فاطمة كرمون.. قصة نجاح أغصنت وامتدت بجبال تطوان

فاطمة كرمون؛ اليوم؛ هي رئيسة تعاونية للمنتوجات الفلاحية الطبيعية تشتغل على تثمين الأعشاب الطبية والعطرية؛ وتشرف على فريق عمل يفوق 30 منخرطة وعاملة؛ مثلت منطقة تطوان؛ وشمال المغرب؛ في العشرات من المعارض واللقاءات الوطنية والدولية؛ تتحرك بحيوية فائقة وبدون كلل؛ ولا تجد حرجا في تقاسم العمل الميداني مع زميلاتها داخل الضيعات أو وحدة الإنتاج؛ لم يكن عيشها ودراستها بالمدينة عائقا أمام اندماجها السريع في عالم الفلاحة واكتساب مهارات معرفية وتدبيرية أغنت مسارها المهني والشخصي.
فاطمة التي رأت النور؛ ذات يوم من سنة 1986؛ بدوار “تيليامين” بجماعة “تزروت” إقليم العرائش؛ تتنفس عبق “الجماعة والتعاون” وتشعرك بذلك حتى في أحلامها وطموحاتها؛ وأنت تتحدث إليها أو تتواصل معها؛ لا يمكن أن تسمع في قاموسها غير ضمير المتكلم بصيغة الجمع المؤنث؛ ليس تعظيما للذات وإنما نيابة عن نساء التعاونية ببادية “مشروحة” وعن كل القرويات بأَرْبَاض مدينة تطوان.
بعد التخرج من الجامعة سنة 2010 رفضت فاطمة الانضمام إلى طوابير المعطلين؛ وفي خضم البحث عن بناء مسارها المهني قادتها الصدف سنة 2012 للعمل التعاوني؛ وبعد تجربة حافلة بالنجاح مضت سنة 2016 إلى حقول “مشروحة” لغرس فسيلتها الأولى في الحياة؛ وكأن القدر اختار لها هذا الجبل مقاما وزاوية “عبادة” مع “مريداتها من الفقيرات”؛ وفي هذا “المقام العلي” تبدو لها كل نوافذ الأمل مشرعة؛ وأن الزمن أعاد لها جزءا من شريط حياتها بمسقط رأسها الذي كان قرب مرقد الولي الصالح مولاي عبد السلام بن مشيش.
روح فاطمة كرمون انجذبت بسرعة فائقة نحو بريق الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؛ وتحولت تجربتها في العمل إلى قصة نجاح وريادة في عالم القطاع الثالث؛ ومع “أغصان” سعت إلى استعادة جزء من حدائق ابنة غرناطة على أنقاض مقلع مهجور؛ وحلمها هو أن تتمكن من إدماج أكبر عدد ممكن من النساء القرويات في عملية التنمية؛ وتمكينهن من مصدر دخل يضمن لهن الكرامة والكفاف من الرزق عوض احتراف دكة الانتظار.

طالبة رفضت الانضمام إلى طوابير المعطلين

بعد مسار دراسي جاد بكلية الحقوق؛ جامعة عبد المالك السعدي بتطوان؛ تَوَّجَته بالحصول على الإجازة في القانون العام؛ لَمْ تَشأْ فاطمة كرمون أن تنضم إلى طوابير البطالة أو انتظار الاستفادة من الوظيفة العمومية؛ وما ستجود به المباريات من مناصب شغل ضئيلة؛ بل راحت تبحث لنفسها عن مسار مهني في القطاع الخاص؛ ودعمت تكوينها الأصلي بتعلم مهارات جديدة وغدت صاحبة تجربة مهنية غنية وأضحت ذات كفاءة عالية في عالم التجارة والتسويق وكذا التدبير الإداري والمالي التعاونيات.
مباشرة بعد التخرج اتجهت فاطمة كرمون سنة 2012 للعمل مع إحدى التعاونيات بمنطقة تطوان؛ في البداية الصدف وحدها هي التي قادتها إلى العمل كمكلفة بتسيير إحدى نقط البيع والتسويق؛ غير أنه تمكنت في وقت وجيز من تطوير مختلف أنشطة هذه التعاونية؛ وحققت نماء في إيراداتها المالية بفعل حسن التدبير والضبط الذي نهجته؛ بل استطاعت أن ترسم لدى الزبناء؛ بمهارة وسرعة فائقتين؛ معالم هوية جديدة للعمل التعاوني بالمنطقة؛ وبصمت مقابل ذلك على مسار مهني استثنائي ومتميز.

