قراءة في ديوان “شي كلام فشوني” للشاعرة حليمة حريري

بعد انتهائي من قراءة هذا الديوان الشعري الزجلي الموسوم بعنوان “شي كلام فشوني” لصاحبته الشاعرة والزجالة “حليمة حريري”، ارتأيت أن أكتب قراءة بسيطة لما أثار انتباهي فيه، اختيار الشاعرة لهذا العنوان، ثم غلاف الكتاب، والموضوعات التي جاءت فيه، كل هاته العناصر استفزت أفكاري، مما جعلني أخط هذا المقال.. جذبتني عدة قصائد، وأذهلني أسلوب الكاتبة في صوغ أفكارها واللعب بالكلمات، تتفنن الزجل، تلك اللغة العامية التي تحاكي الواقع المعاش، بأحاسيس تجعل القارئ يسافر مع كل كلمة، ويتذوق معناها، سواء كانت تدل على الفرح أم الحزن. 

أما بالنسبة لصورة الغلاف؛ فنلاحظ أن الكاتبة اختارت أن تكون المساحة الأكبر والفارغة منه باللون الأبيض، وكما نعلم أن هذا اللون له دلالات متعددة، منها التعبير عن الحياة واتساعها، وكذلك التعبير عن الهدوء، ربما الشاعرة اختارت اللون الأبيض للتعبر عن الشعور بالفراغ الفسيح، الذي يعتريها من الداخل، رغم شساعة الكون نجدها تهرب من زخم الحياة، ثم انعزالها في ركن خاص، ربما لإعادة ترتيب الأفكار من جديد، وذلك واضح أمامنا، فإذا أمعنا النظر؛ سنجد أن في الوسط تنحصر صورتها الشخصية في خانة، واختيار الشاعرة أن تكون صورتها ضمن الغلاف، له ما فيه من معاني، بالإضافة إلا أنه لا يحيط بها أشخاص، دلالة على الصمود، وحدها قادرة على النهوض بعد كل تعثر، اختارت أن تقف رغم كل شيء، بنظرة كبرياء وقوة، متمسكة بكاتمة أسرارها.. ورقة صامتة مثلها، وِقفتُها تلك كأنها تقول لضوء النهار قف ولا تمضي.. تبتسم ابتسامة خفيفة، ثم تضم اللحظة بين يديها تعانق النهار، خوفا من شبح الليل الموحش، تقول في زجليتها “الليل” (ص:29-32):

فيق يا الليل

فيق يا الليل

ظلامك تنهيدة تنين

ضبرة بين لكتاف ما وصلوها يدين

سولتك يا الليل

علاش تخون

وبكانا عليك يهون

يضيع رجنا فالصباح

ضو مطعون

خلف الشاعرة يوجد جدار، بينه وبينها بضع حمامات، فالجدار يدل على الحاجز والحمام يدل على السلام، وهذا كله يدل على أن الشاعرة سجينة ذكريات، تبحث لها عن السلام النفسي..

كما نلاحظ أن تلك الخانة التي تحتوي صورة الشاعرة، محاطة بخطين أصفرين عريضين، وكما نعلم أن اللون الأصفر يدل على الشحوب والذبول.. شخص عزيز على قلبها رحل، خطفه الموت، وتركها وسط ذبول وحزن دفين، لكن ليس الموت وحده ما يوجعها، فاللون الأصفر يرمز أيضا إلى غدر الأحبة، ووجع الحياة، والأمل الذي مازال يشع داخلها، وبالحب الذي يغمر قلبها رغم التعب، وانتظارها لبزوغ فجر جديد يعيد كل شيء لما كان عليه، كأن شيئا لم يحدث، كأن قلبا لم يكسر، وكأن عزيزا لم يرحل، وحبيبا لم يغدر، والليل الموحش لا يأتي.. تتمنى لو أن كل شيء كان حلما تستفيق منه، تقول في زجليتها الموسومة بعنوان “شكون سمعك يا الحلمة؟” (ص:98):

كون كانت لحلمة ضي يضوي

تكون سعد لوعدي يروي

كون كانت لحلمة تدوي

تسوس باسها من شيب راسها

وتكول للكمرة ولي

من حر ذيك الغصة

أنا نضوي

ترتدي الشاعرة اللون الأصفر، وهذا يؤكد ما قلته سابقا؛ ترتدي رداء الذبول، وعلى رأسها وشاح الحزن معلنة الحداد، لكنها تخفي ألمها بابتسامة، فاللون الأسود له دلالات عميقة، كعمق الشاعرة، وقوة شخصيتها الواضح من وِقفتِها المتمردة، وجاذبية كلماتها الساحرة. 

