عزيز بلال .. المفكر والمناضل السياسي الصلب والنقابي المحنك

يندرج هذا المقال في إطار مداخلة خلال افتتاح دورة علمية بجامعة الحسن الأول بسطات تحت عنوان: “عزيز بلال: المسار الأكاديمي والنضال السياسي”، نظمتها فعاليات شبابية واعية بأهمية فكر الرجل “المبادرة الطلابية”، أطلقت عليها دورة “عزيز بلال” (22-24 أكتوبر 2019).

تمهيد

يرجع الفضل إلى عزيز بلال في تحليل ظاهرة التخلف في أبعادها التاريخية والسوسيواقتصادية والثقافية والجغرافية، وسبل تجاوزها بالمغرب. ويتقاسم معه نفس التحاليل والأفكار مفكرون تقدميون من عيار سمير أمين بمصر، وملتون سانتوس بأمريكا اللاتينية، وإيف لاكوست بفرنسا، ويوري بوبوف بالاتحاد السوفياتي سابقا.. وآخرون من المغرب ومن العالم.

سوف نركز في هذا المقال على بعض الجوانب المرتبطة بشخصية عزيز بلال المناضل السياسي الصلب الذي لا يضعف أمام إغراءات المال والسلطة والجاه. والمفكر العضوي الذي ربط بين النضال بالقلم والممارسة في الميدان، وحسن الإنصات في تواضع، للشباب وخاصة طلبة الجامعة، وللجماهير الكادحة من عمال وفلاحين صغار، التي كان يساندها وينظمها ويوجهها ويرفع من معنوياتها. وكذا الأستاذ الجامعي المتميز الذي استطاع أن يستقطب، بطريق غير مباشر، وبشكل عفوي آلاف المثقفين والباحثين المتأثرين بتحاليله الثاقبة وشمولية أبحاثه التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل تتعداه إلى دراسة شاملة (ثقافية، سياسية وسسيواجتماعية) لظاهرة التخلف وسبيل التنمية، توجها بإصدار عصارتها في كتابه الذائع الصيت الذي أصدره قبل وفاته المفاجئ: التنمية والعوامل الغير اقتصادية[i].

لابد لي أن أدلي بشهادات تدخل في خانة تدوين أرشيف هذا المناضل، والتعريف برصانة تحاليل هذا المفكر المبدع، وحصافة مواقفه في منعطفات حاسمة من تاريخ البلد، ومنها موقفه من القضية الفلسطينية ومن القضية الوطنية والمسلسل الديمقراطي. ولذا فإن معظم الأفكار والمعلومات الواردة في هذا المقال تستند على ما سجلته في ذاكرتي السياسية، خلال عقد من الزمن، كنت شاهد عيان في الفترة المعاصرة التي عاش فيها المرحوم عزيز بلال بالرباط والدار البيضاء (1968- 1982) والتي تصادف انخراطي في حزب التحرر والاشتراكية المحظور ونضالي به (1970-1974)، ثم استمراري إلى جانب رفيقات ورفاق أخرين مناضلا في العلنية بحزب التقدم والاشتراكية منذ تأسيسه سنة 1974 إلى اليوم (2019). هذا ما سهل احتكاكي بعزيز بلال (في الزمان) في عدة مناسبات؛ (وفي المكان ) بفضل ريع موقع الرباط كعاصمة وجامعة محمد الخامس.

 تمثل الإتصال والإحتكاك بعزيز بلال في اللقاءات والاجتماعات الحزبية والتجمعات الجماهيرية، وعبر حضور محاضراته التي كان ينشطها برحاب جامعة محمد الخامس وفضاءات مدينة الرباط (كالمنبع بأكدال La source)؛ وخاصة ونحن آنذاك، شبابا مناضلين بالخلايا الطلابية الحزبية بجامعة محمد الخامس (كلية الآداب بالرباط)، في إطار تيار “طلبة أنصار التحرر والاشتراكية”، الذي كان هو نفسه موجها لنا، حيث كنا نناضل إلى جانب اليسار بتياراته المتنوعة خلال السبعينات. وكان اتصالنا به لاحقا عندما عينا أساتذة بنيابة الرباط وسلا، ننشط كأساتذة ونقابيين بالثانوي بسلا والرباط، حيث جمع بيننا النضال المشترك بمركزية الاتحاد المغربي للشغل. وأخيرا كانت لقاءاتنا بهذا المناضل كزميل لنا وكنقابي متمرس، بجامعة محمد الخامس؛ حيث جمع بيننا النضال المشترك في إطار النقابة الوطنية للتعليم العالي التي كان احد مؤسسيها من الرعيل الأول، وأحد أعمدتها. واستمر نشاطنا المشترك وإلى جانبه إلى حين وفاته سنة 1982.

