في دردشة قصيرة مع محمد عبد الرحمان برادة

بين مهمة توزيع صحف حزبية وغير حزبية، وبين علاقة متميزة مع جريدة البيان، تختزن ذاكرة محمد عبد الرحمان برادة محطات من مسار مهني حافل لجريدة البيان. لا يخفي محمد برادة الذي كسر احتكار التوزيع، بحسه التنظيمي وحنكته في التدبير والتوزيع، حبه للبيان، وإعجابه بطريقة قهرها للمصاعب والعقبات. يروي، في هذه الدردشة القصيرة، علاقته بجريدة البيان، ومواكبته لبعض من محطاتها وعلاقته بمديرها الأسبق الراحل علي يعته.

علاقة «سابريس» بالجرائد الحزبية قديمة ووطيدة كما يعرف الجميع. ما الذي تختزنه ذاكرتكم كمدير سابق لهذه الشركة حول العلاقة بجريدة البيان؟

أعتز بكوني ساهمت في عملية انتشار جريدة البيان التي تعتبر من الجرائد الرائدة التي كان يديرها أحد الزعماء الكبار على يعتة، وأحد المدافعين الشجعان عن حرية التعبير، وعن الديمقراطية، وعن الوطنية.
لم يكن لسابريس أن ترى النور بدون البيان وبدون علي يعتة وآخرين. فقد أسست» سابريس» إلى جانب الأساتذة علي يعتة ومحمد اليازغي وحفيظ القادري وآخرين بهدف مكافحة احتكار التوزيع، ودعم الصحف التي عانت من ظروف صعبة، ومن أجل مساندة العمل الصحفي الوطني الملتزم، و تقريب الكلمة من القراء.
عرفت جريدة البيان منذ بدايتها الأولى، بنسختيها العربية والفرنسية. ظلت مواظبة على الصدور، واضعة نصب عينيها تنوير الفكر المغربي، وتربية الأجيال على الوطنية الحقة.
البيان ناضلت، منذ سبعينات القرن الماضي، وقاومت ببسالة رغم تعرضها للمنع والمضايقات في فترة كان إصدار جريدة يعتبر مخاطرة صعبة جدا. فقد مر المغرب من سنوات عجاف لا يمكن نعت من يجرؤ على إصدار جريدة إلا بمن يدخل مغامرة غير محسوبة العواقب.
في سنوات السبعينات والثمانينات واجهت هذه الجريدة مضايقات وصعوبات على جميع المستويات الجسدية والمادية. ومع ذلك، وبإمكانيات بسيطة جدا، وبفضل همة عمالها وصحافييها ومناضلي الحزب وقياداته، تم السهر والحرص على مواصلة الصدور. لم تكن البيان تضم، في تلك الفترة، صحافيين محترفين من خريجي المعهد العالي للصحافة، بل مناضلين وطنيين غيورين، يكتبون مقالات في الصميم، قريبة من نبض المجتمع، بحرفة عالية وأسلوب راق، وأيضا بقناعة وتمسك بالمبادئ.
كانت مقالات البيان دروسا للتربية الوطنية، وافتتاحياتها قمة في التعبير الصادق عن قضايا الوطن. وأصارحكم أن خزانتي تحتفظ ببعض افتتاحيات هذه الجريدة، لا أفرط فيها على غرار عدد من الأصدقاء.
كانت جريدة البيان، حقيقة، مدرسة في التربية على الوطنية وعلى المسؤولية تجاه الوطن. وهي لاتزال إلى اليوم مثالا للجريدة الوطنية المناضلة. أرجو لها طول العمر والاستمرار ولو أن الظروف تغيرت. فنحن اليوم نعيش فترة انتقالية بالنسبة للصحافة الورقية. أرجو لها لها طول العمر. فمازال أمامها أشياء كثيرة يجب أن تناضل من أجلها كجريدة حزبية.

هل تعتقدون أن لجريدة البيان ونظيراتها الناطقة باسم الأحزاب الوطنية ما يميزها داخل مشهد إعلامي يعج بالجرائد غير الحزبية؟

