طلاء الروح (انسكاب)

ولأنَّ الكلمات المتكررة والتّهاني الاعتياديّة لا تليق بعيد مولدك يا سيدة النساء

ولا تليقُ بنقاءِ مُحيَّاكِ وعظمةِ حضرتكِ

ويبدو أنَّ مضغةَ بدايتي كانت في رحمِ عاطفتك

سأتجرَّدُ بسُرعةٍ مِن جميع أقنعتي وأخلعُ ثوبَ الهويّة

فروحي انبثقت بسرعةٍ قبلَ ارتدائها وشاحَا يسترُ حقيقتها عن الجميع فأمسيتُ شفافةً حداً يسمح بالرسم والكتابة عليّ بسهولة.

سأتقمّصُ القلمَ كوناً وأرتدي رِسالةً ورقيَّة..

سأتلحَّفُ الضَّادَ، وأتوضّأُ بمسكِ العربيّة..

كي لا أطيلَ عليكِ، أو بالأحرى.. كي لا أطيل عليَّ!

فحروفي باتت تَبتلعني وتقتاتُ على أطراف جسدي وحبري قاتِلُ المنيّة

ولم أعُد أقوى على طَمسِها وكتمانها، سأخرجها هُنيهةً كالسريّة!

تصطفُّ للقياكِ، فَلتُبارِكيها بِمسكِ أنفاسكِ السّخيَّة..

يا هِمَّتي عندَ وَحشَتي، وبَلسَمي عندَ كُربَتي، يا أميرةَ البريَّة !

دعيني أخبرك أن في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء

أستدعي كلَّ من ماتَ من الكُتَّابِ وَالشّعراء إلى منبر جِفنَيكِ، لأُعيدَ إحياءَهُم بروحِ قلمي العاشِق بين سُطورِ مُقلتيكِ، وننسُج أبهى الدّواوين ولعاً وهُياماً في أمواجِ أديمكِ ما بينَ بسمةٍ تستلقي على أطلالِ المدِّ وتجهُّمٍ يسترخي على حوافِّ الجَزر، وَأستَحضِرُ أجسادَ مُضغاتٍ لَم تُخلَق بَعدُ، وعلقاتٍ تصارعُ القرار ما بينَ إيابٍ وغياب، وأجنّةٍ تُقارعُ المَصير ما بينَ مخاضٍ وهلاك

لِيشارِكنَنِي التّصوُّفَ سُجوداً بحبرِ حروفي الخاشِعة أمام مجيدِ عينيكِ يا سمراء اللّآلِئ وورديّة الوجنتين !

لسيماءِ أحداقكِ يا عَيونَ المَها، سِحرٌ يتغلغل في عُروقي فيَسترِقُني من نفسي على حينِ غِرَّةٍ، كمُخَدّراتٍ لا ألبثُ أن أعتادها حدّ الإدمان منذ الرّمق الأوّل، فلا أكادُ أكمِلُ يوماً أو بِضعَ يومٍ بعيداً عن هندسةِ مِنوالها الفاتن الذي يستوقفُني في كلِّ مرّةٍ زارعاً القشعريرةَ في تكويني، وكأنَّها المرَّةُ الأولى!

فـبها الحياةُ، وإليها القنوطُ، ومنها الأزرُ، وبين استدارةِ جفنيها يغفو الأزَلُ!

أستسمِحُكَ عذراً سيّدي الرَّصين “جرير بِن عطيّة التميميّ”، فالعُيونُ الَّتي في طَرفِها حورٌ قتلننا ثمَّ أنقذنَ قَتلانا، وأحيينَ موتانا!

يصرعنَ ذا اللبّ إلّا أنَّهُ يقاوم هائماً في خضراءِ جنانهِ ويُعاركُ متعطِّشاً لنعيمِ فردوسهِ، وَهُنَّ أطهر وأنقى خَلقِ اللَهِ أَركانا!

