فيلم “سيكا” لربيع الجوهري.. عبق الصحراء وجمالية الصورة

قصة الفيلم

يعد فيلم “سيكا” الذي أخرجه ربيع الجوهري وأنتجه مصطفى بوحلبة من الأفلام الروائية المغربية القليلة التي تطرقت لقضية الصحراء المغربية في بعدها الوطني والثقافي والحضاري.

يحكي فيلم “سيكا” قصة عبد الغفور الصحفي المتميز (الممثل الحسين بوحسين) الذي يكتب عن الوحدة الترابية للمغرب متصديا لأطروحة الانفصاليين وذلك في ثمانينيات القرن الماضي.

وفي ليلة عرسه من فاطمتو امرأة حياته (فضيلة الهامل)، تهجم عليه فرقة من البوليساريو فتخطفه وتقتل أب زوجته وأفرادا من عائلتها.

يؤخذ إذن عبد الغفور إلى سجون تندوف الأرضية حيث سيسجن لمدة عشرين سنة سيعاين ويعيش خلالها كل أنواع التعذيب من طرف قائد البوليساريو المسمى محمد “البطل” (الممثل توفيق شرف الدين)، هذا الأخير سيحاول أن يشتري سكوت عبد الغفور مقابل إطلاق سراحه مع إغرائه ماديا، لكن عبد الغفور سيرفض ليزداد عذابه ومحنته هو وباقي المغاربة المحتجزين في سجون الانفصاليين.

ذلك أن “البطل” ذو أصول مغربية وينتمي إلى عائلة صحراوية كبيرة تمتد جذورها التاريخية إلى قبيلة بني عروس بالشمال، وسيستغل المخرج هذا المعطى التاريخي ليسافر بنا عبر تاريخ المغرب خاصة إلى القرن 13 م ليسلط الضوء على العطاء الثقافي والعلمي والروحي للمغرب من خلال شخصيات عالمة بارزة مثل الإمام الشاذلي والعالم المتصوف عبد السلام بن مشيش الذي سيقتل غدرا من طرف “أبو الطواجين” الذي كان ينشر الجهل والخرافات بين الناس، والفقيه العبدري والعلامة الشيخ ماء العينين وابنه أحمد الهيبة الذي ستطاله يد الغدر بعدما لم تقدر يد الاستعمار أن تصل إليه، فيقتل عن طريق هدية مسمومة قدمت له من أحد الخونة المدسوسين في صفوف قواته.

من خلال مراكش العالمة وتزنيت وفاس وشفشاون وتطوان ومدن صحراوية أخرى حيث سلط الضوء على العلماء مثل العبدلي والإمام الشادلي وعبد السلام بن مشيش وعلى مقاومة الشيخ ماء العينين ضد المستعمر الإسباني والفرنسي، وكذلك ابنه الشيخ أحمد الهيبة الذي ستطاله يد الغدر، وهي نفس يد الغدر الذي ستطال “البطل” (في القرن العشرين) عندما سيستفيق من غفلته ويعي أنه كان مغررا به.

ذلك أن “البطل” سيزور والده الذي يحتضر، وقبل موته سيقدم له مخطوطا ورثه عن أبيه، ويحثه على الاعتناء به لأهميته العائلية والتاريخية، نفس المشهد سنراه  بالسمارة مع الشيخ ماء العينين وهو يعطي لابنه مخطوطا ثمينا سقط منه كإرث الأجداد محذرا إياه أن يضيع منه.

بعد موت أبيه ستتحرك إذن لدى “البطل” عواطف الانتماء للمغرب وإلى عائلته وجذوره المغربية، فيقرر أن يساعد عبد الغفور ورفاقه على الفرار، وليتصالح مع ذاته وتاريخه المغربي، فيرجع عبد الغفور إلى بيته ليجد أمه قد توفت وأخاه الوحيد (عبد الصمد) الذي تخلى عن  فك لغز نافورة السباع الموجودة بقصر الحمراء بمدينة غرناطة الأندلسية، بعدما نحت نافورة مشابهة لها بأفواه الأسود التي تنساب منها المياه، لكنه سيعيد فك اللغز الذي سيكون في المخطوط الذي ورثه “البطل” عن أبيه، وهو عبارة عن قصيدة للشاعر الغرناطي ابن زمرك (القرن 14 م) التي يتطرق فيها إلى نافورة السباع، كما سيستعين بكتاب لابن أحد أعظم المخترعين والمهندسين الميكانيكيين العرب في القرن 13 م، وهو مخترع الساقيات وآلات رفع المياه.

