في التكنولوجيا الجديدة للاتصال: الحاسوب وحكاية/مأساة القس “سان دونيه”

على غرار قانون الحالات الثلاث لصاحبه “أوجست كونت” Auguste Comte (1798ـ1857) (1) يميز الفيلسوف الفرنسي المعاصر “ميشيل سير” (1930 ــ 2019) “بين ثلاث تحولات أساسية خضع لها “الزوج: حامل/رسالة”(Support /Message) بما هو إطار تندرج ضمنه القواعد/الوظائف الأربع الأساسية المتمثلة في تلقي وإرسال ومعالجة وتخزين المعلومات عبر التاريخ. إن التحول الأول الذي عرفه هذا الزوج قد حصل عند ظهور الكتابة، حيث صارت المواد المختلفة المستعملة في الكتابة بمعناها الشامل (2) هي الحامل والكتابة هي الرسالة. أما التحول الثاني فقد تحقق بظهور تقنية الطباعة منذ العصور الحديثة ليتوج هذا المسار في العصر المعاصر بظهور الحاسوب بما هو أداة تكنولوجية جديدة كحامل ومختلف البرمجيات والعمليات والمعلومات التي يمكن تصريفها من خلاله كرسالة. وكعادته يوظف “ميشيل سير” أسلوب الحكاية والتمثيل من خلال الانفتاح على الحكاية المأساوية للقس المعروف “سان دونيه” لتسليط الضوء على قيمة الحاسوب وأهميته ضمن هذا التحول في ظل الثورة الرقمية المعاصرة.

حكاية/مأساة “سان دونيه”

تجري أحداث حكاية القس “سان دونيه” Saint –Denis كما يرويها “ميشل سير” في مدينة كانت تسمى”لوتس” Lutèce قبل أن تصبح “باريز” فيما بعد، حيث كانت تنشط دوائر مغلقة من المسيحيين الأوائل. كان هؤلاء ينظمون اجتماعات سرية خوفا من الاضطهاد وبطش الامبراطور الحاكم. كانت فيالق النظام تتولى مراقبتهم وتتبع كل حركاتهم وسكناتهم مما كان يجعل عقد الاجتماعات واللقاءات فيما بينهم محفوفا بكل المخاطر. حدث أن كانوا مجتمعين في إحدى القاعات. كانت الأبواب والنوافذ موصدة عندما وقف سان دوني المنتخب حديثا لهذه المهمة وفق التقليد السائد آنذاك يلقي كلمته. لكن ما كان في حكم المتوقع قد حدث. لعل أحد الوشاة أو المخبرين أخبر فيالق النظام بمكان وموقع الاجتماع السري فاقتحمت الأبواب والنوافذ وتم اجتياح قاعة الاجتماع من طرف القوات النظامية. سار قائد قوات المائة، كما كان يسمى، عبر الممر الرئيسي للقاعة إلى أن صعد فوق منصة الخطابة، استل سيفه وفصل رأس الأسقف “سان دونيه” عن جسده في رمشة عين لتتدحرج الرأس المقطوعة على أرضية القاعة أمام استغراب وذهول الحاضرين. لكن معجزة غير منتظرة حدثت. مال “سان دونيه” نحو رأسه المتدحرجة على الأرض فالتقطها. عندما كانت جدتي تحكي الحكاية، يعقب “ميشيل سير”، كنت أعترض متسائلا: ولكن كيف يمكنه أن يلتقط رأسه وهو ميت؟ وقبل أن أكمل اعتراضي كانت تنهرني قائلة: هذه هي المعجزة أيها الشقي. ألا تفهم؟ وهي فعلا على صواب فهذه هي المعجزة.
معلوم أن كتب سير القديسين تتضمن إضافات غرائبية من قبيل أن “سان دونيه” لم يكتف بالتقاط رأسه وإمساكها بين يديه بل حملها وسار بها شيئا فشيئا إلى أن بلغ قمة المكان المسمى اليوم “مونت مارتر” Montmartre. لكن المهم في هذا هو أن نتأمل مع “ميشيل سير” في ما يمكن استخلاصه من دروس من هذه الحكاية بالعلاقة مع الحاسوب والتكنولوجيا الجديدة للاتصال بصفة عامة وعلاقة الرأس المفصول عن الجسد بالحاسوب بصفة خاصة.
إننا، عندما نكون أمام هذه الآلات الجديدة، سواء كنا في مكاتبنا أو في أي مكان آخر، فإننا نكون، بمعنى ما، أمام رؤوسنا المنفصلة عن أجسادنا. غير أن هذه الأجهزة الجديدة ليست فقط عبارة عن رأسنا وقد صارت “مموضعة” أمامنا و/أو محمولة في أيدينا في شكل هاتف محمول ذكي، بل إن قدراتها باتت تتجاوز قدراتنا الطبيعية. فهي ذات قدرات شاملة Totipetente. توجد في هذا الحاسوب، أولا، ذاكرة ضخمة حيث لا تقدر ذاكرتنا الطبيعية على مجاراتها أو منافستها بما هي قادرة على احتوائه من معلومات وصور بالملايين، كما أنها قادرة على الاشتغال ببرمجيات تسمح بالقيام بعمليات عليا مثل البرهنة والاستنتاج يصعب على كثير من البشر القيام بها. وبالإجمال فإن هذا الجهاز يقوم بوظائف الذاكرة والخيال والاستدلال. فهل معنى هذا أن تحولا عميقا قد طرأ على المفهوم الكلاسيكي للذات البشرية ؟

