي التي تعد على أصابعها كل صباح عدد الأدعية والفرح والمشاغل التي ستحملها عني” (الديوان، ص5).
تتكرر العلامة اللغوية للأم متخللة كينونة الديوان الشعري ومخصبة لتربة أكوانه الدلالية، ما يعكس الحضور الرمزي الجدلي لتيمة الأم.

العلامة اللغوية (الأم) السياق النصي (إلى أمي) ص5 (وتحاول أمي/ تتمتم أمي) ص27 (شال أمي) ص48 (تقول أمي/ لتفرح أمي) ص56 (الأم الطيبة/ الأم الطيبة تلك) ص79 (طرزت أمي) ص80 (يتشبث بفستان أمه) ص84 (ووحدها يد الأم) ص95(كلما ضحكت أمي) ص 111…. تتخد صورة الأم في سياقات مختلفة دلالات متعددة وأبعاد رمزية 1- الأم هي الربة والقديسة التي تسحر قوى الطبيعة، وتشل حركة الريح بقواها الروحية العظيمة وإشراقها الطهراني.
“في الحديقة هذا الصباح/ لاحظت أن الريح التي/ تداعب أوراق شجرة التفاح/ تتوقف كلما ضحكت أمي” (الديوان ص111) بمجرد ذكر الأمس للشمس، يشكل ذلك استحضارا ماديا وواقعيا لحضورها وانغمار قلب الشاعرة بنورها.
“وتقول بين لقمتين/ وهي تنظر إلي: الشمس دافئة هذا اليوم/ فتدخل الشمس.. الدافئة إلي” (الديوان، ص122).
2- هي الشجرة العظيمة،بماتحمله من دلالات الانتماء والتجذر والسمو،والتي تستمر في الوجود راسخة،رغم صيرورة الزمن،فهي تتجاوز حوادث الزمن وحتمياته لتتحول نورا وظلا.
“الشجرة لاتهرم/إنها فقط/تصبح نورا /تصبح ظلا/مع مرور الزمن..”(الديوان ص122).
3- إنها البهاء الرحيم الذي يهب العالم جمالا مضاعفا وحنانا
دافئا “يصبح العالم/ بيتا صغيرا/ دافئا/ يطل على حديقة/ بمجرد الحديث عن الأم.” (الديوان ص112/113).
4- تجسد الأم أيضا المشترك الوجداني والإنساني بين كينونتين: كينونة الترمل: (الزوجة/ الأم)، كينونة اليتم (الإبنة/ الشاعرة). والرغبة الأبدية اللاواعية في تخليد ذكرى الراحلين، وإن كان ذلك إيهاما بالواقع/ السراب أو الحقيقة/ الوهم.
“فنرتمي باكيتين بين ذراعينا ونصبح نحن الإثنتين ذلك ال “أبيك”
المحذوف كلاما” (الديوان، ص27/ 28). 5- تتمظهر الأم معنى وروحا، يتسامى على حتمية زوال الجسد ونسبيته.. لتصير روحا أبدية ودلالة راسخة تقاوم سلطة الزمن.
إن فكرة الأمومة تتسم بالتعالي، فالارتباط العاطفي والفطري بين الأم والأبناء يتخد صورة المطلق. لذلك عندما تمس رياح الشيخوخة جسد الأم، ويذبل الجسد/ الحيز المادي، تتحول صورة الأم إلى قلب كبير أي معنى رمزي كبير وراسخ.
“”الأم التي تشيخ/ وتصير جدة/ تفقد جَسدها شيئا فشيئا/ فتصير قلباً كبيرا يتحرَّك”.
(الديوان، ص118) 6- الأم منبع الأمل والمسرة، والأفق الاستشرافي المحمَّل بالآمال والوعْذ المبارك:
“على وسادة/ طرزَت أمي على غشائها: والغد يكون جميلا” الديوان، ص 80).
7- الأم صورة عاطفية مكثفة، مشبعة بمعاني التقمص الوجداني والمواساة لغياب الأب، والشعور باليتم العاطفي والرمزي، والحفاظ على تماسك النواة الأولى للكيان المجتمعي: الأسرة.
“وتحاول أمي/ رتق غياب أبي” (الديوان، ص27).يد الأم هي رمز القوة الشعورية والروحية التي تنبثق عن عاطفة الأمومة بما توحي به من قيم السند والعطاء اللامشروط وإفناء الذات من أجل حياة الأبناء. وهي اليد الطيبة والحانية التي تمسح حسابة غبار الضَّنى والحزن عن الوجوه والقلوب.
“ووحدها يد الأم/ أو ابتسامة حبيب/ تمسحها/ لتشع من جديد” (الديوان، ص95).
لقد أضفت الشاعرة صفات رمزية متعالية
“transcendantes”
على صورة الأم، ما يتناغم مع الهالة القدسية للأم في المخيال الإجتماعي والثقافي.
يشكل حضور الأم في الديوان الشعري آلية سيكولوجية وأنطولوجية بالنسبة للشاعرة. فالأم رمز المشاعر النبيلة وقيم المحبة والأمان والمعنى، إنها صورة رمزية مصغرة للقيم الإنسانية الشفافة، المضادة لواقع الابتذال والكراهية واللامعنى.

بقلم: رشيد مليح

Related posts

Top