سيكتشف عبد الغفور أن المغرب تغير بعد عشرين سنة قضاها في سجنون البوليساريو كما يبين ذلك المشهد الذي قدم له فيه “البطل” هاتفا نقالا لم يكن يتصوره من قبل، وعكس ما قيل له، سيجد عبد الغفور زوجته فاطمتو التي تنتظره رغم مرور السنين كرمز للوفاء والحب والإخلاص.

في النهاية سيتوجه “البطل” إلى جنيف مع خطيبته وعبد الغفور وزوجته من أجل الترافع بشأن قضية الصحراء المغربية ودحض أكاذيب البوليساريو. في المساء عندما كان يتجول بالشارع منتشيا بدفاعه عن مغربية صحرائه سيطعن “البطل” من الخلف من طرف “يد الغدر والخيانة” (من طرف ابن الطواجني نسبة إلى أبو الطواجين كشخصية ترمز إلى الخيانة والغدر) التي قتلت عبر التاريخ الشيخ عبد السلام بنمشيش والمقاوم أحمد الهيبة وأحرقت كتب العلماء والشرفاء المخلصين لأرض المغرب ووحدته الترابية.

الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود

يتطرق إذن فيلم “سيكا” إلى قضية الصحراء المغربية التي افتعل أزمتها المستعمر الإسباني والفرنسي وتحاول جهات خارجية تعميق هذه الأزمة المفتعلة، فمنذ اللقطة الأولى تنقلنا الكاميرا إلى مخيمات تندوف حيث تخطط جماعة من البوليساريو بقيادة “البطل” لتنفيذ عملية هجومية وحشية سيتضح في ما بعد أنه الهجوم على الصحفي عبد الغفور وزوجته ليلة زفافهما واختطافه من بين أهله.

كما أن عنوان الفيلم يحيلنا إلى الصحراء وعوالمها الطبيعية والجغرافية والإنسانية والثقافية، فـ “سيكا” هي لعبة صحراوية (لعبة السيك) تلعب من طرف الفتيات وتعتمد على رمي الأعواد (الأسياك جمع سيك) في رقعة رملية، ويشترك في اللعب خمس أو ستة لاعبين أو لاعبات كما جاء في الفيلم، وهي تخلق جو من السمر والمتعة، لكن للعبة رمزيتها الاجتماعية والسياسية، فاللعبة تربطنا بالمجتمع الصحراوي المغربي وعاداته وتقاليده الاجتماعية والثقافية، لكن لها أيضا بعدا سياسيا من حيث أن هناك أطرافا خارجية تحاول أن تجعل من قضية الصحراء المغربية لعبة سياسية أو ورقة ضغط تمارس على المغرب من طرف بعض الدول من أجل تحقيق أهدافا سياسية واقتصادية.

ولعل خير مثال على ذلك هو المشهد الذي يظهر فيه “البطل” بمؤتمر بجنيف، قابضا الميكروفون وهو يتحدث عن جذور العائلات الصحراوية التي ترجع إلى الدولة الإدريسية التي سعت إلى توحيد مناطق المغرب، (فسكان الصحراء أدارسة اختلطوا بالقبائل الأمازيغية) ومدى ارتباط تلك العائلات بوحدة المغرب، فتم نزع الميكروفون من يده بدافع سياسي حتى لا يكمل أطروحته الوطنية التي تفند الأطروحة الانفصالية. وهذه واقعة عاشها المخرج بنفسه في جنيف كما صرح بذلك، وهنا لابد من التذكير أن تلاحم الذاتي بالموضوعي كما الماضي بالحاضر خاصية هذا الفيلم الذي يعتمد على حقائق تاريخية تم توظيفها بطريقة فنية بعيدة في مجملها عن الخطاب المباشر وعن الروبرطاج وإن كانت الصورة أحيانا تكرر معلومة تم تداولها في الحوار، وبالتالي يفقد المشهد دوره الدرامي المكمل للسرد ولإيقاعه.