في نظري، كل صحيفة حزبية تعكس وضعية الحزب الذي تنطق باسمه. وكل صحيفة من هذه الصحف يرجع لها الفضل في استمرارية الصحافة الوطنية. فهي، بدون مبالغة، جزء من تاريخ المغرب المعاصر ولولاها لما كانت هناك صحافة اليوم.
في سنة 1977 عندما أنشأنا شركة «سابريس» كانت أغلب الجرائد حزبية، مقابل أخرى غير حزبية، عددها قليلة لكن إمكانياتها كانت كبيرة، تفوق بكثير الإمكانات المتواضعة لجريدة البيان ولمثيلاتها من الجرائد الناطقة باسم الأحزاب الوطنية.
ومع ذلك كان لهذه لجرائد الحزبية هالة كبيرة وانتشار واسع، عكس ما نشهده اليوم من واقع يعود لعوامل متشابكة.
فقد تكون الأحزاب أصابها بعض الفتور، وقد يرجع السبب إلى تغير الظروف عن السابق. لكن لا يجب مطلقا أن ننسى أنه بفضل هذه الأحزاب وجرائدها وصلنا الى ما وصلنا اليه من حرية التعبير، ومن ديمقراطية ومن تطور في بلادنا طال الإعلام نفسه.
وفي اعتقادي أن جريدة البيان وغيرها من الجرائد الحزبية لازال بمقدورها تحقيق النهضة شريطة أن الأحزاب الوطنية مرحلتها الصعبة. فالعلاقة وطيدة بين الاثنين. الجرائد تعكس وضعية الأحزاب، والعكس بالعكس.
أتمنى أن تنقشع هذه الغيمة، وتستعيد الأحزاب الوطنية صولاتها وجولاتها، وأن تستعيد مكانتها في المشهد الوطني، وبالتالي ستعود الصحف الحزبية لمواصلة أدوارها الطلائعية داخل المشهد الإعلامي الوطني.
ماذا عن ذكرياتكم الحميمية مع البيان وعلي يعته؟

كان سي علي يعتة جار لي في المسكن بحي الوازيس. بيتي بجانب بيته. وهو ما كان يسمح لي بلقائه خارج المكتب. كانت أحاسيس خاصة تغمرني عند لقائه. أستفيد من أفكاره واقتراحاته ومواقفه.
طيلة علاقاتي بالبيان وبهذا الزعيم الكبير كنت أزداد يقينا أنني أمام صحيفة متميزة وأمام مدير حقيقي، ورئيس التحرير نادر، ومدير مطبعة عملي، ومدير مؤسسة بكاملها، مسؤول عن ماليتها وعن اللوجستيك، يتدخل في كل شيء بدقة متناهية.
عندما كنت أزوره جريدة البيان، أمر على مكتب علي يعتة، فأجده قد ضاق بأكوام من الورق. كان المكتب عبارة عن فوضى، لكنها منظمة، لكون صاحب المكتب كان يعرف كيف يدبر هذه الأكوام.
سألته مرة عن رسالة بعثتها له وحسبت أنني أخطأت في السؤال لأنني سأكبد الرجل مشاق البحث. لكنه فاجأني. فسرعان ما امتدت يده وسط ركام الورق ليسحب الرسالة التي سبق له أن اطلع على فحواها. كان .له أسلوب الخاص الذي يرغمك على التساؤل: كيف لرجل واحد أن يقوم بكل هذه الأعمال، وكيف له أن يجمع بين يم الغوص في يم السياسة والخوض في بحر هائج اسمه تدبير شؤون جريدتين ناطقتين باسم الحزب. لم يكن الجواب سريعا. فبفعل لقاءات المتكررة بسي علي الذي رأيته مرارا مثقلا بمفاتيح كثيرة منها مفتاح مكتبه والمطبعة، وبفعل أجوبته السريعة على أسئلة من قبيل سعر الورق وكميات السحب وحاجيات طبع الجريدة، أدركت أنني أمام مدير استثنائي لجريدة البيان ومسؤول سياسي عن مطابعها. كنت دائما أقول هل هذا الرجل مدير، أم صحفي، أم زعيم حزب، أم مناضل، أم برلماني أم رب أسرة. واليوم أؤكد أنه كان كل هذا في آن واحد، بل كان أكبر من ذلك كله.
في عهده، لم تكن جريدة البيان مقاولة صحفية بالمفهوم التجاري المحض. لم تكن تسعى لبيع المواقف مقابل الحصول على الإعلانات. البيان كانت تسمو فوق الأهداف المادية. صحيح أنها كانت في حاجة ماسة لدراهم الإعلانات من أجل إتمام أداء أجور العمال والصحفيين، عند نهاية كل أسبوعين، وصحيح أنها كانت أحوج ما تكون لهذه الدراهم من أجل ضمان استمرارية دوران المطبعة من خلال تزويدها بالورق وبالمواد الأولية، وصحيح أنها كانت أحوج لهذه الدراهم لتمويل الأنشطة النضالية للحزب، لكنها نأت بنفسها عن كل ذلك، وظلت البيان وفية لمبادئها ومخلصة لتوجهاتها، ما جعلها تحضى بمصداقية وثقة كبيرين. كانت أرقام مبيعاتها متواضعة نسبيا لكن وقعها داخل المشهد الوطني والسياسي كان كبيرا جدا، وستظل كذلك، وأتمنى لها الاستمرارية على هذا النهج.

 تصوير : عقيل مكاو

Related posts

Top