  • عزيز بلال النقابي المحنك المؤطر والموجه للطبقة العاملة والمساند للفلاحين الفقراء

كان نشاط عزيز بلال مكثفا بمركزية الاتحاد المغربي للشغل، كمؤطر لأنشطتها وتجمعاتها الجماهيرية بالرباط والدار البيضاء، حاضرا في كل احتفالات واستعراضات فاتح ماي بالرباط والدار البيضاء. يؤمن بالوحدة النقابية حتى النخاع. في هذا الإطار روى لي أحد الزملاء الأساتذة النقابيين بهذه المركزية خلال السبعينات (كان ينتمي حزبيا للإتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك)، بأنه ذات يوم جد ممطر، لم يخلف عزيز بلال موعده لحضور ندوة بمقر الاتحاد المغربي للشغل بالرباط، رغم غزارة الأمطار ذلك اليوم، التي بلغت مرحلة يصعب على الراجلين الوصول إلى المقر. ومع ذلك أبي إلا أن يخترق الشوارع الموحلة بحذائه لحضور الندوة المذكورة، في تحدي لافت للطبيعة.

كما يحضرني، في مطلع السبعينات موقفه الصلب المناهض للبيروقراطية آنذاك التي منعت لقاءا مشتركا بمقر الاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، يضم أعضاء اللجان الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم الثانوي، التابعة للجامعة الوطنية للتعليم، وأعضاء اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي التي كانت تنشط داخل بنايات هذه المركزية، رغم استقلالها التنظيمي عنها. فقد حضر عزيز بلال إلى الوقفة الاحتجاجية للتضامن مع زميلاته وزملائه في قيادة النقابتين الوطنيتين، وللتعبير عن استنكاره لأساليب بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل آنذاك. في الواقع، شعرت البيروقراطية النقابية بنجاح الديمقراطية الداخلية من خلال خلاصات المؤتمر الوطني للنقابة الوطنية للتعليم الثانوي، رغم كونها كانت تضم كل الاتجاهات التقدمية أنذاك؛ من أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والتحرر والاشتراكية المحظور، وتيارات يسارية أخرى (إلى الأمام..)…ولذا كانت تخشى من تسرب رياح الديمقراطية إلى باقي النقابات المنضوية تحت لواء هذه المركزية، حيث دينامية الأساتذة كانت قوية في تأطير الطبقة العاملة والأطر الإدارية، ونساء ورجال التعليم والقطاع الخاص، مما قد يهدد مصالحها.

من جانب آخر كان لعزيز بلال خصلة الانصات المركز لهموم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وخاصة في منطقة الغرب. كانت زيارته الميدانية متكررة لهذه المنطقة الغنية بمواردها الطبيعية، والتي يهيمن عليها بعض كبار ملاك الأرضي؛ زيارات في إطار حزب التحرر والاشتراكية في فترة الحظر، لأنه كان الكاتب الأول لناحية الرباط التي كانت تضم تقريبا كل مجال جهة الرباط سلا القنيطرة الحالية (من الرباط إلى العرائش). ونظرا لطبيعة سهل الغرب المستوية والفيضانات التي تعمه كل سنة، فقد كان وزميله سي إسماعيل العلوي ومحمد مشارك بمكتب الناحية يضطرون إلى التزود بأحذية مطاطية (بوط) لاختراق مسالك دواوير الغرب الموحلة، خلال زياراتهم الدورية لحضور لقاءات معهم. بل يضطرون أحيانا عقد اجتماعات داخل بعض الأضرحة ليلا، درءا لعيون السلطة، التي كانت تراقب تحركاتهم. وكان عزيز بلال ينصت إلى هموم ومطالب الفلاحين والعمال الزراعيين، ويقنعهم بأهمية النضال الجماهري في إطار نقابي وسياسي لانتزاع المطالب، وتحقيق نوع من الديمقراطية في فترات صعبة عرفت بزمن الرصاص. وكان الفلاحون يستمعون باهتمام لخطابه التعبوي كسياسي ونقابي صلب ومحنك، الشئ الذي يزودهم بشحنات تحفزهم على المقاومة وعلى التفاؤل بالمستقبل.

