قراءة في أفلام اليوم الثاني من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة

الميمات الثلاث

سعى المخرج سعد الشرايبي في شريطه السينمائي الأخير “الميمات الثلاث، قصة ناقصة” إلى أن يبسط أبرز الأحداث السياسية المفصلية التي طبعت العالم على امتداد مائة سنة تقريبا، إلى حدود الحراك الاجتماعي المعروف بالربيع العربي.
وقد وضع الصراع العربي الإسرائيلي في مقدمة هذه الأحداث، وتوقف عند العديد من المراحل التي قطعها، بمعنى أنه أولى هذا الجانب أهمية أكثر من غيره من الأحداث، ولذلك دلالة معينة أراد إبلاغها، وهي أن هذا الصراع هو السبب الرئيسي لمظاهر التطرف وما ينتج عنه من مآسي متكررة.
وبطبيعة الحال فقد تم استحضار مشاهد من الأعمال الإرهابية التي اجتاحت العالم، ومنها أحداث الدار البيضاء.
يمكن القول إن هذا الشريط بمثابة مزيج من التخييل والتوثيق، على اعتبار أنه تضمن لقطات من الأنشطة السياسية لعدة رؤساء كان لهم تأثير قوي في تغيير مجرى الأحداث الدولية، وبالموازاة مع ذلك، يعرض الشريط الحياة اليومية العادية لمجموعة من الأصدقاء الذين لديهم أحلامهم وطموحاتهم الخاصة التي لا تجعلهم منفصلين عن ما يجري من تحولات، سواء في ما يتعلق بالسياسة الوطنية أو الدولية، ويعلنون عن انفعالاتهم إزاء مجموعة من القرارات الحاسمة والخطيرة التي اتخذها بعض المسؤولين السياسيين والتي كانت في نظرهم غير صائبة، لكن مع ذلك كانوا يواصلون حياتهم الروتينية العادية.
الصداقة التي تجمع بين هؤلاء الشبان -الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الميم، ومن هنا جاءت تسمية الشريط بالميمات الثلاث- مطبوعة بشيء مميز وهو أنهم ينتمون إلى ديانات مختلفة: المسيحية واليهودية والإسلامية، مما سيجعلهم مختلفين في ما يتصل بطبيعة التفاعل مع الأحداث الدولية ذات الخصوصية السياسية بالأساس، وهو ما جعل الخط الدرامي للشريط يتسم بتلك الدرجة من التوتر والصراع وبالتالي خلق المتعة والتشويق لدى المتفرج ودفعه إلى التفكير حول مدى صواب هذا الموقف أو ذاك.
يمكن القول إن مخرج هذا الشريط قد وضع عصارة تجربته السينمائية التي حقق من خلالها تراكما يعتد به، لا ننسى أنه يعد من رواد الحركة السينمائية ببلادنا، وتتجلى هذه العصارة في تقديم منتوج يضم كل مقومات الإبداع السينمائي، ففي هذا الشريط، كان لنا موعد مع التخييل والتوثيق وهما يسيران بشكل متواز تقريبا، حضرت الموسيقى بمختلف تلويناتها، جعلتنا نستحضر حقبة من تاريخ الموسيقى المغربية: تجربة ناس الغيوان وغيرها، مثلما حضرت العلاقات الإنسانية الطافحة بالحب، حضر الشعر ومشاعر الحنين والخوف والقلق وما إلى ذلك، ورغم أن هذا الشريط يعد الأطول من بين كل الأفلام المشاركة ضمن المسابقة الرسمية لهذه الدورة، مدته ساعتان، فقد ظل يمنح الانطباع بأنه لم يكتمل، على اعتبار أن مخرجه سعى إلى أن يبسط أمامنا عدة تجارب تغطي حقبة زمنية طويلة، مائة سنة تقريبا، سواء ما يتعلق منها بما هو وطني أو دولي.

جمال عفينة

هناك نوع من الأفلام حين عرضها خصوصا في مثل هذا المهرجان، تدفعنا إلى التساؤل حول الهدف من الإبداع السينمائي، هل ينبغي أن تكون من ورائه رسالة ما؟ هل الأحداث التي يعرضها ينبغي أن تكون لها دلالة معينة أم أن الأهم هو أسلوب الحكي؟ وماذا لو كان الشريط لا يحكي شيئا؟ أسئلة عديدة تفرضها بعض الأفلام، كما هو الحال بالنسبة لشريط “جمال عفينة” لمخرجه ياسين ماركو، عنوان الشريط يحمل اسم الشخصية الرئيسية التي سيتم استضافتها في برنامج إذاعي لسرد جوانب من تجربتها الحياتية التي ستكون مثيرة لفضول مستمعي هذا البرنامج، يحدث هذا الاهتمام بتجربة حياتية تافهة في وقت نجد فيه هؤلاء المستمعين يعيشون في وضع صعب يستدعي التغيير، لقد أفلح مخرج هذا الشريط أن يقدم لنا عالما مليئا بالعفن والقذارة يفوق كل تصور، الشيء الذي يمنح الانطباع أننا إزاء عالم سوريالي بكل ما في الكلمة من معنى، المشاهد تتوالى دون أن يكون بينها أي رابط بالضرورة، من شأنه أن يخدم تطور الخط الدرامي، مشاهد موظفة بالأساس لتعبر عن واقع يتصف بالبشاعة إلى حد لا يطاق، لعل الخيط الناظم لأحداث الشريط، هو تلك البشاعة تحديدا، انطلاقا من جفاف الأرض، والوجود السلبي للمواطنين، والتخلي عن القيام بالمسؤولية والتسلط إلى غير ذلك من مظاهر البشاعة. وفي مقابل ذلك، ولأجل تكسير الخط الدرامي الذي يبعث على الملل والضجر، لجأ المخرج إلى عرض مشاهد من عالم آخر مختلف تماما، عالم حضاري يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي هاجر إليها بطل الشريط بفضل مشاركته في القرعة التي عادة ما يتم تنظيمها لهذا الغرض، وهناك سيستطيع أن يعيش بشكل حقيقي، لأنه تمكن من أن يستعيد إرادته التي كان مسلوبا منها في بلاده، وبالتالي سيكون من حقه أن يسرد هذه التجربة لأهاليه ويثير اهتمامهم.