هنا أثارت انتباه مسؤوليها في العمل وكسبت ثقتهم بإبداعها وصرامتها وحيويتها؛ أربع سنوات كانت كافية لتنغمس فاطمة وبلذة صوفية في عالم التعاونيات وتسويق المنتوجات المحلية؛ واكتسبت في تبادل وثيق مع زميلاتها وزملائها خلال مهارات مهمة؛ سواء على مستوى التدبير والتسيير؛ أو على مستوى إدارة فرق العمل؛ وهو ما جعل بعض مشغيليها يتوسمون فيها المزيد من العطاء وغدت بالنسبة لهم فأل خير؛ واقترحوا عليها أن تتولى مهمة الإشراف على عملية تأسيس تعاونية جديدة في مجال تثمين النباتات الطبية والعطرية.
رئيسها في العمل سابقا وزميلها في تجربة العمل التعاوني؛ محمد رشيد الحاكي؛ يقول إن روح فاطمة كرمون انجذبت بسرعة فائقة نحو بريق الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؛ ومع مرور الوقت بدأت تتأكد أن الصدف قادتها مهنيا إلى ما ترتاح إليه نفسها وروحها؛ وأن هذه الصدف حملتها إلى أبهى تجلي لقيم التعاون والتضامن وأدمجتها في “أجمل” قطاعات الاقتصاد؛ واقتنعت أن هذا القطاع هو طريقها نحو التعير الشخصي والجماعي؛ واستهوتها بشكل فلسفة العمل التعاوني بمبادئه وأهدافه؛ ولمست الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا القطاع في التنمية المستدامة.

غرست فسيلتها الأولى في موقع إيكولوجي ساحر ومضت إلى الحقول

سنة 2016؛ أَفْسَلَت فاطمة فسيلتها الأولى بجبال “مشروحة” بجماعة الزيتون؛ وراحت ترعاها باهتمام كبير؛ حتى أغْصَنَت جهودها في حقول العمل التعاوني وأزهرت بالإعلان عن ميلاد “مقاولة اجتماعية” جديدة بإقليم تطوان؛ وذلك بعد أن أقدمت بمعية نساء الدوار على تأسيس تعاونية اختارت لها من الأسماء “أغصان تطوان” جاعلة من تثمين النباتات الطبية والعطرية؛ التي تغطي جبال هذا الدوار وكل المناطق المحاذية له؛ النشاط الرئيس لها.
في موقع إيكولوجي ساحر ومتميز؛ وفضاء طبيعي غني بتنوعه الغابوي والنباتي؛ وغير بعيد عن برك وشلالات “عين الزرقا” بجبل “غورغيز” وبالضبط بدوار “مشروحة” بجماعة الزيتون؛ حوالي 20 كلم عن مدينة تطوان؛ أسفل الموقع الأثري “كهف تحت الغار” الذي اكتشفه سنة 1956 فريق بحث بقيادة الباحث الاسباني “لويس ميكيل دي طاراديلا” المتواجد على ارتفاع يقدر بحوالي 410 متر فوق مستوى سطح البحر؛ أقول في هذا الفضاء البهي اختارت فاطمة و”مريداتها من الفقيرات” زاوية عبادتهن.
في هذا الموقع تمكنت فاطمة وفريق من النساء المتعاونات من “تثبيت” تجربة جديدة من العمل التعاوني بإقليم تطوان؛ ووضعت اللبنات الأولى لبناء مقر التعاونية للاشتغال إلى جانب نساء الدوار؛ غير أبهة بقطع العشرات من الكليومترات يوميا على طريق قروية وسط الجبال والغابات والمروج والكهوف؛ بل وأنت تقطع معها هذه المسافة لا يمكن أن تشعرك إلا بحيوية زائدة وأنها سيدة الحقول بامتياز؛ لا ينال منها التعب أو الضجر مهما بلغ؛ بالعكس هي تزداد حماسة في حضن هؤلاء النساء القرويات؛ عندئذ تبدو لها نوافذ الأمل مشرعة من أعلى “مقام”.