  • الربط الجدلي بين التحرر الوطني وتعميق الديمقراطية الذي سمح بانفراج سياسي على المعارضة اليسارية

ظل عزيز بلال يربط جدليا بين التحرر الوطني الذي يعني النضال المستميت من أجل استرجاع الصحراء الغربية المغربية إلى حظيرة الوطن، وتعميق الديمقراطية بالبلد، وانتزاع الحقوق لفائدة الطبقات الكادحة، والوصول إلى التوافقات مع الغريم بدون التنازل عن المبادئ التقدمية. في هذا الإطار أتذكر جيدا، موقفا يحسب له، حين بشرنا بابتسامته المتفائلة التي تبعث الأمل، في اجتماع سري لأعضاء اللجنة الإقليمية لناحية الرباط لحزب التحرر والاشتراكية المحظور آنذاك، ليلة الخروج من السرية إلى العلنية؛ بشرنا بميلاد حزب التقدم والاشتراكية بتاريخ 23 غشت من سنة 1974 والذي يعتبر امتدادا لحزب التحرر والاشتراكية، ووريثا للحزب الشيوعي المغربي. وكان ذلك بمنزل والدته رحمها الله بحي أكدال، المجاور لساحة بوركون، بالرباط (القريبة من القاعة المغطاة حاليا)، بحضور ثلة من المناضلين.

كان عزيز بلال هو الكاتب الأول لناحية الرباط منذ مطلع الستينات إلى حين استقراره بالدار البيضاء منتصف السبعينات، حيث سيخلفه في هذه المسؤولية محمد مشارك. وبدا الرفيق جد منشرحا وهو يعلن الخبر السار بانتهاء العمل السري بانتزاع الحزب حقه، كباقي الأحزاب، في العمل السياسي العلني. ولكن الرفاق المناضلين في صفوف حزب التحرر والاشتراكية، لم يثقوا أبدا في النظام المستبد آنذاك، لأنهم ذاقوا مرارة العمل السري، نظرا للقمع المسلط عليهم وعلى كل القوى التقدمية في زمن الرصاص، ولتعقب أعوان السلطة والأمن لكل تحركاتهم، والزج بعدد منهم في دهاليز الكوميساريات، وأحيانا في السجون، وتعرض جريدة البيان الصادرة سنة 1972 للحجز والمنع لعدة مرات، وقبلها جرائد الكفاح الوطني الصادرة سنة 1966، والمكافح (1960-1966) للحجز تارة، والمنع تارة أخرى ولعدة أشهر؛ كل هذا جعل الثقة منعدمة بين الرفاق والحكم. ولذا كانوا حذرين من كل مبادرة تصدر عن النظام المخزني المستبد.

في هذا اللقاء السري طرحت شخصيا، سؤالا مباشرا على الرفيق عزيز بلال، مؤطر الاجتماع السري بمنزل والدته بالرباط، يلخص في الحقيقة هواجس الرفاق الذين كانوا يشتغلون في السرية، في إطار حزب التحرر والاشتراكية ونحن في ليلة ميلاد حزب التقدم والاشتراكية، قائلا: “رفيقي العزيز، هل الحزب اليوم متأكد من نوايا الحكم بالسماح لمناضليه بالعمل في إطار المشروعية والقانونية كباقي الأحزاب الأخرى؟ وهل نثق في قرار الحكم برفع المنع عن أنشطة حزبنا بأنه صادق؟ ألا يمكن أن يكون هذا القرار مجرد خدعة سياسية من النظام، لتكون مصيدة دبرها الحكم للإيقاع بالرفاق والمناضلات بعد التعرف عليهم وعلى مواطن تواجدهم الجغرافية وأماكن عملهم وسكنهم، لإلقاء القبض عليهم لاحقا، وحظر الحزب مرة أخرى، كما فعل مع الحزب الشيوعي المغربي في نهاية خمسينيات القرن 20 ومع حزب التحرر والاشتراكية في نهاية الستينيات؟