فالواقعة تبين أن هناك أطرافا دولية لا تريد حلا لهذه الأزمة المفتعلة حتى تظل (من منظور المستعمر) مستفيدة منها وتظل المنطقة المغاربية في حالة اللااستقرار.

قضية الصحراء حاضرة أيضا في الفيلم من خلال السجناء المغاربة الذي قضوا عقودا في سجون الانفصاليين، فيهم من قضى نحبه تحت التعذيب وفيهم من أطلق سراحة بعاهات مستدامة ناهيك عن الآثار النفسية التي خلفتها هذه التجربة القاسية واللاإنسانية لدى المغاربة الذين كانوا محتجزين بتندوف. والشهادات على ذلك موجودة سبق للمخرج ربيع الجوهري أن قدمها في شريط وثائقي سابق. وبالتالي ففيلم “سيكا” الذي يقدم مادة تاريخية دسمة في قالب روائي ممتع، والذي يعكس مدى تفاعل المبدع السينمائي مع محيطه المحلي والدولي وتبنيه لقاضاياه الوطنية، يبرز كيف أن المغرب من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه كان متلاحما دينيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وأن أهل الصحراء بمختلف قبائلهم (الركيبات والعروسيين) ونسبهم المتجذر في شمال المغرب (تلك القبائل تعود أصولها إلى المولى عبد السلام بن مشيش سليل المولى الإدريس) حافظوا على هذا الامتداد الحضاري وعلى هذه الروابط الثقافية والروحية كما تصدوا إلى  كل محاولات التصدع والتفرقة والانفصال من طرف الاستعمار الأجنبي وعملائه. فضلا عن أن الفيلم من خلال قضية الصحراء تطرق لعطاءات المغرب العلمية والثقافية والدينية والفنية خاصة في القرن الثالث عشر الميلادي عبر عدة منارات اشتهرت بحركتها العلمية والدينية آنذاك كسجلماسة وكمدينة مراكش التي عاش فيها العبذري، كالقرويين بفاس قبلة العلم والعلماء وطلاب العلم من مختلف أنحاء المغرب، كالسمارة وتزنيت معقل الشيخ ماء العينين وابنه أحمد الهيبة رحمة الله تعالى عليهما واللذين جعلا من المدينتين مدرستين علميتين، وكتطوان وجبل العلم بشمال المغرب الذي استوطن فيه العالم الصالح عبد السلام بن مشيش الذي عاصر الخليفة الناصر لدين الله الموحدي.

من خلال هذه المحطات الجغرافية سعى المخرج إلى تصوير ذلك الإرث الحضاري المغربي وتلك الحركية العلمية والثقافية التي عرفها المغرب في عهد الموحدين ثم السعديين مرورا بالمرينيين إلى غاية الدولة العلوية. ويمكن القول من الناحية السينمائية إن المخرج كسب إلى حد ما هذا الرهان الصعب رغم المعيقات المادية والبشرية التي تعترض إنتاج الأفلام التاريخية أو التي تعرج على بعض المحطات التاريخية في قصة الفيلم.

الرؤية الجمالية للفيلم

لكل مخرج أسلوبه السينمائي ورؤيته الفنية للسينما.. ولعل أهم شيء في ذلك هو المعالجة الفينة التي يعتمدها في تطرقه للمواضيع التي تشغل باله أو بال محيطه الاجتماعي والثقافي.

والمشاهد لفيلم”سيكا” يخرج بانطباع أن الفيلم ينتمي لسينما المؤلف التي تتميز بالاهتمام بالجانب الجمالي والفني والتجريب واختيار مواضيع بدقة ذات بعد إنساني وثقافي، مع حوار دقيق ذي عمق ولمسة شاعرية ورمزية تنعكس على اختيار الديكورات والصوت والصورة وتنتزع المشاهد من رتابة الواقع، تتميز أيضا بتحكم المخرج في السيناريو الذي يعكس رؤيته الفلسفية للوجود والإنسان ولعالم القيم الذي يؤمن به. وفوق هذا وذاك عدم الرضوخ والامتثال لهيمنة النجومية كما في السينما التجارية، أي عدم إدراج الممثلين المشهورين في الفيلم والاعتماد على ممثلين هواة أو مغمورين أو لصيقين بالمسرح. وهذا نراه في فيلم “سيكا” حيث بدا عموما خاليا من وجوه سينمائية مغربية ذات صيت وطني وعالمي. وقد يتساءل المرء: لماذا المخرج لم يعتمد على وجوه سينمائية معروفة باحترافيتها في فيلم من مثل هذا الحجم، له حمولة سياسية – وطنية وتاريخية وثقافية؟ ذلك أن بعض المشاهد كانت تحتاج إلى وجوه محترفة تعطي للأحداث وللشخوص وزنها الذي يليق بها.

