عن الانتخابات التركية…

منحت الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة بتركيا، أول أمس الأحد، الفوز للرئيس المنتهية ولايته رجب طيب أوردوغان، واختارته رئيسا للبلاد إلى غاية 2028، وذلك على حساب مرشح المعارضة وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، وبات العالم اليوم يتطلع لمعرفة ملامح الأوردوغانية الجديدة، وكيف ستكون تركيا، خصوصا في محيطها الإقليمي والدولي، خلال الولاية الجديدة لزعيم حزب العدالة والتنمية.
فوز أوردوغان توقعه الكثيرون منذ البداية، ولكن ذلك لم يمنع من تمديد الاقتراع إلى جولة ثانية لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية، ولم يحل دون أن يحصد مرشح المعارضة نسبة تصويت لافتة للانتباه.
الملاحظة الأساسية التي سجلها كل المتابعين للانتخابات التركية أنها مرت في أجواء عادية وسلمية، ولم تتخللها أي مشاكل أمنية أو غيرها، وقبلت مختلف الأطراف بمجريات اللعبة الديمقراطية ونتائجها.
أما الملاحظة الثانية فتبرز في كثافة الإقبال على صناديق الاقتراع من طرف المواطنات والمواطنين بمختلف جهات البلاد ومن كل فئات السكان، وحتى في جولة الإعادة لم تضعف هذه الإرادة الشعبية، وبقي مستوى التصويت كثيفا وعاليا.
ورغم ما يعرف في تركيا من ممارسات وظواهر سلبية، فلا أحد سجل وجود أي إخلال بإرادة الناخبين، كما أن تداعيات الزلزال الأخير الذي شهدته عديد مناطق بتركيا، والمعاناة الاجتماعية التي يرزح تحتها السكان، وتفاقم مستويات التضخم والتراجع المهول لقيمة الليرة التركية…، كل هذا لم يجعل الأتراك يتبرمون من الذهاب إلى مراكز التصويت، بل إنهم قاموا بعكس ذلك وأقبلوا على صناديق الاقتراع بكثافة مثيرة.
وتجسدت الملاحظة الثالثة في كون فوز أردوغان واستمراره في دواليب المسؤوليات المختلفة منذ أزيد من عقدين متتاليين لا يعود فقط لكاريزميته وقوة شخصيته وطبيعة مساره السياسي والتدبيري، ولكن أيضا لكونه نجح في بناء آلة حزبية محكمة تسنده، ذلك أن التنظيم الحزبي للعدالة والتنمية التركي وتمتين بعض التحالفات حواليه خلال الاستحقاقات الانتخابية، منح لأوردوغان ماكينة تنظيمية وسياسية وميدانية وانتخابية كان من الصعب هزمها، على الأقل في الفترة الحالية.
ويمكن استنباط الملاحظة الرابعة من مجريات الحملات الانتخابية وصراع التحالفين المتنافسين، ذلك أن تبني بعض شعارات اليمين المتطرف والتهجم على اللاجئين، وخصوصا السوريين، والترويج لخطاب قومي انغلاقي وعنصري، كل هذا لم ينفع من روجه، ولكن، في المقابل، منح زخما إضافيا لخطاب آخر في المقابل، وهو الذي يقوم على تمجيد التاريخ الإمبراطوري للدولة واستعادة الحديث عن قوة الدولة العثمانية، وبالتالي الطرفان السياسيان المتصارعان ارتميا معا في حضن التاريخ والهوية والقومية، لكن بمداخل متباينة، وكانت النتيجة انتشار الخوف من المستقبل، ومن التغيير، وسط اللاجئين، ووسط فئات أخرى في المجتمع، ودفع الأمر الناخبين إلى اختيار «الاستقرار» مع أوردوغان، بدل تجريب المجهول مع تحالف منافس متعدد المكونات، وليس واضحا كيف سيكون انسجامه، وكيف سيتم تصريف مواقفه وشعاراته على أرض الواقع في سياقات داخلية وإقليمية ودولية صعبة ومعقدة.
النتيجة التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية التركية ستكون لها، بدون شك، تداعيات داخلية، ذلك أنها ستعزز هيمنة أوردوغان وحزبه على مختلف مفاصل ومؤسسات البلاد، كما أن تغييرات واهتزازات سيشهدها بنيان التحالف المعارض، ويتوقع مراقبون أن تضع هذه النتيجة حدا للمسار السياسي للمرشح الذي خسر جولة الإعادة ضد أوردوغان، ولكن، مع ذلك، يجب التأكيد على أن الاقتراع الرئاسي بتركيا لأول مرة يصل إلى جولة ثانية قبل حسمه، وبالتالي لأول مرة بدت للكثيرين إمكانية هزم حزب العدالة والتنمية ومرشحه عبر صناديق الاقتراع، وهو ما أشرت عليه أيضا النتيجة النهائية المسجلة، وكل هذا ستكون له، من المؤكد، امتدادات في المستقبل على الصعيد السياسي الداخلي.
في السياق نفسه، سيكون الوضع الاقتصادي وإعمار مناطق الزلزال والتخفيف من حدة التضخم وإنقاذ العملة الوطنية وتحسين ظروف عيش الناس من أهم الملفات التي يجب على أوردوغان الانكباب عليها في ولايته الجديدة.
ولن تكون تعقيدات السياسة الخارجية، بدورها، بعيدة عن التحديات المطروحة على الرئاسة التركية وهي تلج بالبلاد مئويتها الثانية، ذلك أن أزمات منطقة الشرق الأوسط بالخصوص والعلاقة مع البلدان الخليجية، وبؤر التدخل والحضور التركيين ستكون كلها واجهات انتظار مواقف وتغييرات أوردوغان، علاوة على العلاقة مع واشنطن والغرب والاتحاد الأوروبي والتموقع في تطورات وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وهي كلها مشكلات جوهرية تنتج اليوم عديد أسئلة في الأوساط الإقليمية والدولية، ويتطلع الجميع لمعرفة توجهات تركيا في المرحلة المقبلة على الأصعدة الديبلوماسية والسياسية والإستراتيجية والاقتصادية وغيرها.
الناخبون الأتراك اختاروا إذن رئيسهم المحافظ ومنحوه ولاية ثالثة لخمس سنوات قادمة، ولم يصوتوا لمنافسه مرشح حزب أتاتورك، وفي حين يتطلع الشعب لحل عديد مشكلات اقتصادية واجتماعية وأمنية داخلية وتعزيز تقدم بلاده، فإن المجتمع الدولي لا يزال متوجسا وحذرا في الاطمئنان لمستقبل العلاقة مع أوردوغان، ويتطلع لمعرفة توجهاته واختياراته في الولاية الجديدة.

محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top