أتقصَّدُ في هذهِ السّاعاتِ المبجّلة أن أخاطِب ما بقيَ من رُكامِ الشُعراء من إرثِ كلماتٍ ستتناقلُها الأجيالُ حتى خِتامِ الأنفاس، فأنا يا أبا تمَّام، على كاملِ الثّقة أنّني كنتُ بشكلٍ أو بآخر أتوسّطُ ثنايا وتينكَ المُتيَّم عندما نطقتَ بحالي وحالِ كُلِّ مُستهام مختصراً مأساةَ سنينَ في إطار بيت شعرٍ محصورٍ بين قوسين!

“نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ”

إلّا أنَّكَ يا شحيحَ العطاءِ أفلتَّ يدي، دونَ أيِّ إجابةٍ عمّا يختلجُ فِكري المتقلقل من عظيم الأسئلة، دونَ أيّ مفتاحٍ لفكِّ شيفرةِ الحبل السريّ الذي لا يزالُ يربطني بها بعد أكثَر من عشرين ربيعٍ مرَّ على يدِها الدافئة التي لا تكادُ تُفلِتُ زمهرير يدي الصّغيرة إلّا لتمسح بنعومةٍ على جوانبِ وجهي لتتركَ خلفَها فراشةً تجثو على ذروة أنفي و تحميه من بردِ كانون!

أنا مثلكَ يا أبا تمّام، لن يعشقَ قلبي وإن هوى لبرهةٍ عابرة..سِوى محبوبي الأوّل..

وكلانا رغم اختلاف الأزمان والأعمار، حاربنا المنازلَ وعاركنا المساكن وقاتلنا البيتَ والدّار بالرّصاصِ والبارود، فنحنُ يا أبا تمّام.. رحّالة!

لا نرقدُ في مقرٍّ، ولا نثبِّتُ أقدامَنا في مقامٍ، نحنُ في رحلةِ بحثٍ باقية عن الوطن و الهدف، و حنينُنا أبداً لأوّلِ منزلِ!

و على خلافِكَ تماماً، عقاربُ ساعاتي تشيرُ إلى ملامحِ أمّي!

فكيفَ لِحبيبٍ أن يتفوَّق على رحمٍ عانقني في دفء تحنانهِ تسعةَ أشهُرٍ، لأفتحَ عيني وأبصرها أمامي مُستهلَّةً قِطارَ حياتي بِطُهر مُحيّاها..

كانت تنتظرني على الطّرف الآخر من الاشتياق..

تكلّمني على الجانب الآخر من الحياة، و تشعر بانتفاضاتي التي لا أعلم عنها سوى القيل والقال..

وما أن جاءَها المخاضُ، حتى راحت تُهديني دماءَها على طبقٍ من فضّةٍ بسرورٍ وسخاء، وتُطعِمُني عافِيَتها بقُبلةٍ ورخاء، وتسكبُ لي راحتَها في كأسِ أحضانِها بهناء!

كملاكٍ أبيضَ الوجهِ والجِناح، أذكُرُ منحوتتين خضراوتين متجاورتين يُشبهان أعمال النّحات العالمي هينري مور، إلّا أنَّ نحّاتَها كانَ اللهُ بديعُ السّموات والأرضِ!

استقبلَتْني بابتسامةٍ رقيقة وأحضانٍ عاشِقة ونظرةٍ مولعة أوقَعَتْني في شِراكِها مُذ كنتُ أبلغُ من العمرِ ثوانٍ معدودة، أجل يا أبا تمّام، لقد عرفتُ العشقَ منذ مولدي، و حبلُ سرّتي لا يزالُ محاوطاً ثنايا شُغافي، وأخذتُ منذ ذاكَ الحين أنقُّل فؤادي هُنا وهُناك، لكنَّ الحُبَّ فِعلاً للحبيبِ الأوَّلِ!

——-

في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء

دعوتُ جبران خليل جبران إلى منصّة الحوار والقلم، فشافَهَني بعبارةٍ سريعةٍ وهمَّ بالرَّحيل:

“البعض نحبُّهم لأنَّ مثلهم لا يستحقُّ سوى الحبِّ، ولا نملك أمامهم سوى أن نحبّ!”