حياة الأميرة

هذا هو الشريط الثاني ضمن المسابقة الرسمية للفيلم القصير، الذي يتناول موضوع بعينه، موضوع له ارتباط بمستجدات عصرنا، المقصود بذلك تلك العلاقة التي نقيمها مع وسائط الاتصال الافتراضية، فبعد فيلم “الفولار” الذي أبرز الخطورة التي يشكلها الأنترنت على الأطفال عند سوء استعمالهم له، يأتي شريط فيصل الحليمي الذي يحمل عنوان “حياة أميرة” ليبرز نفس الخطورة، وذلك من خلال تسليط الضوء على عاملة البيت المراهقة التي تستغل غياب أصحاب المنزل، لتصور نفسها بالمباشر عبر وسائط الاتصال الاجتماعية وتقدم نفسها باعتبارها تعيش حياة الأمراء، وتتلذذ بتلقي رموز الإعجاب والتعليقات التي تتغزل بها، ودعوات للقاء بها، من كل جهة، غير أنه على حين بغتة، سيعود مشغلوها، وسيكون عليها أن تذهب لتفتح لهم الباب لكن قبل ذلك هي ملزمة بأن تغير وضعها من أميرة إلى عاملة البيت، وفي غمرة ذلك ستغفل عن إغلاق التصوير المباشر، مما سيجعل أصدقاءها الافتراضيين يعلمون بحقيقة وضعها الاجتماعي، وتصير أضحوكة بينهم، مما سيشكل صدمة نفسية لها.
لقد تفوق هذا الشريط في أن يقربنا من التأثيرات السلبية التي تشكلها وسائط الاتصال الاجتماعية، في ارتباطنا معها، خصوصا عندما لا نحسن استخدامها، تم الاعتماد على بعض الإيحاءات التي تدل على أننا صرنا نسعى إلى تلقي رموز الإعجاب الافتراضية بشكل جنوني، لقد تم تصوير تلك الرموز مثل ذرات الغبار السابحة في الهواء، بمعنى أننا صرنا نستنشقها، بالإضافة على هذا الجانب من الإيحاءات الذي يتناسب جدا مع الأسلوب التكثيفي الذي تفرضه المساحة الزمنية للفيلم القصير، مدة هذا الفيلم أربعة عشر دقيقة، بالإضافة إلى ذلك، تم التركيز على الصوت الناطق لهذا العالم الافتراضي، صوت الآلة العديم الإحساس الذي صار ينطق باسمنا، يعبر بدلا من لغتنا الطبيعية، هناك وضع جديد صار يغلف علاقتنا في ما بيننا، وضع محكوم بالافتراضية ومهدد بالفضائح والتشوه.

ورق

صور لنا الشريط القصير “ورق” شخصية الإنسان باعتباره مجرد ورقة إدارية، ما دامت أنها تتحكم في مصيره. الشريط هو عبارة عن محاولة انتحار، نتيجة ضغوط العمل، إذ كان على الموظف أن يبحث عن حل في أجل أربع وعشرين ساعة، للخروج من الورطة الإدارية. وعندما تشتد عليه الضغوط ولا يجد حلا مع اقتراب نهاية الأجل المحدد له، يقطع صلته بالعالم الخارجي، ويرفض الرد على المكالمات الهاتفية، رغم أنها كانت تحمل له البشرى بالفرج، وفي أثناء ذلك سيتم التركيز على إبراز معاناته النفسية وارتباكه وحيرته في الطريقة المثلى لوضع حد لحياته، سيجرب عدة أشكال من الانتحار، مما سيطبع الشريط بروح التشويق والمتعة، سيما وأن الممثل عبدو المسناوي أجاد في تشخيص دوره وفي تقمص شخصية إنسان مؤزم مقبل على الانتحار، يحمل أوراقه الإدارية ويتوجه إلى شرفة العمارة ويتهيأ للإلقاء بنفسه من أعلى الطوابق.
وكما هو شأن الأفلام القصيرة، فقد تم اللجوء إلى الإيحاء من خلال إظهار سقوط أو انتحار الأوراق الإدارية بدل الشخص الذي كان ينوي القيام بهذا الفعل، وهو ما أضفى شحنة إبداعية خاصة على نهاية الشريط.
***
لعل من بين الملاحظات الأساسية التي يمكن تسجيلها على الأشرطة الأربعة التي برمجت خلال هذا اليوم، هو أنها تشترك في إبراز وضع مختل، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا نفسيا أو غير ذلك، وعادة ما تكون النهاية مفتوحة، بمعنى أنه لا يتم الإجابة عن التساؤلات التي تطرحها أحداث كل فيلم على حدة.

 عبد العالي بركات

Related posts

Top