عمى الأرقام…

من حق الحكومة أن تنتشي بحيازتها أغلبية عددية في المؤسسة التشريعية تتيح لها تمرير كل قراراتها وبرامجها، ومن حقها أن تفرح بالأرقام وتسير من دون أي مبالاة بمن يعارضها، ما دام لن يكون مؤثرا خلال التصويت، ولكن هذه الأنانية الرقمية لا تصلح دائما عندما يتعلق الأمر بعمل سياسي وبتدبير شؤون مجتمع وشعب، وإنما يمكن أن تقود إلى مآلات عكسية ومقلوبة.
عندما ترفع الحكومة الحالية شعارا كبيرا لا علاقة له إطلاقا بهويتها السياسية ومرجعيات مكوناتها، وهو المتعلق بـ»الدولة الاجتماعية»، وتغذي انتظارات الناس وتطلعاتهم بـ»النموذج التنموي الجديد»، ثم تصدم الجميع بتصريح حكومي وقانون مالي وقرارات أخرى توجد على النقيض من أبسط دلالات معنى «الدولة الاجتماعية»، فهذا يجسد سقطة صارخة وفاضحة، ويصير معها غضب المواطنات والمواطنين مفهوما ومبررا.
إن عدم الاقتراب من الإصلاحات الهيكلية والجوهرية، ومن أولويات شعبنا ذات الصِّلة بواقعه ومستقبله الاجتماعي، والاكتفاء، بدل ذلك، بالمداخل الجزئية، أو بحماية مصالح اللوبيات المختلفة، أو الإصرار على تفكير ليبرالي كلاسيكي ومتكلس في تفاصيل التدبير المالي العمومي، كل هذا يعني أننا أمام حكومة غير منصتة، وهي أيضا سقطت في القدرة على التقاط نبض المجتمع والتجاوب مع انتظاراته، والأخطر أنها لا تستحضر كل السياقات المجتمعية، ولا تبالي بأي أثر سلبي يمكن أن ينجم عن سياساتها وقراراتها.
لقد أبرز العديدون تجليات السقطة عند استعراض تفاصيل القانون المالي مثلا، وفِي قرار تسقيف سن الولوج إلى مباريات مهن التعليم، وفِي خطوات أخرى غيرها.
يتعلق الأمر هنا بقرارات وتوجهات معلنة وجرى تنزيلها فعلا، ويتعلق أيضا بسلوكات وطرق عمل صارت عليها الحكومة منذ تعيينها، وهو ما لم يعد رفضه اليوم منحصرا فقط داخل قوى المعارضة أو في احتجاجات الشارع، وإنما بات ملموسا كذلك حتى وسط بعض مكونات أحزاب الأغلبية ذاتها (قيادات حزبية وبرلمانيين…)، والتي لم تعد تخفي حنقها وعدم اتفاقها.
الحكومة، مع ذلك، لا تنظر سوى في الأغلبية الواسعة التي جنتها من انتخابات ثامن شتنبر، وفِي أرقام وأعداد مؤيديها ومساندي سياساتها داخل غرفتي البرلمان، ولكن دون أن تمتلك أي قدرة للكلام مع الشعب المغربي والسعي لإقناعه بقراراتها، ولم تر أي ضرورة للانفتاح على المعارضة أو على ممثلي الأوساط المهنية والنقابية والجمعوية المعنية بالقرارات التي تثير اليوم غضب الشارع، وهنا تبرز خطورة غياب السياسة.
لا يمكن تدبير شؤون دولة وشعب من دون سياسة، ومن دون قدرة على استيعاب تفاصيل السياقات المجتمعية والتقاط كل الإشارات للبناء عليها، ولا يمكن أيضا الاستمرار في الإنصات للأنانية الرقمية والانتشاء بالأغلبية البرلمانية الواسعة وحدها، فهذه الأحادية تكون في الغالب عمياء، وتقود نحو كل المخاطر.
البلاد تحيا سياقات صعبة في أكثر من مجال، ولشعبنا كثير انتظارات وصعوبات، ومن مسؤولية أي حكومة عاقلة أن تستحضر كل ذلك، وأن تفهم المآلات كلها، وأن تفكر أولا في إشارات الاطمئنان وفتح آفاق التفاؤل، وليس في إشعال الحرائق.
أنانية الأرقام قد تكون عمياء أيضا…

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

الوسوم ,

Related posts

Top