الحاسوب وموضعة العمليات /الملكات المعرفية

تعلمنا في دروس الفلسفة الكلاسيكية أن المعرفة الإنسانية مقسمة إلى ثلاث ملكات أساسية هي الذاكرة والخيال (المخيلة) والاستدلال. تعتبر هذه الملكات مكونات رئيسية ثلاثة للمعرفة البشرية La cognition humaine la. الآن، ها هي نفس المكونات/العمليات التي كان ينظر إليها باعتبارها الأساس الجوهري للذات المفكرة وللأنا أفكر L’égo cogito موجودة على نحو موضوعي Objectivées وخارجي Externalisées أمامنا في حواسيبنا الشخصية، هذه الأداة الكونية التي تتقن محاكاة الكائنات الحية والموجودات الأخرى في قواعد ووظائف تلقي وإرسال وتخزين ومعالجة المعلومات. ألا يعني هذا أن “رؤوسنا أصبحت مفصولة عن أجسادنا وصارت ماثلة أمامنا على المكتب في صورة مشابهة للرأس المقطوعة للقس “سان دونيه”؟ لكن هل يعتبر هذا “التموضع” الخارجي Externalisation حالة جديدة غير مسبوقة في التاريخ؟ من أجل تبين عناصر الإجابة عن هذا السؤال، يحيلنا “ميشيل سير” على ما يسميه في كتاباته ومداخلاته المختلفة “قانون الحالات الثلاث” للزوج حامل/رسالة على غرار قانون الحالات الثلاث الذي وضعه أوجست كونت رائد ما يسمى بالفلسفة الوضعية.
في لحظة اختراع الطباعة على سبيل المثال، أطلق فيلسوف مشهور هو “ميشيل مونطانيه” Michel Montaigne (1533ـ 1592) عبارة شهيرة كان لها وقع كبير في مجال التربية والبيداغوجيا يحفظها الجميع عن ظهر قلب إلى اليوم مفادها “أنه يفضل رأسا معد بعناية عن رأس محشو”. إن دلت هذه العبارة على شيء فإنها تدل على أن التحول الذي يجسده ظهور الطباعة في سيرورة الزوج حامل/رسالة (وهو التحول الثاني تاريخيا بعد التحول الأول الذي جسده ظهور الكتابة) قد أحدث تغييرا معتبرا في الرأس البشرية. فقبل المطبعة والطباعة كان لزاما على من يريد أن يكون مؤرخا، مثلا، أن يحفظ عن ظهر قلب نصوصا مهمة في هذا المجال لمؤرخين سابقين أمثال “تيت ليف” Tite Live و”سالوست” Salluste و”تاسيت” Tacite و”توسيديد” Thucydide و”هيرودوت” Hérodote وغيرهم، لأن الولوج إلى كل هذه النصوص لم يكن متاحا ومتيسرا بسبب ندرتها في شكل مخطوطات. أما وقد أتاحت الطباعة وفرة الكتب فإن “مونطانيه” يجد في مكتبته كل ما يحتاجه من الكتب ومن الطبيعي إذن أن “يكون رأسه غير محشو”. بهذا المعنى فإن الرأس أو الذاكرة قد تغيرت فعلا بل و”تموضعت” أيضا، أي صارت توجد في كتب على رفوف المكتبات. فهل يعني هذا أن الإنسان فقد ذاكرته؟