كعادته، ابتسم الرفيق عزيز، وفي هدوء، كان رده مقنعا ومطمئنا. بل كان جوابه في غاية العمق والحكمة والرزانة وبعد النظر والتفاؤل الثوري في استشراف المستقبل. في هذا الصدد، لن أنس أبدا، عمق وصدق جوابه، وأنا واحد من ذلك الشاب اليافع المتمرد على النظام، الذين لا يثقون في وعود الحكم ومكايده ضد المناضلات والمناضلين في عهد السرية. أجاب الرفيق عزيز قائلا: إذا كان للحكم حساباته، التي لا شك فيها، فنحن أيضا لنا حساباتنا وإستراتيجيتنا كمناضلين غيورين على بلدنا وشعبنا. إن شعبنا الآن، يخوض معركة حاسمة لتحرره الوطني، ويمر بلدنا بمرحلة دقيقة وعصيبة، تستدعي تعبئة كل الطاقات البشرية الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية لاسترجاع أقاليمنا الصحراوية وتوطيدها، وهذا لن يتأتى إلا مع تعميق المسلسل الديمقراطي.

في هذا الإطار، يضيف عزيز بلال، فإن حزب التقدم والاشتراكية الذي سيخرج إلى الوجود كامتداد للتحرر والاشتراكية، يعتبر معادلة سياسية وازنة وحاسمة في المشهد السياسي المغربي، وأساسا في معركة استرجاع الصحراء الغربية المغربية. وبالتالي لا خيار ولا مفر للنظام من الاعتراف بوجوده، كقيمة مضافة في المشهد السياسي المغربي، نظرا لوزنه في الداخل، وإشعاعه الدولي في الخارج، وعلاقاته المتينة مع القوى الاشتراكية والثورية والتقدمية في العالم. وهذا يتطلب منا مع ذلك، ضرورة إقناع هذه القوى الصديقة، بعدالة قضيتنا الوطنية كمسألة تحرر وطني، ضد بقايا مستعمر غاشم محتل لجزء من أرضنا، لدعم القضية الوطنية، وقطع الطريق أمام خصوم وأعداء وحدتنا الترابية.

وأردف عزيز بلال في تحليله قائلا: إن مشكل الصحراء جد معقد إقليميا، ودوليا في ظروف حرب باردة. ومن المستحيل حل مشكل الصحراء حتى في ظرف العشر سنوات القادمة. ولذلك، لا يمكن للحكم منعنا في خضم المعركة التي نخوضها إلى جانب القوى الحية في البلاد لاسترجاع الأرض، وتوطيد الوحدة الترابية.

 ونظرا لحنكة المرحوم عزيز بلال السياسية وبعد نظره، فقد ربط بين تحرير الأرض، وتعميق المسلسل الديمقراطي، الذي أنطلق فعلا مع المسيرة الخضراء سنة 1975، وما صاحبه من انفراج سياسي تمثل في الانتخابات الجماعية سنة 1976، والتشريعية 1977، وهو مسلسل ديموقراطي يتوافق تماما مع قرار رفع المنع عن أنشطة مناضلي حزب التحرر والاشتراكية بخروجهم إلى العلنية، في إطار حزب جديد، هو التقدم والاشتراكية سنة 1974، كامتداد للتحرر والاشتراكية.