انطلاقا من هذا كله فالفيلم الروائي الطويل “سيكا” له بعده الجمالي إن لم نقل إن جوهره هو بعده الجمالي في كل تجلياته: جمالية الصورة وجمالية السرد والقصة والحوار وجمالية أماكن التصوير وديكوراتها، إضافة إلى جمالية التصوير (اختيار اللقطات وتمركز الكاميرا واختيار الألوان المهيمنة على عوالم الفيلم… بحيث كل هذه العناصر الجمالية تتحد لتصنع سيمفونية سينمائية تمتع المشاهد وتغذي ذائقته الجمالية.

ليس بالسهل على مخرج سينمائي أن يشد انتباه المتفرج ويمتعه خلال ساعتين ونصف، فهذا يكون أحيانا رهانا يصعب كسبه إلا إذا كان المخرج متمكنا من لغته السينمائية ابتداء من الفكرة إلى غاية المونتاج مرورا بكتابة السيناريو. ولعل المخرج ربيع الجوهري كان واعيا بهذا التحدي فحاول تجاوزه من خلال ثلاث عناصر أساسية ميزت فيلمه:

  • كتابة فسيفسائية للسيناريو.
  • إيقاع الفيلم.
  • جمالية الصورة المصاحبة لشاعرية الصحراء.
  • كتابة فسيفسائية

ويتجلى هذا العنصر في كون السيناريو يرتكز على التشظي.. فأحداث القصة لا تتبع التسلسل الخطي linéaire  في السرد بل هناك محور رئيس تحوم حوله محاور أخرى وإن كان نوع من الكرونولوجيا تربطهم جميعا (من القرن العشرين إلى القرن 13)

وهكذا فهناك المحور الرئيس في الفيلم المتمثل في الصحفي عبد الغفور واعتقاله من طرف البوليساريو وإيداعه بسجون تندوف، ثم محاولة شراء صمته وكسر مقاومته ضد الانفصاليين. هذا المحور يلتف حوله أربع محاور أو قصص: قصة الإمام الشادلي الباحث عن الحقيقة والأتي من العراق، وقصة الزاهد عبد السلام بنمشيش (الذي تعود إليه قبيلة الركيبات والعروسيين) ولقائه بالشادلي، ثم تصفيته من طرف أبو الطواجن. ثم محور العالم والمجاهد الشيخ ماء العينين رحمة الله تعالى عليه وخدمته للدين والوطن (فالفيلم يشير إلى شيء مهم ألا وهو وثيقة السلطان الحسن الأول الذي يعين فيها الشيخ ماء العين على تندوف). وأخيرا محور ابنه المقاوم الشيخ أحمد الهيبة الذي التفت حوله القبائل الأمازيغية والعربية من أجل مقاومة المستعمر الإسباني والفرنسي والذي هو الآخر سيغتال غدرا.

الجانب الفسيفسائي في السيناريو والذي يعد حداثيا قد يتمثل أيضا في المعطى الجغرافي الذي تدور فيه أحداث الفيلم فبصفة إجمالية هناك شمال وجنوب المغرب وبصفة خاصة يمكن الحديث عن التموقع حسب المدن: في الجنوب: فم لحسن والسمارة وتزنيت ومراكش وفي الداخل فاس، ثم الشمال: بني عروس، جبل العلم وتطوان… وهي محطات برزت فيها شخوص قصة الفيلم كما أنها عرفت أحداثا تاريخية طبعت الذاكرة المغربية سواء من الناحية العلمية أو الاجتماعية أو السياسية.

