في وداع 2018 واستقبال 2019

دخلت الحالة الفلسطينية العام 2018 تحت وطأة قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها، واختار لذلك ذكرى النكبة، ممعناً في تحدي الحالة الفلسطينية والعربية والمسلمة دون استثناء. وألحق ذلك بالإعلان عن شطب القدس من ملف المفاوضات، ثم تطويق قضية اللاجئين، وشطب حق العودة، من مدخل محاصرة وكالة الغوث، فضلاً عن إغلاق مكتب م.ت.ف في واشنطن، ووقف تمويل السلطة (إلا الأجهزة الأمنية لدورها في التعاون مع سلطات الاحتلال ووكالة المخابرات الأميركية) ودفع عواصم أخرى لتحذو حذوه، بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وإسقاط حق الشعب الفلسطيني فيها.
بالعودة إلى ما قيل وكتب في الإعلام الرسمي العربي، وإعلام السلطة الفلسطينية عن القدس، كان متوقعاً أن تقود خطوات ترامب إلى ردود فعل صاخبة. لكن اكتفت هذه الردود بمؤتمرات وبيانات، دون أية خطوة عملية، من شأنها أن تشكل رداً عملياً وميدانياً وفاعلاً على الخطوات الأميركية ما أظهر خطورة المرحلة، وخطورة ما تحمله من تحديات كبرى أمام الشعب الفلسطيني. وما أوحى، في الوقت نفسه، أن العام 2018 سيكون، بلا شك، عاماً فلسطينياً بامتياز، ستكون قضيته على جدول الأعمال، لكن بطريقة مختلفة هذه المرة.
إذ بدلاً من الدعوة لمفاوضات، تستعيد ما سبق، تخطت الولايات المتحدة، بالتحالف مع حكومة نتنياهو، اتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي، وشرعت بتنفيذ خطوات ميدانية، هي في الواقع تطبيق لما تراه واشنطن وما يراه نتنياهو حلاً لما يسمى «قضايا الحل الدائم»، لكن من جانب واحد، وبقوة الحديد والنار، والضغط السياسي والمالي، ومن خلال عمليات تطويق سياسية للحالة الفلسطينية، كان فيها دور ملحوظ للاتحاد الأوروبي، ولعواصم عربية وشرق أوسطية، قدمت «نصائحها» إلى القيادة الرسمية الفلسطينية، بعدم الذهاب بعيداً في تحدي الولايات المتحدة، كما حذرتها من أية خطوة قد تبدو وكأنها تقلب الطاولة في وجه واشنطن أو تل أبيب، أو تعيد خلط الأوراق في المنطقة. كما أسرت إليها أن للجانب الفلسطيني «حصة» مرصودة في «صفقة ترامب»، تحدث عنها غرينبلات مطولاً، حين وعد الفلسطينيين، في مقال له، بجنة اقتصادية، من شأنها أن ترفع من مستوى معيشتهم وأن توفر لهم الفرصة لبناء اقتصاد مزدهر، دون أن يأتي على ذكر الصيغة السياسية التي سوف ترسو عليها الحالة الفلسطينية في «صفقة العصر»، وإن كان نتنياهو، تولى هذا الأمر، حين أكد أكثر من مرة، أن «لا دولة ثالثة» بين الأردن وإسرائيل، وأن سقف الحل السياسي الفلسطيني هو كما يقترحه نتنياهو، هو «حكم ذاتي موسع»، على السكان، تكون مرجعيته دولة الاحتلال، أو في أحسن الأحوال، يلحق بالضفة الشرقية للأردن، في صيغة سياسية معينة.
* * *
تحت وطأة الصدمة الأميركية، وفي ظل سقوط رهانها على الدور الأميركي لحل الصراع مع إسرائيل، وقفت القيادة الرسمية مشلولة، بينما انطلق الميدان في هبة جماهيرية واسعة، امتدت حيث يكون الشعب الفلسطيني، في أنحاء فلسطين (بشقيها 48 و67) والشتات. وقد جاءت قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في (15/1/2018)، والوطني (30/4/2018)، لتعكس هذه الحالة، من خلال الدور الهجومي الذي اتخذته القوى الديمقراطية واليسارية والوطنية(منها الجبهة الديمقراطية التي شاركت في الدورتين) سلسلة قرارات، ارتقت إلى مستوى التحدي، حين أعادت التأكيد على طي صفحة أوسلو، وملحقاته، والعودة إلى البرنامج الوطني في الميدان (مقاومة شعبية)، وفي المحافل الدولية، والانتقال من الرفض الكلامي لصفقة ترامب، إلى الخطوات العملية، والرد على الخطوات الميدانية الإسرائيلية الأميركية، لبناء وقائع الحل الدائم، من جانب واحد، بوقائع ميدانية معاكسة، تصون الأرض الفلسطينية من النهب والمصادرة وتغول الاستيطان، وتعزز صمود القدس في مواجهة الحصار الإسرائيلي، وتستنهض كل عناصر القوة في الميدان، في مجابهة شعبية، تنهي مرحلة «احتلال بلا كلفة» ومرحلة «سلطة خدمية»، وتضع نهاية لوضع صار فيه مسؤولو السلطة وقادتها «موظفين عند الاحتلال»، أي إعادة تنظيم الحالة الوطنية، وفق قرارات وخطوات اعتمدها المجلسان المركزي والوطني.
أسست هذه القرارات لمرحلة جديدة، من شأنها أن تنهي الانقسام، وأن تستعيد الوحدة الداخلية، وأن تضع المواقف والسياسات العربية والإسلامية على المحك. لكن المحصلة أن هذه القرارات والتوجهات، كشفت حدود موقف القيادة الرسمية و«المطبخ السياسي»، وعجزها عن تجاوز المعارضة الكلامية لصفقة العصر وسياسات حكومة نتنياهو، وتمسكها بالواقع القائم، ورفضها مغادرته نحو واقع جديد، وتمسكها بمصالحها الفئوية، والطبقية، على حساب المصالح الوطنية العليا. وقد عبرت عن ذلك، حين انقلبت على قرارات المجلس المركزي (15/1/2018) والوطني (30/4/2018) بالتمسك ببقايا أسلو، عبر ما بات يعرف بـ «رؤية الرئيس» التي قدمها رئيس السلطة إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، دعا فيها إلى استئناف المفاوضات الثنائية، مستعداً، على حد قوله، للعودة فوراً إلى مفاوضات، أعلنية كانت أم سرية.
* * *