وأنا يا سَكينَتي وَموطِني وَملاذي وَأمَاني، لا أملكُ أمامكِ سوى أن أحبّ وأعتزَّ وأعشق وأفتخر وأصبو وأهوى وأحنُّ وأشتاق وأتمسَّك..

جبران كانَ على حقٍّ يا أمّاه، فمثلكِ أنتِ لا يستحقُّ سوى الحبّ، ولأعطيتكِ فوقَ الحُبِّ حُبَّاً ويمينَ القلبِ قلباً ويسارَ الرّوحِ روحاً لو استطاعتْ نفسي إليه سبيلاً..

أحبّكِ يا ملاكاً أبيضاً بينَ ألفِ ملاك، ها قد نطقَ أحمد شوقي شوقاً للقياك، مضني وليس به حراك، لكن يخف إذا رآك، ويميل من طربٍ إذا ما مِلتَ يا غصن الأراك!

إن الجمال كساك.. من ورق المحاسن ما كساك!

وما وصفتَ في الحُسنِ يا شوقي إلّا ما ترجّى أجفان ذاكَ الملاك!

والملاكُ الأوحَدُ هوَ أمّي، أمّي.. يا شوقي وما أدراك..

لقد تأخّرتُ عن موعدي مع أنيسِ اليراع محمود!

عذراً يا درويش، فمولدُ العظيمة كادَ يُنسيني ضِفافَ الوِصال!

ثِق أنّني أنسى الرّياح، والسُّفُن و البحار

أنسى العاصِمة، وحواريها، وفُتاتَ الخُبزِ

والمدرسة الشّمالية، وماضٍ تقاسَمتُهُ مع جار

أنسى الحَطَبَ، والمدافئ، والقنابل، والأمطار

أنسى بيروت والقُدسَ والقذائف والنّار

لكني لستُ أنساكَ يا معلّمي الجبّار

إلّا في حضرةِ أمّي التي تمحو كلَّ وجودٍ و وقار!

قلتَ لي ذاتَ مرّةٍ، صديقان نحن.. فسيري بقربي كفاً بكفٍّ.. معاً نصنع الخبر والأغنيات لماذا نسائل هذا الطريق لأي مصير يسير بنا؟

فإن كنتُ لأختار..

بينَكَ والعالمين لاخترتُكَ مرّتينَ يا درويش..

وفي حضرةِ أمّي يا أيّها الأديبُ المِغوار..

سأختارُها عليكَ والعالمِينَ آلاف المرَاتِ، وسأبقى أندهُ بتراتيل اسمِها المقدّس مع كلِّ خيرٍ يجلبهُ النّدى ومع كلِّ رذاذٍ يروي عطشَ دار..

صديقان نحن يا أُمِّي.. فسيري بقربي كفاً بكفٍّ

فمعاً نبتكرُ المُعجزات..

نخلقُ صيفاً في آذار..

ونَلِدُ شتاءً من رحمِ أيّار!

صديقان نحنُ يا أمّي..فسيري بقربي كفّاً بكفِّ

فمعاً نرمّم ما تهدَّمَ من الجِدار..

ونرسمُ الخيرَ عنواناً وشعار..

كوني لي الشّمسَ، كوني لي المنار

كوني لي القمرَ والنّهرَ والتّيار

صديقان نحنُ يا أمّي..فسيري بقربي كفّاً بكفِّ

كي أحبَّكِ، فمثلكِ لا يستحقُّ سوى الحبِّ، ولا أملك أمامه سوى أن أحبّ!

في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء

اسمحي لي أن أُخاطِب العظيم “إيليا أبو ماضي” وأبوحَ لهُ بعشقي لكِ ونقاطِ ضعفي التي تُومِئ جميعها إليكِ

عزيزي إيليا..

سأتّخذُ منكَ خليلاً ورفيقاً يا مَن يتوسَّطُ جثمانهُ بقايا الثّرى، وسوفَ أقفُ عند حُرمةِ قبركَ مُتعرّيةً من كلّ مخاوفي وأحزاني!