هذه الرؤية الثاقبة والصافية التي تميز بها عزيز بلال، وتفاؤله الثوري في المستقبل، تجعل منه ذلك السياسي المحنك الذي خبر السياسة، فصدقت توقعاته التي لا زلنا نعيش أطوارها إلى اليوم 2019؛ سواء تعلق الأمر بمشكلة الصحراء التي مرت عليها أزيد من 44 سنة ولم تعرف بعد، حلا نهائيا، نظرا لشراسة الخصم الجزائري والوضع الدولي، رغم انهيار جدار برلين واختفاء الحرب الباردة. كما أن مسلسل الديمقراطية، ورغم الأشواط الإيجابية التي قطعها المغرب، والوزن السياسي الذي أصبحت تحظى به الأحزاب الوطنية والتقدمية على الساحة الوطنية، ومساهمتها في تدبير الشأن العام المحلي والحكومي لمدة 20 عاما (1998-2019)، بعد أن كان عمل بعضها محظورا لعقود من الزمن، فلا زال المد والجزر يطبع المسلسل الديمقراطي .

وقد طالت مرحلة الانتقال الديمقراطي  حتى بعد الربيع الديمقراطي، وهذا، رغم المكاسب التي حققها الشعب المغربي وقواه الحية الوطنية والتقدمية والثورية في عدة ميادين ومنها، ميلاد دستور جديد 2011، كنتيجة مباشرة للربيع الديمقراطي، والذي لم تفعل معظم بنوده بما فيه الكفاية، لحد الساعة (نونبر 2019)، وكذا أهمية صدور مدونة الأسرة والطفل التي أصبحت اليوم متجاوزة، بل تظل المطالب مركزة على الحقوق الفردية والاجتماعية، ومنها أيضا المكاسب والنتائج التي أسفرت عن العمل الجاد لهيئة الإنصاف والمصالحة، وما تلاه من عفو على المناضلين المنفيين وجبر الضرر للساكنة المتضررة القاطنة في مناطق تواجد المعتقلات السرية بقلعة مكونة وأكدز ودرب الشريف بالدار البيضاء وغيرها، التي كانت مطوقة ومحاصرة لعدة سنوات….

في الواقع، كان هذا الجواب الشافي والواقعي للمرحوم عزيز بلال، ينم عن بعد نظر يفتح الآفاق الرحبة أمام المناضلين؛ فهو مناضل مؤمن بالعمل الجماهيري، متفائل بنتائجه المستقبلية. فبرؤيته الواضحة للمستقبل، قد خبر الحياة السياسية ميدانيا، وتعمق في الفكر الاشتراكي المتنور، في دينامية وجدلية مستمرة، بعيدا عن التحجر السياسي، واليأس القاتل، والعمل السياسي المزيف والمصطنع. إنه المناضل الغيور على بلده، كمنتخب بالدار البيضاء، قلعة الطبقة العاملة، وكقائد محلى وإقليمي لحزبه في الميدان، وموجه له في اللجنة المركزية، ومنفذ لقراراته في الديوان السياسي. وهو إضافة إلى هذا وذلك، المثقف الثوري الذي يعمل في أفق تحقيق المشروع المجتمعي كإستراتيجية.

  • إشعاع عزيزبلال في الميدان الفكري في حياته وبعد مماته وتعلق الباحثين به

في محور ثالث سأعطي بعض الجوانب التي تبرز إشعاعه في ميدان الفكر في حياته ومماته، وتعلق الباحثين بأفكاره الواضحة التي نشرها عبر طلبته، ورفاقه، وكل من تلقى دروسا حول فكره ومشروعه المجتمعي، للخروج من التبعية والتخلف إلى الانعتاق والتنمية، بدون المرور بكل المراحل التي مرت منها الدول المتقدمة.

أنجز الراحل أطروحة دكتوراه دولة في علم الاقتصاد حول الاستثمارات الأجنبية بالمغرب خلال فترة الحماية ومطلع الاستقلال (1912-1964)[ii]. وهو عمل جاد ورصين يظل مرجعا أساسيا لكل باحث في هذه الفترة، نظرا لعمق التحليل وشمولية الرؤيا، وإعطاء اقتراحات لتجاوز الأوضاع التي ساهم فيها الاستعمار الترابي والاقتصادي لبلادنا وشعبنا، وكذا القوى الرجعية والمحافظة التي عملت على كبح مخطط التنمية في حكومتي عبدالله إبراهيم وحكومة التناوب في عهد اليوسفي..وإلى اليوم (2019) لا تزال العراقيل وكوابح التنمية قائمة. وتحتاج البلاد إلى نفس ديمقراطي، وانتقال ديموقراطي سريع، في أفق ملكية برلمانية قائمة على دولة الحق والقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة، بعيدا عن الريع السياسي الاقتصادي والغبن الاجتماعي في غياب عدالة اجتماعية ومجالية.