جدلية الفقد والكسب

في جلسة علنية بالأكاديمية الفرنسية التي كان عضوا فيها في حياته ألقى “ميشيل سير” سنة 2012 كلمة باسم شخصية محورية في كتابه “الأصبع الصغير” (2) تحت عنوان “التحديات الجديدة للتربية” نيابة عن جيل كامل تمثله هذه الشخصية صاحبة “الإبهام الصغير” يعيش تحولات عميقة غير مسبوقة في ظل الثورة الرقمية المعاصرة، لكن إذا كانت صاحبة “الإبهام الصغير” بطلة “ميشيل سير” المفضلة توافقه الرأي حول قيمة وأهمية الثورة الرقمية، فإن “جدها” المحافظ المتزمت ينتفض معترضا: لقد جعلتنا هذه التكنولوجيا الرقمية نفقد ذاكرتنا. لقد كانت الأمور من قبل أفضل مما صارت عليه اليوم (3). غير أن بطلة “ميشيل سير” تتصدى لهذا الزعم وتتولى تفنيده. إن ما يعتبره المحافظون المتزمتون فقدانا نتيجة اعتمادنا على الحاسوب وعلى التكنولوجيا الجديدة للاتصال عموما، هو في الواقع، ليس وليد اليوم.. فقد حدث أن تخلصنا وتحررنا من ثقل الذاكرة، بمعنى ما، منذ أن حلت الكتابة محل الكلام الشفوي في الزوج: حامل/رسالة لأننا صرنا قادرين على العودة إلى المكتوب والمدون دونما حاجة لاستظهاره عن ظهر قلب. أصبح بإمكاننا التذكر عن طريق الرجوع إلى نصوص لها وجود موضوعي خارج ذواتنا. بهذا المعنى، نعم نحن فقدنا الذاكرة بل نحن بالأحرى تحررنا من عبئها. يدل هذا من زاوية البعد المعرفي البشري إذن على أن موضعة الذاكرة في حامل موضوعي خارجي، وهي مكون أساسي من مكونات المعرفة البشرية الثلاثة الأساسية، لم يبدأ مع الحاسوب بل بدأ مع ظهور الكتابة ثم تكرس مع ظهور الطباعة. صحيح أن عملية الموضعة هي اليوم أكثر قوة ومتانة واتساعا لأنها شملت الملكتين الأخريين إلى جانب الذاكرة أي الخيال والاستدلال، لكن التحول الأول في هذا المسار يعود إلى مرحلة الكتابة، كما أن مفهوم الفقدان، سواء تعلق الأمر بالذاكرة أو بغيرها من الأشياء والوظائف، يقابله مفهوم الكسب والربح على سلم التطور الخاص بالإنسان. كيف ذلك؟
مما لا شك فيه أن الموقف السلبي المحافظ والمتزمت من التقنيات الجديدة عموما ومن التكنولوجيا الجديدة للاتصال ومن الثورة الرقمية الحالية، على الخصوص، سيغتنم فرصة تزايد استعمال هذه التكنولوجيا في الأوساط الاجتماعية والعمرية المختلفة وبصفة خاصة في أوساط الأطفال والشباب لكي يأخذ الكلمة من جديد ويتباكى على ما يعتقد أن هذه التكنولوجيا قد سببته من خسائر للإنسان. هنا أيضا يعود بنا “ميشيل سير” إلى التاريخ ليقف على ثنائية الفقد/الكسب وجدليتها التاريخية.