وكما هو معلوم فعنصر التشظي يفرض الحبكة في الكتابة السيناريستية والتمكن من الإخراج حتى يتم إعطاء تفاصيل الزمان والمكان والشخوص والديكور حقها. فنجاح الفيلم رهين بقوة السيناريو كما هو معروف سينمائيا.

  • إيقاع الفيلم

لا شك أن لكل فيلم إيقاعه العام المنسجم فنيا مع عوالمه المنبثقة منه، وإن كانت وتيرته تتغير من مشهد لأخر وحسب بنائه الدرامي. وإيقاع الفيلم تتشكل معالمه مع كتابة السيناريو: البناء السردي، سيرورة الأحداث، إيقاع الحوارات، سيكولوجية الشخصيات وتصرفاتها… وهذا ينعكس طبعا على الإخراج، بمعنى عين الكاميرا تتبنى إيقاع الفيلم ووتيرة مشاهده.

ومن هذا المنطلق فإن فيلم “سيكا” يتميز بإيقاع سريع ومتعدد الوتائر لتعدد الأحداث والحوارات التي تفرض هي الأخرى إيقاعها على الشخوص والعكس صحيح. وهذا المعطى يقوم بتكسير المدة الزمنية الطويلة للفيلم وأيضا الرتابة التي قد تصيب المشاهد الذي يقصف يوميا بفيديوهات قصيرة وسريعة عير اليوتوب والواتساب والتي تفقده الصبر والجلوس لمشاهدة فيلم وسبر أغواره الفنية والإنسانية.

ومن هنا نفهم تحركات الكاميرا المتعددة ودورانها (rotation) منذ بداية الفيلم، سواء عبر أنواع ترافلينغ أو اللقطات المتنوعة: اللقطة من الفوق (التي كانت ناجحة في الفيلم سيما في المعركة الدائرة بين أحمد الهيبة وجيوش المستعمر، وفي التنقل عبر الصحراء)، اللقطات الواسعة التي طغت على مجموعة من مشاهد الطبيعة، وكذلك اللقطات القريبة الملازمة للشخصيات وتواجدها داخل الديكور الذي سيأتي الحديث عنه لاحقا. فضلا عن استعمال لقطات فوق الكتف Over shoulder وهذه اللقطات تتوزع حسب محاور الفيلم التي ذكرناها آنفا. علما أن مجموعة من المشاهد صورت بكاميرا تابثة أو لقطة تابثة لكن الوتيرة سريعة بفضل الحوار أو الأحداث (عرس، جلسة علمية، تعذيب، رقص) أو سيكولوجية الشخصيات التي تعبر إما على التوتر والقلق أو السعادة والفرح (مشهد عاطفي، لقاء بعد فراق…). ولعل أجمل لقطة ثابتة في الفيلم تلك التي جمعت  بين “البطل” وعبد الغفور في سجن أرضي، حيث أن “البطل” يوجد في وضعية رأس على عقب (عاليه سافله) عكس عبد الغفور الواقف سويا، وهذا يلخص قضية الصحراء المغربية، فهناك رؤيتان مختلفتان للقضية: رؤية سوية يمثلها الصحفي عبد الغفور المسجون من أجل قضية عادلة والثابت على موقفه، ورؤية مغلوطة خاطئة وغير سوية يتبناها “محمد البطل” الذي كان دائما في حالة مضطربة وهستيرية قبل أن يتغير ويعانق الصواب والحقيقة ليصبح متوازنا وسويا بل ومدافعا عن القضية.

وفي نفس السياق هناك مشهد متميز في بداية الفيلم له عمقه السينمائي، ويتعلق الأمر بمشهد عبد الغفور وأمه في المطبخ حيث يظهران من خلال نافذتين مفصولتين وهما يكملان كلامهما عن الزواج من خلال لقطة ثابتة تحمل عدة معاني من بينها أن الفصل يرمز إلى الفراق بين إلام وابنها بسبب اختطاف عبد الغفور ليلة زفافه. وتيمة النافذة حاضرة بقوة في الفيلم كمشهد الانفصالي الذي يغلق النافذة في معسكره فتتبعه لقطة تظهر فيها “فاطمتو” تفتح نافذة غرفتها ثم تتجه إلى الشرفة فتجد عبد الغفور في الأسفلPlongée et contreplongée  وهو يقوم بحركات بهلوانية للتعبير عن حبه لها. في مشهد آخر وبعد اختطاف زوجها سنرى “فاطمتو” وهي تقفل النافذة كتعبير على حزنها وانعزالها عن العالم.