يسعدني أن أشير إلى جوانب من شخصية عزيز بلال كأستاذ متميز للاقتصاد بجامعة محمد الخامس، وجامعة الحسن الثاني، ومؤثر في محيطه الجامعي والسياسي، وكيف كان يراه ويتمثله طلبته، وأصداء أفكاره في الأوساط الطلابية في الاتحاد الوطني طلبة المغرب وفي أوساط الباحثين في الاقتصاد السياسي وقضايا العالم النامي.

لقد طبع عزيز بلال عدة أجيال طلابية في أول جامعة عصرية بالمغرب بجامعة محمد الخامس بالرباط منذ 1957 ، حيث كان من الرعيل الأول المؤسس لها ولشعبة الاقتصاد، ثم جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء، رغم قصر عمره. كان طلبته معجبين بدروسه وأفكاره وتحاليله العميقة وبعد نظره، حيث صنفوه في خانة كبار علماء الاقتصاد ومنظري العالم النامي من عيار سمير أمين، ويوري بوبوف العالم السوفياتي الذي ألف معه كتابا مشتركا حول ظاهرة التخلف بالعالم النامي وسبل الانعتاق من التبعية، والتحرر الاقتصادي والاجتماعي. وقد نشر الكتاب بعد وفاة المرحوم عزيز بلال بموسكو سنة 1987، تحت عنوان: تركبة التخلف في الماضي والحاضر والمستقبل[iii].

ولذا انخرط عدد من الباحثين من تلقاء أنفسهم في صفوف الحركة التقدمية والثورية حـتى المحظورة منها، لتأثرهم بأفكار عزيز بلال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، نظرا لجاذبيتها وصدقية مؤلفها. ولا زال كتابه ” التنمية والعوامل الغير اقتصادية” يحتفظ إلى اليوم بالراهنية في معظم فقراته. وهي الخلاصة التي استخلصها عزيز بلال من عصارة أبحاثه كباحث وفاعل سياسي ونقابي وجمعوي، ربط البحث بالممارسة العملية الميدانية، قصد خدمة الصالح العام والطبقات الكادحة في بلده كجزء من البلدان النامية، باعتباره عالما دوليا يخدم القضايا العادلة في العالم والقيم الإنسانية السامية والسلم والرخاء في العالم.

في هذا الصدد فقد سررت بردود الفعل الإيجابية لطلبتنا بجامعة محمد الخامس حول الخلاصات الخمس الواردة في مؤلف عزيز بلال حول إشكالية التخلف وسبيل التخلص منه، وهو الدرس الذي كلفت بإلقائه بمدرج إبن خلدون بكلية الآداب شعبة الجغرافيا جامعة محمد الخامس بالرباط في مادة “جغرافية التخلف” (1984-1989). وقد عوضت عنوان الدرس بعنوان متفائل هو: “قضايا التنمية في البلدان النامية”. وخصصت محورا أساسيا لفكر عزيز بلال حول قضايا التنمية في البلدان النامية. وفي كل لقاء مع بعض خريجي تلك الأفواج، أول ما يتذكرونه حين اللقاء بهم، هو فكر عزيز بلال وخلاصاته الأساسية حول التخلف وسبل التنمية، من خلال ذلك الدرس الذي يفتخرون به كقاعدة لتكوينهم الجامعي، ومنهم أساتذة جامعيون (حاليا بجامعة الأخوين وجامعات مغربية..)، وأطر إدارية عليا، وأطر سلطة (رؤساء دوائر وعمال وولاة). ونحيي مركز عزيز بلال الذي هو بصدد تعريب الكتاب ونشره قريبا، ليطلع عليه قراء اللغة العربية بالمغرب وبالعالم العربي والإسلامي.