عندما استقام الإنسان، بعد أن كان يمشي على أربع، فقد عضواه الأماميان وظيفة حمل الجسد. فصرنا، بمنطق الفقد والخسارة ، أمام أول حالة فقد Perte، تماما كما هو الشأن بالنسبة لفقدان الذاكرة المزعوم. لكن إذا كانت اليدان قد فقدتا القيام بوظيفة الحمل Portage للجسد، فإن الإنسان قد كسب من وراء ذلك ولادة اليدين كأداة للقبض والإمساك. فقد صنع الإنسان بيديه ولا زال وسيظل يصنع روائع ومعجزات فوق الحسبان. ينسحب الأمر نفسه على الفم أيضا. فعندما فقد الفم وظيفة القبض والإمساك بالأشياء بتحول هذه الوظيفة إلى اليدين، كسب الإنسان من وراء ذلك وظيفة الكلام. لا مجال للمقارنة إذن بين ما يفقده الإنسان وما يكسبه على طريق تطوره وارتقائه. إلى جانب هذين المثالين الدالين، يحلل “ميشيل سير” لفظ “الفقدان” Perte العائد إلى جذر “فقد” Perdre في اللغة الفرنسية من أجل التأكيد على الطابع الجدلي والتلازم الضروري في ثنائية الفقد/الكسب. ففعل “فقد” له دلالتان الأولى هي الخسران أو الخسارة كما في حالة الخسارة في لعبة أو مقابلة رياضية أو في رهان ما والثانية هي الفقدان المستمر أو المتواصل، كما في حالة “ماعون يقطر” بسبب ثقب يعتوره مثلا. واستنادا إلى هذه الدلالة الثانية يرى “ميشيل سير” أن الإنسان هو الكائن الذي لا ينفك جسده عن الفقد. وعلى هذا الدرب الطويل من الفقد /الكسب انتهى الإنسان في الفترة المعاصرة إلى فقدان ملكاته المعرفية الذاتية عندما صارت هذه الأخيرة متجسدة بين يديه في التكنولوجيا الجديدة للاتصال والإعلام في ظل الثورة الرقمية المعاصرة. غير أن ما يمكن أن يفقده الإنسان على طريق التطور التكنولوجي من زاوية معينة، إذا كان يفقد شيئا فعلا، يقابله كسب لا يقدر بثمن من زوايا أخرى كثيرة.

هوامش

1 . وضع مؤسس المدرسة الوضعية في علم الاجتماع الحديث “أوجست كونت” (1798ـ1857) قانون الحالات الثلاث تجتاز بمقتضاه كل شعبة من شعب المعرفة البشرية ثلاث مراحل أساسية في تاريخها هي المرحلة أو الحالة اللاهوتية والمرحلة/الحالة الميتافيزيقية لتصل في النهاية إلى المرحلة/الحالة الوضعية حيث يسود التفسير العلمي التجريبي للظواهر الطبيعية والانسانية.
2 . إحالة على كتاب لميشيل سير بعنوان:Petite poucette », Le Pommier , Paris , 2012 ..
3 . أنظر التفاصيل في كتاب « C’était mieux avant », Le Pommier , Paris , 2017. Michel Serres , ، حيث يحاور “ميشيل سير” المواقف التي تحن إلى الماضي باعتباره كان أفضل من الوقت الراهن مفندا بالوقائع والمنجزات والأرقام أطروحاتها وحججها.

> بقلم: علي بلجراف

Related posts

Top