اختارت أن يكون العنوان أسفل الصورة، بخط عريض يمزج بين اللونين الأصفر والأسود، يقتصر على كلمات مختصرة في المبنى، عميقة في المعنى، “شي كلام ف شوني” عندما نقول إن هناك كلاما مخزنا في الصدر؛ يوحي الأمر إلى أن كلاما بعدد قطرات المطر، بحجم البحار وعمقها، يعجز فاهنا عن البوح به، كما تقول الشاعرة في زجليتها “سربة الكلام” (ص:48-50):

مات فينا الكلام

ودفنا الحروف الحامية الداوية

حينت إلى تقادى الكلام

وداه لهبال الهتوف

فالحضرة ك يتعلق الشوف..

أما غلاف الصفحة الأخيرة من الكتاب، نجده كاملا باللون الأصفر، وفي أعلى الصفحة توجد صورة لشخصين، الشاعرة وسند الظهر أبوها، الذي خطفه الموت تاركا خلفه جرحا عميقا في قلب ابنته، فإذا ربطنا هذه الصورة بإهداء الشاعرة، سنفهم سر الابتسامتين معا، وتلك النظرات الشاردة المتبادلة، والمنسجمة في روح واحدة، تقول الشاعرة (الإهداء ص:3):

لذيك الشوفة الشاردة

لي فكعتها فالكلب راكدة

وهنا يتضح مدى الحرقة التي خلفها الفراق؛ حتى أشعل نار الشوق، متمنية ملاقاة تلك الروح من جديد، حيث تقول في زجليتها “شمس لغروب” (ص 6-8):

تمنيتك تكون حلمة فياقي

على ذاك العاهد باقي..

تمنيت

وتسنيت

ذيك لحلمة

تمسح الدمعة

ترجع للذات

سر بسمة

فالراحل ترك صورته محفورة في الذاكرة، صوت، وضحكة يترددان في كل الأمكنة، ودموع حارقة وأنين.. تقول في زجليتها “الموت” (ص33-34):

اخايت يا الموت يا عطابة لقلوب

يا لمسيلة الدمعة عل لخدود..

اخاااايت يا الموت

ديري ما بغيتي فالقلوب

شحال من حديث خليتيه غصة ف لحلق ممدود

شحال من كلام بهات يتسنى طلوع النهار

خطفاتو عجاجتك دفنتيه ف الظلام..

الصورة تشرح نفسها، تلك النظرة الشاردة التي تحمل في طياتها الكثير من الكلام، فالعين تقول ما لا ينطق به اللسان، ذلك البؤبؤ وسط العين ببريقه اللامع كالقمر المضيء في الليل وسط السماء، نور يجذب ويعجب الناظرين له؛ لكن لا أحد يعلم أن ذلك اللمعان يحرق جوفه ليضيء، كذلك البريق اللامع في العين يحرق المقلتين، فتخلفان ندوبا كالطريق، يسلك من خلالها الدمع إلى جوف القلب، فيضخه ضخا؛ ثم يختلط بدمه، لِيُكَوِّنَا معًا مداد قلمٍ يخط الكلمات الحارقة في الصدر على الورق، في حين يصمت اللسان عن النطق، تاركا التعبير للحواس الأخرى؛ تقول في زجليتها “كبل… ما..” (ص 9-10):

كبل ما هاذ الكلب بيك يمرض

ؤتعشعش الرتيلة ف فم السكات

نولي غبار لخطوة

والشوفة في كفات

الحس يولي همس

يتلف اللمسات

يبقى السؤال معلق الشوفات

ؤالجواب مسبق ميمو.. 

كبل.. ما..

كما أثارني الجانب الجمالي للكتاب، خاصة الجهة التي تحمل سيرة الكاتبة وإبداعاتها، وهي على شكل مطوية؛ وهذا نجد فيه من التجديد والإبداع ما يجذب المتلقي.

وبعد اطلاعي على قائمة الفهرس وجدت أن الموضوعات التي اختارت الكاتبة الحديث عنها، كلها موضوعات يغلب عليها الحزن، لها بعد ذاتي شغل نفس الشاعرة واستطاعت البوح به، بعد ما كان أسير النفس، نجد أنها اختارت بعض الألفاظ الصعبة؛ وذلك لتبين مدى عمق المعنى ودلالته، وقد نجحت في إيصال إحساسها، والتأثير على القارئ، واستفزاز أفكاره، وهذا ذكاء منها ليبحث عن الجواب؛ ومثال على ذلك افتتاحها الديوان بسؤال، كلمات مقتطفة من الزجلية التي تحمل عنوان “مر لكلام” (ص:11):

واش الرمل يغمل

ؤهو مغسول بملح البحر؟

واش الكلب يبرد نارو

كلام عمرو كد رفة الشفر؟

بقلم: لبنى جباري

Related posts

Top