فاطمة كرمون تضبط إيقاع سرعتها حسب المسافات

دماغ هذه الشابة يشتغل في كل الأوقات؛ ليل نهار؛ فحتى عندما تأوي إلى النوم في وقت متأخر من الليل ولساعات جد قليلة لا تستسلم للراحة؛ فحينما تلجئ في جوف الليل إلى ركنها القصي من بيت أسرتها بحومة “ديور المخزن”؛ تشرع فاطمة في التخطيط ورسم المعالم الكبرى لبرنامج العمل؛ آملة في غد أفضل لنساء بادية “مشروحة” اللواتي لم يكن لأغلبهن أي مصدر دخل قبل تأسيس هذه التعاونية؛ وبنفس الحيوية والمثابرة طرقت أبواب المؤسسات العمومية؛ باحثة عن الشركاء ومصادر التمويل والدعم؛ غير مكترثة بصعوبات البداية؛ فهي تؤمن بأن لكل مسافة سرعتها المطلوبة.
فاطمة كرمون لا يهمها أن تتأخر أو تتعثر في الطريق؛ لأن الأهم بالنسبة لها هو أن تصل إلى الوجهة المطلوبة؛ ووفق هذه الرؤية والفلسفة في الحياة بدأ حلم “الجماعة” يتحقق؛ وتأكد لهن أن ثمة ضوء بدأ ينبلج في أخر النفق؛ وثمة شعاع أصبح يضيء غابات وكهوف “مشروحة” خاصة عندما تدخلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لاحتضان الفكرة؛ وكان هذا التدخل بالنسبة لهن؛ بمثابة يد أرسلتها العناية الإلهية وامتدت إليهن في هذا “المقام العلي” لتجعل الأحلام واقعا والأماني ممكنة التحقق بالعمل الجاد والابتكار والإبداع.
“المبادرة” دشنت مع هؤلاء النساء القرويات مرحلة جديدة من مسارهن العملي داخل هذه التعاونية؛ في هذه الأثناء تمكنت “أغصان تطوان” من عقد اتفاقية شراكة تتضمن الدعم والتمويل مع شركاء ومتدخلين آخرين؛ والنتيجة هي ضيعات لتثمين النباتات العطرية والطبية؛ ووحدة للتجفيف والتقطير والتعبئة ساهمت فيها وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات ببناء المقر واقتناء الآليات وتجهيزات السقي بالتنقيط؛ وهو ما مكن من توفير فرص عمل مهمة للنساء؛ منها مناصب قارة وأخرى موسمية؛ وساهمت بشكل واضح من تحسين دخلهن وتسهيل إدماجهن الاقتصادي والاجتماعي.

تجربة “أغصان” سعي لاستعادة جزء من حدائق ابنة غرناطة…

اختيار تعاونية “أغصان تطوان” لمنطقة “مشروحة” كمقر لها لم يكن بالصدفة؛ بل خضع لدراسة وانتقاء بعناية فائقة؛ وكان ضمن رؤية استراتيجية لا يمكن أن يخطئها الفهم والإدراك السليم؛ فحين تسلك الطريق إلى هناك ستدرك أنك وسط مسار سياحي متكامل ومندمج؛ وأنك ضمن مدار متميز بالفعل؛ لا يجمع فقط بين السياحة الجبلية البيئية؛ والسياحة الثقافية أو الإستغوار وتسلق الجبال؛ وإنما أيضا يشمل ضيعات يمكن أن تشكل مستقبلا فضاءات ايكولوجية وبيداوجية مهمة؛ ووجهة للتلاميذ والطلبة الباحثين؛ وقبلة لمحبي هذا النوع من السياحة التضامنية والمستدامة.
التعاونية تمكنت؛ وتحت إشراف فاطمة كرمون؛ من خلق فضاء خدمات واستقبال خاص للزبناء وزوار المنطقة على شكل مطعم ومقهى يقدمان الوصفات الطبيعية المحلية؛ ورغم ذلك فالخيط الناظم لأحلام “جماعة فاطمة” لا نهاية له؛ حيث تتجه وفريقها بخطى ثابتة نحو خلق مآوي سياحية بالقرب من مقر التعاونية ووحدة الإنتاج؛ ففي هذه الضيعات العابقة يتم تدريجيا ومنذ سنوات استكمال بناء إقامات سياحية تأوي الباحثين عن الطبيعة والهدوء؛ ومساكن يلوذ إليها الحالمون بسياحة متضامنة تحترم البيئة والطبيعة وثقافة الساكنة المحلية.


اشتغال فاطمة لا يسع له فضاء واحد أو ضيق؛ فهي لا تكف عن الحركة والتنقل؛ وتشبه في نظر فريقها ملكة نحل أو “أم الطائفة” تتحرك في جميع الاتجاهات التي من الممكن أن تفيد مملكة العسل؛ والكثير ممن يعرف هذه الشابة يقول أن عزمها قائم على تأسيس “خلية مجتمع جديد” في هذا الفضاء الجبلي الذي كاد أن يتحول إلى أرض خلاء؛ فهي تطمح إلى توقيع شهادة ميلاد منتجع سياحي ايكولوجي وتضامني من شأنه أن يحول مقلع مهجور إلى حدائق مزدانة بالنباتات والأشجار المتنوعة والمختلفة، وتستعيد ولو جزءا بسيطا من معالم الحدائق الغناء التي كانت معروفة في تطوان “ابنة غرناطة”/ “الحمامة البيضاء”.
ودائما داخل هذا الفضاء المتنوع والزاخر؛ وعلى بساط هذه الأرض الهادرة؛ وفي إطار تثمين النباتات العطرية والطبية لم تكتف تعاونية “أغصان تطوان” بالاشتغال فقط على النبتات المحلية والأصيلة بالمنطقة؛ بل أقدمت؛ وبمعية فريق من الباحثين والخبراء وسواعد تشتغل ليل نهار؛ على تجربة جديدة وجد مهمة تتعلق باستنبات مجموعة من النباتات كالزعفران الذي لم يكن معروفا نهائيا بالمنطقة؛ والنتيجة الأولية -حسب أعضاء التعاونية – كانت مذهلة؛ وعطاء هذه الضيعات التجريبية فاق كل توقعات البحث والتشخيص الأولي.