رغم اختفائه الجسدي عنا، يظل المرحوم عزيز بلال رمزا للتضحية، والاستماتة في الدفاع عن الوطن في جدلية النضال من اجل تعميق الديمقراطي ة والتضامن مع الكادحين. ويظل منارة للوطن والمثقف الملتزم وفخرا لقوى الحرية والتغيير، حتى أن عددا من المثقفين كانوا يصفون الحزب الذي ينتمي إليه، ب”حزب عزيز بلال”. وهو ما جعلنا في قيادة الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية ((JMPS (الشبيبة الاشتراكية حاليا) ، في أول مكتب وطني لها، نؤسس منظمة الطلائع في مطلع الثمانينات، أطلقنا عليها إسم عزيز بلال، تيمنا بهذا المناضل الفذ، ليكون الجيل الجديد أحسن خلف لخير سلف: “منظمة الطلائع، أطفال المغرب – عزيز بلال”.

كما أن محبي فكر عزيز بلال في أوساط المثقفين لم يترددوا في تأسيس مركز علمي للبحث يحمل إسمه: “مركز عزيز بلال للدراسات والأبحاث” (CERAB) حيث يسهر على تطوير أفكاره باحثون، في مقدمتهم من تتلمذوا عليه في مدرجات كلية الحقوق، بجامعة محمد الخامس بالرباط، ولاحقا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أو من التحقوا بهم؛ وهم ويعملون جادين على تطوير نظريته التنموية.

وقد حاولنا كمستشارين منتخبين، باسم الحزب الذي كان ينتمي إليه، في جماعة أكدال الرياض (2003-2009) اقتراح تسمية أحد شوارع العاصمة باسم عزيز بلال. ولكن السلطات لم تستجب لهذا الطلب، كتكريم لزعيم سياسي وأستاذ جامعي جليل، وتشريف للعاصمة بإسم هذا المناضل الوطني الدولي الذائع الصيت.

خلاصة عامة

كان المرحوم عزيز بلال مناضلا ورمزا من رموز الحركة الوطنية والتقدمية والثورية المغربية، صلبا ضد الرجعية المحلية، والامبريالية بدون هوادة، حتى ولو كلفه ذلك التضحية بروحه الطاهرة، وهو في بداية عقده الخامس، في عز عطائه السياسي، والثقافي والفكري التقدمي، حين اختنق بغرفته في فندق بقلعة الإمبريالية في ظروف غامضة، والتي سيكشف التاريخ عن كل الحقيقة، آجلا أم عاجلا، وهو يؤدي واجبه كمواطن منتخب، كان يمثل مدينة الدار البيضاء ضمن الوفد المغربي بمدينة شيكاكو. ومما يدعو إلى الاستغراب هو أن كل مرافقيه من أعضاء الوفد المغربي رجع سالما إلى البلد، باستثناء عزيز بلال. وبذلك يعتبر فقدانه خسارة كبرى لحزبه وطلبته وعائلته و بلده وشعبه، وبلدان العالم النامي التي سخر خبرته لخدمة شعوبها السائرة في طريق النمو.

رحم الله شهيد الوطن والجامعة المغربية عبد العزيز بلال. ودام فكره وروحه ونضاله قدوة لنا وللأجيال الصاعدة.

الرباط في 22 أكتوبر 2019

* أستاذ فخري – جامعة محمد الخامس.Professeur Emérite

الكاتب العام لمركز الدرسات والأبحاث عزيز بلال (CERAB)

 هوامش

1 Abdel Aziz  BELAL, 1980, Développement et facteurs non économiques, SMER, Rabat.

2 Abdel Aziz BELAL, 1968, L’investissement au Maroc (1912-1964) et ses enseignements en matière de développement économique, Paris, Mouton.

3 Abdel Aziz  BELAL, Youri POPOV, 1987, La formation du sous-développement, passé, présent, futur, Edition du Progrès (Manuel des sciences sociales), Moscou.

بقلم موسى كرزازي

Related posts

Top