لقد جِئتَني في أحلامي منذ رفّةِ جفنٍ ودمعة، عندما كنتُ أحاول دهسَ مشاعري فهي تؤذيني أكثَر من اللّازِم، وهمَستَ في أذُني:

“أيقظ شعوركَ بالمحبّة إن غفا..لولا شعورُ النَّاسِ كانوا كالدُّمى”

عندما يتعلَّقُ الأمرُ بأمّي، أتمنّى أن يغفو شعوري في أحضانِ غيبوبةٍ لا مهربَ منها إلّا إليها، أتمنّى أن أكونَ دُميةً يا إيليا!

دميةٌ أو لوحةٌ جداريّة..

أو مزهريّة!

عزيزي إيليا..

أقفُ عند حُرمةِ قبركَ وأبكي بحبر قلمي الذي لن يجفَّ طالما بقيت أمّي حيّة..

فهلّا بُحتُ لكَ بما يُدمِعُ عينيَّ؟

أخافُ عليها!

أخاف عليها يا إيليا..

أخافُ أن يخطُفها العُمر من بين يديَّ!

سُنَّةُ الحياةِ و الكونِ

تقتضي أن تُغادِرَ الفتاةُ كنفَ والديها في يومٍ من الأيّام، فتتزوّجُ وتصبحُ بدورها أمّاً وزوجةً وربّةَ منزلٍ ولربّما عاملةً وموظّفة إداريّة

فيبقى عشقُ والدتها محفوراً في أنفاق الفؤاد، لكن تقلُّ زياراتُها و ينقص اهتمامها سنةً تلوَ الأُخرى يا إيليا..

تصبحُ زيارةُ أُمِّها التي أهدَتْها سنينَ عمرها مكللّةً بالحبِّ مشرّبةً بالتّفاني، روتيناً مملّاً وواجباً إنسانياً أسبوعيا!

هذا ما شاهدتهُ عينيَّ!

أمّا عنّي؟

فسأتّخذ من أمّي ابنةً ليَّ..

سأربّيها في دفء أحضاني كما غمرتْني في بحار عطائها جاثمَين على ضِفافِ الكلفِ يا إيليّا!

سأمشّطُ بعبقِ أنفاسي شَعرَها الذَّهبيَّ..

وأرتّبُ بِودادِ جوارحي ثَوبَها الورديَّ!

وأصلّي لأمانِها و سلامِها حتى توافيني المنيّة!

سأصلّي كي يخطفني شبحُ الموتِ قبلها يا إيليا! 

كي تقومَ يداها بدفني فأوارى الثّرى.. مودّعةً البريّة..

سأصلّي كي نعيشَ سويّة..

وأموتُ وحدي..

لأنَّ الموتَ لا يليقُ بأمثالها يا إيليا! 

وبما أنّهُ حقٌّ مفروضٌ على البريّة

سأغادرُ قبلَ أن تُدركها المنيّة..

لكن كيفَ سأكافئها..

ولستُ أقوى في ناصيتها، على لقاءٍ مع شعرةٍ رماديّة؟

لستُ أقوى على بلوغِ يومٍ تصبحُ فيهِ عجوزاً راجفةً محنيّة!

كيف سأكافئها..

ولم أعتَد أن أرَها إلّا شابّةً قديرةً قويَّة!

أبإمكاني أن أُهديها من عُمري عمراً و من نصفي نصفاً يا إيليا؟

أو أغترفَ السّنين فتتجرّع الشّيبَ مِن جسدي و يتجمّدُ الزَّمانُ في حضرةِ روحها الأبيّة؟

أيا ليتَ أمّي تعيشُ حياةً أزليّة..

آهٍ وَألفُ آهٍ يا إيليا..

كم أتمنّى أن أكونَ دُميةً

أو لوحةً جداريّة..

أو مزهريّة!

بقلم: هند بومديان

الوسوم
Top