حلم تحول إلى قصة نجاح وريادة في عالم الاقتصاد التضامني

بعد ست سنوات من العمل الجاد؛ استطاعت التعاونية أن تبصم على مسار إنتاج وافر؛ وأن تحتل مكانة متميزة في سوق المنتجات المجالية؛ وشاركت بالعشرات من أنواع هذه المنتوجات في العديد من اللقاءات والمعارض الوطنية والدولية؛ ومن بينها معرض أبو ظبي الدولي للتغذية خلال السنة المنصرمة؛ والذي أتاح لهن -تقول فاطمة- ليس فقط فرصة للتسويق؛ وإنما أيضا ملامسة عشق الأخر لكل ما هو “صنع في المغرب” ومنشأه الجغرافي بلد اسمه “المغرب” وفي هذه المعارض عرفت مدى الهيام الذيي يسري في قلوب العالم نحو كل منتوج “مغربي”.
فاطمة بعزيمتها التي لا تلين؛ تحاول أن تقدم كل ما يرضي ساكنة العالم القروي؛ وبالخصوص النساء؛ ويفتح لهن آفاقا واعدة؛ فحبها للأرض يفوق الهيام؛ وتعتبر أن الأرض والسماء هما العطاء؛ العطاء الإلهي الذي تنبثق منهما كل العطايا الأخرى؛ لم تندم يوما على مسارها الذي كانت خطوته الأولى مجرد صدفة حياة؛ وتحول مع مرور الوقت من حلم بسيط إلى قصة نجاح ملهمة على أرض الواقع؛ واستطاعت من خلاله أن تحقق ذاتها؛ وتنحت لنفسها تجربة مهنية استثنائية في عالم الاقتصاد التعاوني.
فاطمة شابة تسكنها طاقة جبارة على العطاء؛ وروحها تشع نبلا وصفاء؛ وكل الذين يعرفونها عن قرب؛ يجمعون على حسها الإنساني وعمق نبلها؛ وقدرتها الكبيرة على العطاء اللامتناهي؛ وفي هذا الجانب تقول شقيقتها وعضو معها بنفس التعاونية آسية كرمون؛ أنه من الصعوبة الحديث عن شخص كفاطمة؛ ولا أظن الصعوبة تكمن لكونها شقيقتي؛ بل لتعدد جوانبها الإنسانية التي قد تثير انتباهك عند أول لقاء ومن بعيد؛ باختصار أقول إن كل الألقاب الكبيرة تليق بهذه الشابة؛ وأظن أن أكثر ما يدثر شخصيتها هو رداء العطاء وحب الآخر؛ ودائما ما تحتفظ بطيبتها ونبلها؛ وتظل قابضة على جذوة الأمل”.
وعن أسلوب عمل فاطمة تضيف شقيقتها؛ التي اختارت أيضا العمل التعاوني بعدما نالت ماستر المالية التشاركية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان ليس هناك أية مبالغة إن قلت أن فاطمة هي سيدة المهام بامتياز؛ تمتلك قدرة فائقة على التأقلم؛ وبكفاءة مهنية استثنائية مع أية مهام أو مهمة تضطلع بها؛ هي فلاحة ومزارعة في الحقول؛ ورائدة التدبير الإداري والتسيير المالي؛ وفي الحقيقة لها قدرة عجيبة على امتلاك مهارات جديدة مما جعلها تستخلص دروسا وعبر لا تبخل بتقاسمها مع الآخرين”.
عطاء فاطمة لا ينضب وتحب تقاسم تجربتها في دربة الحياة مع الشباب وتحاول أن تمرر إليهم قصتها مع النجاح وتنصحهم دائما بعدم الارتكان إلى الهامش؛ أو احتراف الجلوس في دكة الانتظار؛ وتدعوهم بأن يسرحوا بأفكارهم بعيدا؛ ولا بأس أن يأخذهم الخيال المقرون بالعمل والاجتهاد؛ فأساس النجاح هو التطبيق وليس مجرد امتلاك المعرفة أو المهارات.

< تطوان: الغبزوري السكناوي

Related posts

Top