بعد ساعات قليلة، يحزم العام 2018 حقائبه ويرحل ليخلي مكانه لعام جديد، يبدو فيه المشهد الفلسطيني على الشكل التالي:
• أن إنهاء الانقسام بين فتح وحماس بات أكثر تعقيداً، خاصة في ظل التطورات الأخيرة في قطاع غزة، وما جاء على لسان رئيس السلطة في «الاجتماع القيادي» الفلسطيني (22/12/2018) من خيار صفري. ما يعني أن تداعيات الانقسام سوف تتواصل، ولن تكف عن أن تشكل صداعاً دائماً للحالة الفلسطينية وبوابة للتدخل الخارجي على تلاوينه، في الشأن الفلسطيني.
• (غير) أن هذا لا يغلق الطريق أمام تنفيذ قرارات طي صفحة أوسلو. فالمجلسان المركزي والوطني، حين اتخذا هذا القرار لم يشترطا إنهاء الانقسام أولاً. ما يعني أن تنفيذ هذه القرارات، لا يتطلب الانتظار لحين حل مسألة الانقسام. بل إن تنفيذها من شأنه أن يعجل في معالجة الحالة الانقسامية.
• القيادة الرسمية الفلسطينية تعمل على «تأهيل» الوضع، لاستقبال استحقاقات «صفقة العصر»، من بوابة أسلو، بحثاً عن تقاطعات ممكنة بين المشروعين. ولم يكن كلام وزير خارجية السلطة مجانياً في موسكو حين أكد أن القيادة الفلسطينية تنتظر الإعلان عن الصفقة، وفي حال أنها «تكفل لنا الحقوق سوف نوافق عليها»، وفي حال «لا توفر هذه الحقوق سنرفضها». متجاهلاً أن الصفقة دخلت طور التطبيق، فصلاً فصلاً، ولم يبقَ إلا الفصل الأخير، حين يتوجب حضور «الممثل» الفلسطيني، ليشارك في مشهد الختام. هذا القول، لوزير خارجية السلطة، هو في حقيقته رهان على الصفقة، وليس شئناً آخر.
• من ضمن عملية التأهيل، تفكيك أكثر للسلطة ولمنظمة التحرير، وتوسيع دائرة التفرد والانفراد، والتهميش والإقصاء للأطراف الأخرى. والأكثر خطورة، هو التجرؤ، على لسان رئيس السلطة، ومساعديه، في وصف المشهد الجماهيري في الأسبوع الساخن، في منتصف كانون الأول أنه «أعمال فوضى» تقوم بها حماس، وذلك تمهيداً، منذ الآن، لدور من السلطة في قمع الحراك الشعبي، وكل مظاهر المقاومة الشعبية، تحت الذريعة نفسها: «فوضى تصدرها حماس إلى الضفة الفلسطينية».
وأخيراً، وليس آخراً، أياً كانت الملفات التي ستطفو على السطح، سيبقى الملف الأول، والذي لا ينافسه ملف آخر، هو أن تتحمل القوى اليسارية والديمقراطية والوطنية، والحالة الشعبية بأوسع فئاتها، واجبها في مقاومة الاحتلال والاستيطان، وطي صفحة أوسلو، والضغط لتطبيق قرارات إعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل، سياسياً، وأمنياً، واقتصاديا، والتزام البرنامج الوطني، بديلاً لأية خيارات أخرى.

> معتصم حمادة

Related posts

Top