ويعزز هذا الطرح عموما أن أكثر أماكن التصوير هي خارجية بحيث تفرض إيقاعا مختلفا عن أماكن التصوير الداخلية، وهذه الفضاءات تتطلب مجهودا تقنيا وفنيا كبيرا، خاصة المعارك التي تتطلب موارد مادية وبشرية وتقنية هائلة (كومبارص، مؤثرات بصرية وصوتية..). فتصوير الوقائع التاريخية والمعارك يتطلب احترافية عالية لضمان نجاحها شكلا ومضمونا واستمتاع الجمهور بها. وقد سعى المخرج ربيع الجوهري إلى حد ما أن يصور تلك المعارك بطريقة مقبولة ومقنعة دون السقوط في هفوات التصوير والمونتاج.

ولعل تبني هذا الإيقاع مع التنوع في التصوير يوضح مدى تأثر المخرج ربيع الجوهري بمخرجين عالميين همهم الأول هو التعبير الحر عن أفكارهم وآرائهم وانشغالاتهم الفكرية وتقاسم رؤيتهم للعالم مع الآخر، مع خلخلة المشاهد وجوديا وفنيا وجماليا ولغويا، مثل أورسون ولز، ألفريد هشتكوك، ردلي سكوت، كونتين تارونتينو، سكور سيزي، ستانلي كيوبريك وغيرهم من المخرجين الذي بصموا السينما العالمية.

  • جمالية الصورة وشاعرية الصحراء

شكل فضاء الصحراء في فيلم “سيكا” الفضاء الرئيس بامتياز نظرا لارتباطه بموضوع قصة  ولارتباطه بالأحداث التاريخية التي كان مسرحها الصحراء. وهكذا ففضاء الصحراء عرف وجهين مختلفين: وجه قبيح ووجه جميل.

فالوجه القبيح يتجسد في سجون تيندوف الأرضية التي اختطف إليها العديد من المغاربة ومورس فيها عليهم أقسى أنواع التعذيب والإهانة لدرجة الموت أحيانا من طرف عناصر البوليساريو، فهنا السياط والجوع والعطش والشمس المحرقة والتكدس في السجن. ولعل لحظة هروب السجناء وفرحهم بعناقهم للحرية تعكس مدى المعاناة الكبيرة التي تكبدوها وصبروا عليها. فالفضاء أصبح قبيحا لأن الإنسان الذي احتله قبيح.

من جهة أخرى مشهد الهروب من سجن تندوف يذكرنا بعدة أفلام أمريكية تطرقت لتيمة الهروب من السجن كفيلم “الهروب من الكتراز” لمخرجه  Don Siegelوفيلم “الهروب الكبير” لجون ستورجس. كما يحيلنا مشهد هروب السجناء المغاربة عبر الصحراء إلى المخرج العالمي سيرجيو ليوني وأفلام الويسترن التي أنجزها بالصحراء الغربية الأمريكية.

أما الوجه الجميل فيتمثل في شاعرية فضاء الصحراء المتجلية في العناصر المكونة لهذا الفضاء: الرمال والجمال والخيام والكتب والشاي واللباس والإنسان الصحراوي المعروف بحفاوته وكرمه وبساطته. وما يزيد من جمال وشاعرية هذا الفضاء الشاسع هو مشاهد الغروب والشروق التي تخللت الفيلم، إضافة إلى توظيف التراث الفني والموسيقي الصحراوي (رقصة الكدرة)، طبعا إلى جانب التراث السوسي والأندلسي والكناوي (الحضرة) الذي جاء كلوحات فنية عبرت الزمان والمكان لتضفي على الديكور شاعريته  ورمزيته مع دلالته الثقافية والتاريخية. والصحراء ترمز أيضا إلى العبور والسفر.

