قراءة في رواية ” المدينة التي … ” للكاتب المغربي هشام ناجح

أول ما يمكن أن نستهل به هذه القراءة هو اسم الكاتب الذي استطاع أن يبصم اسمه في خانة أبرز كتاب الرواية والقصة، من خلال التحف التي أغنى بها الخزانة الأدبية خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يجعلنا نتفاعل مع هذا الاختيار عبر رواية ” المدينة التي ..”، إنه بكل بساطة ابن مدينة التاريخ، مدينة التعايش، مدينة الجديدة، ” هشام ناجح “، قال عنه الأستاذ محمد داني: “قراءة هشام ناجح، قراءة متعة ودخول عالمه السردي جولة لا تخلو من لذة واستمتاع لذيذ”.
رواية “المدينة التي..” جاءت فاضحة تعكس لنا حال المجتمع وما يشوبه من مفارقات، وصورة تجسد واقعا ساد ومازال بدون مساحيق، رواية فاضحة لفترات زمنية متباعدة وإن كانت متسلسلة، رحلة من أيام الحماية الفرنسية بالأراضي المغربية وما بعد الاستقلال، إلى حدود سنوات الثمانينات من القرن العشرين، جاعلا من علاقة الإنسان بالمكان -المدينة- هي أكثر صورها وبالتالي تكون المدينة لدى هشام ناجح سوى البشر، كما قال “وليام شكسبير” وينطلي نفس السياق على عدد من الروائيين الذين قاربوا المدن بهذه المقاربة الجريئة، كـ “المبنع” للكاتبة اين رائد و “المدن اللامرئية” للكاتب إيتالو كالفينو.
لقد انطلق هشام ناجح في روايته من حكي راو، إبان أيام المجاعة التي شهدها المغرب، ورحيل شخصيته إلى مدينة الدار البيضاء، “برني” لتتغير حياته عبر فصول درامية، من السكن بالكاريان، رفقة أسرة مغلوبة على أمرها يزاحمها الفقر والمرض، ليخرج للعمل بالميناء بأجر زهيد من خلال بيع السجائر والخمر رغم المنع الذي طاله من شرطي الميناء الذي صوره في عدد من المواقف بأقبح الصور المجسدة للمخزن، ثم بائع جرائد عن طريق وساطة حسن الأعور، ليقتحم بنا هشام عالم جديد انفتح لبطل الرواية، عالم الجنس والإبحار فيه، بلغة تصويرية محملة بروح شاعرية جميلة تشد القارئ إلى قراءتها بكل أريحية واستمتاع و يعيش أحداثها وحواراتها بنفس خيالي، مما يجعل البعض قد يصنفها ضمن قائمة أدب الخطاب الجنسي بعيدا عن الحمولة التي تحملها الرواية والمتجسد خلال حقبة الحماية الفرنسية وما بعدها، نتيجة حضور الجنس في الرواية بشكل “إيروتيكي” صور الحب الجسدي وأنماط جنسية بأسلوب دقيق، يحيلنا على رواية ” اللوتس الذهبي ” للروائي الصيني “وانغ شيه شنغ” المشبعة بالرغبة الجنسية العارمة والجامحة، والجسد والانتشاء ما بين خمر ومجون طائش، وتجارب جنسية عابثة ظامئة، تتلوى على وتر الشره والافتتان، ” أدخلت حليمة يدها محاسني وقالت: يان ينام ولدك، هل يحتضن بيضتيه”، لينطلق في وصف البيت الذي احتضنهما تلك الليلة، و لم يكتف بذلك، حين صور صورة المرأة في أمه التي مات زوجها و تزوجت بائع الفحم، وقال عنها أنها عاشقة للجنس، ” أشبع المرأة في فرجها ولا تشبعها في بطنها “فرواية” المدينة التي … ” للقاص والكاتب هشام ناجح لا نظن أن حضور الجنس فيها يكفي وصفها برواية «إيروتيكية»، في حد ذاتها، بل هي تمثيل لموقف من حياة عينة من البشر في زمن معين ومن الإنسان كإنسان، موزعا قيم الجسد والآخر في حياتنا، ضمن مغالاة في تصوير المتعة أحيانا لتسويق صورة عن الآخر في خاصية تمثل التوثيق الزماني والمكاني، وتأجيج لمشاعر القارئ ليبدأ في تفكيكها وإعادة بنائها من جديد على الشكل الذي يريده.
هي رواية سهلة الفهم بالنسبة للقارئ، فبنيتها الأسلوبية والسردية تجعلنا نصنفها من أهم الروايات التي يجب قراءتها ودراستها، كونها تعتبر رواية تاريخية أكثر من كونها واقعية، تعالج واقعا معينا في ظرفية تاريخية استعمارية من طرف المستعمر الفرنسي، وما بعدها، تحمل في طياتها مجموعة من القيم الإنسانية، من قبيل الحرية والهوية الوطنية، والديمقراطية والمساواة، الكرامة والإيمان بالنجاح والانتصار، فرغم تعلق بطل الرواية بالفرنسية ستيفاني يبقى متشبثا بوطنية، وهي المشاعر التي تغيرت عند نفي ملك البلاد محمد الخامس لجزيرة مدغشقر وكورسيكا، ومعها تغيرت صورة حليمة بالنسبة إليه، وجاء عمل جديد مع المعلم الجيلالي في الصباغة.
لقد استطاع هشام ناجح وباقتدار فائق أن يضع الهامش تحت الضوء ويفتح أبوابه أمام من كانوا يمرون بمحاذاته دون أن يتطرقوا إليه بكل واقعية، رغم علمه المسبق أنه قد يجر عليه جملة من الانتقادات، رواية بجرأة نقدية للمجتمع، جعلتها علامة فارقة في المشهد الروائي المغربي، أليس هو القائل “شخصيا أسعى إلى تحرير شخوصي، وترك المساحات الشاسعات لها، حد الكشف عن وعيها، ولاوعيها المجبول بالتصعيدات أحيانا، أو عدم فهم سيرورتها من خلال طرح الأسئلة المنسجمة مع ميولاتها الجنسية، أو رؤيتها الفلسفية المنذورة لتطلعاتها أحيانا أخرى. يمكن أن أقول إنها تنقل حقها من العجيب والعصيان والإحسان، وتعيش حيواتها بين البيولوجيا والثقافة. فالشخوص الناجحة هي التي ترتبط بالحياة وتكشف عن جوانيتها بدون مركبات النقص، فتساعدنا على خلق أدب متحرر، تساهم بجسدها ونفسها في تبني الطرح الدينامي، الذي لولاه لما أمكننا أن نتطلع إلى الإنسان”.

< بقلم: محمد الصفى

Related posts

Top