عن ربط جسور التآلف بين ما هو أدبي وسينمائي في المغرب

واثقا يعمل الأدب في بناء ذوق الأمة. فبقدر ما نتحدث عن الحضارة والبناء الحضاري، بقدر ما يستوجب تربية الشعور والإحساس بالمسؤولية الفردية والجماعية. فعندما نلاحظ ما وصلت إليه السينما والمسلسلات التلفزيونية في مصر، فإننا ندرك حجم الدور الذي يلعبه الإبداع الروائي والقصصي والمسرحي، في تربية المشاهد على الإمتاع الفني والأخلاقي والقيمي أيضا.
فمن هذا المنطلق، يعزى نجاح السينما المصرية بالخصوص، إلى نقل معظم الأعمال الروائية لكبار المبدعين إلى السينما. وكان لنجيب محفوظ في ذلك، حصة الأسد؛ انطلاقا من روايته «بداية ونهاية» إلى جانب «اللص والكلاب» مع سعيد مهران، وصولا إلى «ميرامار» و«خان الخليلي» و«قصر الشوق»؛ لينضاف عشاق السينما إلى عشاق الرواية، فأصبح اسم نجيب محفوظ يحلق عاليا، كعـُقاب كاسر، في سماء مصر والعالم العربي.
في المغرب قليلة هي الأعمال الروائية، التي انتقلت إلى السينما، وبذلك كان التفاعل بين الوسطين تقريبا منعدما. وإن كانت هناك محاولات فجة لرأب هذا الصدع، إلا أن تنسيق الجهود بين المركز السينمائي المغربي واتحاد كتاب المغرب حال دون نجاحها؛ ليظل المجال مفتوحا على الفجاجة اللغوية واللفظية بين المكتوب الأدبي والبصري السمعي السينمائي. سياقيا، لا بد أن تكون هناك استثناءات فسيفسائية، لم تستطع أن تضع القطار على سكته الحقيقية، رغم الجهود التي بُذلت في هذا الباب، وفي مقدمتها السيرة السجنية لجواد مديدش «الغرفة السوداء»، التي حولها المخرج حسن بنجلون إلى فيلم سينمائي، بالإضافة إلى رواية الطاهر بن جلون «ليلة القدر»، وكذلك رواية «رحيل البحر» لمحمد عز الدين التازي؛ ناهيك عن بعض القصص والروايات ذات البعد التاريخي كرواية «جارات أبي موسى» للوزير أحمد التوفيق، علاوة على قصة «بامو» للقاص أحمد زيادي، الذي ربط فيها بين القصة والسياق التاريخي، من خلال الحركة الوطنية المغربية. فضلا عن اعتماده في كتابه «تاريخ الوطنية المغربية من القصة القصيرة»، على كثير من الكتاب المغاربة في مقدمتهم محمد حصار وعبد الحفيظ العلوي، مصطفى الغرباوي، محمد الزيزي، التهامي الوزاني وغيرهم، الذين بصموا المشهد الثقافي المغربي بالعديد من القصص ذات البعد الوطني؛ تنتظر الغزو، حسب تعبير باشلار، من لدن المخرجين السينمائيين الشباب، كي يضربوا عصفورين بحجر واحد.
ومن بين أهم القضايا المصيرية، التي أثارها الباحث أحمد زيادي في كتابه السابق، نجد: مقاومة الظهير البربري، تجربة الاعتقال والسجن والتعذيب، المقاومة المسلحة، بما هي قضايا ذات أهمية قصوى في بناء المتخيل، وربط الناشئة بتاريخ، يجدد الاعتزاز والفخر بالانتماء للوطن. بيد أن الفكرة، التي يتمترس خلفها جل النقاد والمخرجين السينمائيين المغاربة الجدد، تفيد بأن الروائيين لا ينسجون أحداثا مطواعة للتشخيص السينمائي، وإنما يسعون وراء تنميق لغوي لا غير. إن المتخيل السينمائي، في نظر المهتمين والباحثين، أرحب وأوسع من نظيره الروائي، وذلك لتوفر عالم السينما على وسائط غنية تتجاوز به البعد اللغوي، الذي تقتصر عليه الرواية. بالموازاة مع ذلك، تأتي المؤثرات، الصوتية والموسيقية والتشكيلية، بالإضافة إلى ما يتعلق بالإضاءة، في مرحلة متقدمة، للتعبير عن أحداث ووقائعَ تغني المشهد السينمائي؛ وبذلك تتعدد وسائط التعبير عند المخرجين السينمائيين، للسفر من عالم الرواية إلى عالم الفيلم السينمائي.
في المجموعة القصصية «الهواء الجديد» لمحمد زنيبر، الذي أصدر الطبعة الأولى سنة 1971 نجد مادة دسمة في تاريخ مغرب قبل الحماية، على اعتبار أن الكاتب كان من أحد رواد التأريخ في المغرب.
وقد كان من الأجدر أن تأخذ مثل هذه القصص التاريخية، التي لها سند معرفي ومرجعي، طريقا إلى الفن السينمائي ولم لا التلفزيوني أيضا. ففي «الهواء الجديد»، التي أعيد طبعها أربع مرات، نظرا لأهميتها في بناء وعي جديد بالانتماء التاريخي للوطن، نجد قصة مطولة عنونها محمد زنيبر بـ«اليد على الحلقوم»، التي جاء في افتتاحيتها ما يلي: «كان ذلك في أيام «السيبة» قبل مجيء الفرنسيس إلى هذه البلاد بعدة سنوات». إن التأطير الزمني، عند محمد زنيبر، لبنة أساسية في سرد وقائعَ وأحداث.
تحكي قصة «اليد على الحلقوم» عن صراع دموي، في المغرب، بين قواد ما قبل الاستعمار، حيث لا يخلو التاريخ المغربي من هذه الظاهرة، بما أنها هيمنت على الإبداع، واحتلت بذلك، حيزا مهما في الذاكرة التاريخية والشعبية للمغاربة.
ويظل الأدب منبعا ثرا للحضور السمعي البصري، وربط جسور التآلف بينما ما هو أدبي وسينمائي، يكون لبنة أساسية في بناء وعي عميق بالانتماء الحضاري، وتأسيس هوية ثقافية منيعة تخلق أواصر الألفة مع الموروث الثقافي والقيمي. ففي «اليد على الحلقوم»، القصة المطولة التي سردت خطوطها العريضة، نباشر عملية المرور السلس إلى عالم التمثيل بمختلف وسائطه، مادامت الحكاية تتوفر على شروط التشخيص والتمثيل، علاوة على توفرها على الصراع، الذي يذكي الفعل الدرامي، فضلا عن وجود شخوص، من وحي الواقع المغربي، ساهمت في بلورة الأحداث، كي تصل إلى العقدة، بعد ذلك تنحدر شديدا نحو الحل.
وبهذا يكون المرور آمنا من الخطاب اللغوي إلى الخطاب السينمائي، محافظين على رأس مال الهوية الثقافية، ومساهمين في وعي تاريخي يتجدد مع الزمن.

رشيد سكري
كاتب صحافي

Related posts

Top