فتيمة السفر من التيمات الرئيسية في الفيلم مثل سفر الإمام الشادلي للعراق ثم سفره إلى العالم عبد السلام بنمشيش، ثم سفر السالك تلميذ الإمام العبدري لشمال المغرب، وسفر الشيخ ماء العينين وابنه إلى ضريح مولاي عبد السلام بنمشيش والترحم عليه قبل مواجهة الاستعمار الفرنسي. فالسفر يحيل على العبور وعلى مرور الزمن عبر فضاء قد لا يتغير مثل فضاء الصحراء الذي يحتضن عدة قصص وعدة محطات تاريخية من تاريخ المغرب.

على أن شاعرية الفضاء ورمزيته لم تكن لتتضح لولا بلاغة الصورة وجماليتها وتعدد معانيها.

جمالية الصورة تتجلى في اختيار الديكور واللباس والضوء والألوان التي تتغير بتغير محاور الفيلم (القصة)، ثم في تنوع حركات الكاميرا ولقطاتها التي تأخذ حقها في كل مشهد، هذا الأخير هو الآخر يطهر بأدق تفاصيله صوتا وصورة مثل مشهد اللحظات الأخيرة لحياة الشيخ أحمد الهيبة الذي مات جراء سم وضع له في الجوارب، وأيضا مشهد انتهاء المعركة التي دارت بينه وبين جيش الاحتلال الأجنبي حيث لقطة من فوق أخذت بفنية عالية. دون إغفال دور المونتاج ومؤثراته التي ساهمت في الوظيفة الدرامية للصورة.

الجانب الجمالي يبرز أيضا في الكلمة التي هي الأخرى أخذت حقها في الحوار الذي اختير بعناية، كما اختيرت لغته بدقة وهي مزيج بين الدارجة (للتعبير عن الحاضر) واللغة العربية (للتعبير عن الماضي والحنين إليه). جمالية اللغة نجدها أيضا في بعض الحوارات العاطفية والرومانسية بين “عبد الغفور” و”فاطمتو” عند قراءتهما للشعر أو عند اختيار “عبد الغفور” لأبيات شعرية للتعبير عن حبه لخطيبته وهما يتواجدان بين أحضان الطبيعة حيث الواد والخضرة. والشعر حاضر في الفيلم مع الشاعر الغرناطي ابن زمرك الذي تتضمن قصيدته لغز نافورة السباع الموجودة بقصر الحمراء بغرناطة والذي سيفكه “عبد الصمد” أخو “عبد الغفور”. وهذا الحادث مستوحى من واقعة حقيقية بطلاها الشقيقان “عبد الغفور” و”عبد الصمد” بفاس. حضور الشعر في الفيلم يقوي حضور اللغة العربية ويعيد لها مكانتها العلمية والأدبية التي كانت عليها في القرون السابقة.

خاتمة:

لا شك أن لكل فيلم هفواته، فالإبداع بشري والخطأ والنسيان من طبيعة البشر، فمثلا لا يمكن أن ينعت مستعمر نفسه بـ “المستعمر” إلا إذا جاءت سهوا من كاتب السيناريو. لأن المستعمر يعتبر نفسه أنه في “مهمة حضارية” اتجاه “الشعوب المتخلفة”. ولذلك قام بالهجوم على زاوية المجاهد الشيخ ماء العينين وقام بحرق كتبه. يا لسخرية القدر.

قد يقول قائل إن فيلم “سيكا” جمع بين الحاضر والماضي، وكلاهما مشروع فيلمين مستقلين، بحيث جاء محملا بعدة أحداث وعدة شخوص تاريخية تحتاج إلى أداء مقنع.

لكن الحقيقة أن طريقة الربط بين الماضي والحاضر كانت مقنعة حيث كسرت هاجس التمطيط والرتابة بحسن اختيار المشاهد وضبط وتيرة السرد الفيلمي وبدينامية الوقائع التاريخية وتعدد ديكورات التصوير التي راهنت على ما يزخر به المغرب من أماكن التصوير المثيرة ومباني العمران القديمة (قصور ومتاحف). كما أن رسالة الفيلم كانت قوية بحمولاتها الفنية والجمالية وببعدها الثقافي والاجتماعي والقومي.

وبالتالي يمكن القول إن سينما المخرج ربيع الجوهري سينما واعدة ومتميزة بأسلوبها السينمائي الخاص وبخصائصها الفنية والموضوعاتية.

* بقلم: مصطفى الطالب ناقد سينمائي

(عن جورنال 24)

Related posts

Top