قراءة في رواية “سأقذف نفسي أمامك”

لا شك أن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية اليوم أصبح لها موضع قدم بالرغم أن رموزها لم يحظوا إلا بقليل من الاهتمام النقدي، وإذا كان اسم واسيني الأعرج مثلا الأكثر حضورا، فثمة أسماء أخرى لها قيمتها الأدبية مثل طاهر وطار وبشير مفتي.. ومن الأصوات النسوية التي لم تحظ بدورها بما يليق بها من الحفاوة والتقدير ديهية لويز، روائية جزائرية من الجيل الجديد ذات الأصل الأمازيغي، فهي تحمل كل مقومات الروائي المتمكن من أدواته الفنية والسردية، قابضا بطرف الحكاية بطريقة تبعث على الاندهاش.
وإذا كانت ديهية لويز قد بدأت شاعرة فإنها تحولت إلى الكتابة السردية الطويلة، ويمكن القول إنها نجحت بشكل كبير ربما كعادة من تحول قبلها من الشعر واستطاع أن يتفوق الروائي منه على الشاعر ويمكن أن نشير مثلا إلى الشاعر المغربي محمد الأشعري الذي كتب رواية القوس والفراشة ومكنته من جائزة البوكر مناصفة. وديهية لويز هي من مواليد 1985، واسمها لويزة أزولاق نشرت روايتها الأولى سنة 2012 بعنوان – جسد يسكنني- ، كما نشرت قصصا باللغة الأمازيغية رفقة عدد من الكتاب الجزائريين والمغاربة والليبيين.. ثم تصدر روايتها الأخيرة
“سأقذف نفسي أمامك”. وديهية الاسم الذي اختارته له دلالة عميقة، فهو اسم أمازيغي لملكة من أشهر ملوك الأمازيغ، والتي قاومت الرومان والبزنطيين والعرب وحكمت كل شمال إفريقيا الغربية، وقد تحدث عنها ابن خلدون، كما قال عنها ابن عذارى المراكشي في الجزء الأول من كتابه: “جميع من بإفريقيا من الرومان خائفون وجميع الأمازيغ لها مطيعون”.
لم يكن إذن اختيار هذا الاسم الأدبي للكاتبة صدفة، ولكنه دليل على الارتباط التاريخي الذي يضرب جذوره عميقا في التاريخ. ديهية لويز أو ديهية أزولاق روائية جزائرية من الجيل الجديد من الكتاب، الذي استطاع أن يثبت أن اللغة العربية في الجزائر لغة حية لا تموت، ذلك أن الكثير من القراء مازالوا يعتقدون أن الرواية الجزائرية أغلبها مكتوب بالفرنسية، لكن المتأمل اليوم يكتشف عدد الروايات التي تنشر في الجزائر، لكن يبقى مشكل التوزيع عائقا في وصول هذا الإبداع إلى باقي المهتمين.
الرواية الأخيرة التي صدرت عن منشورات ضفاف/ الاختلاف سنة 2013 لديهية لويز التي رحلت عن عالمنا بشكل مفاجئ يوم 30/06/2017
بعد صراع مع المرض الخبيث.
تكمن أهمية روايتها الأخيرة خاصة، في موضوعها، موضوع يمكن أن نقول إنه غائب في الإبداع الروائي، فهي تقارب موضوع زنى المحارم، وبالتالي يمكن القول إنها تقترب من الطابوهات والأماكن الخفية في سلم القيم الاجتماعية والأخلاقية.
الرواية تعالج هذا الموضوع المتشعب من خلال الأب السكير والأم التي كانت تعيش حياة الملاهي من قبل، والابن نسيم الشاهد على تدهور هذه القيم والذي فقد حياته على يد والده، الأب الذي فقد كل أواصر الأبوة حين يعود مخمورا ذات ليلة وفي غياب الأم سيحاول اغتصاب الابنة مريم، دفاع الابن نسيم عنها، سيكون سببا في وفاته في المستشفى. تكتشف مريم بعدها أنها ابنة غير شرعية للأب الهارب بعد فضيحته، ابنة رجل مات. ابنة حب لم يدم طويلا..مريم تحاول أن تقتحم الكتابة للشفاء من ذاكرتها الأليمة، تقع في حب “عمر”، المناضل الشاب الذي يصاب برصاصة في الرأس خلال الأحداث ليدخل غيبوبة طويلة، شخصية تحاول الخروج من قوقعتها الداخلية لتبحث عن وجه أمل جديد يضيء حياتها، لكنها تصطدم مرة أخرى بواقع مرير، الأم تفر إلى الزواج من رجل عربيد.
في النهاية تذهب البطلة إلى الطريق في لحظة يأس وتلقي بنفسها وهي تسترجع ما قالته فرجينيا وولف سألقي بنفسي أمامك أيها الموت.
الروائية هي على وعي تام بهذا الموضوع الذي تطرقه، فهي تعتبر الكتابة أصلا تحد، خاصة إذا كانت الكاتب امرأة، تحد لذاتها وللآخرين خاصة في المجتمعات العربية حيث مازالت ثقافتنا تعتبر الكثير من المواضيع من المحرمات.
إن موضوع الرواية حقيقة موجودة في مجتمعاتنا وتشكل جزءا من يومياتنا، ليست موضة من أجل إثارة الانتباه لما أكتب كما تقول. من المؤسف أن الأدباء أصبحوا اليوم بعيدا عن الحراك الذي نعيشه.
إن ديهية في روايتها تعكس فعلا واقعا حاضرا هنا وهناك، ليس في الجزائر بل في كثير من المجتمعات، تقول في حوار معها: “أكيد أن كتاباتي لا تخرج كثيرا عن حقيقتي وواقعي الذي يحيط بي وأتفاعل معه، ليس هناك أفضل من الواقع المعاش للإلهام، لا أقول أني أهتم بوضعية المرأة في المجتمع الجزائري، لكنها تشكل موضوعا مهما إلى جوانب المواضيع الأخرى التي تؤثث يومياتنا”.
إن رواية ديهية رغم الانتقادات التي وجهت لها و يمكن اعتبار بعضها صحيحا فإنها تنبئ أننا أمام روائية أمامها الوقت الكافي لتبدع أعمالا كبيرة، فهذه الرواية كما يقول الناقد والروائي بشير مفتي: إنها تدخل بالكتابة معركة كبيرة، واسعة ومثيرة، معركة شرسة وقاسية، قد تربح فيها ذاتها ككاتبة وتخسر فيها ذاتها الجماعية، التي تقف عائقا مستمرا أمام تطلعات الكتابة ورغبتها المتوحشة.
الرواية تعتمد على تقنية الفلاش الباك، تقنية الاسترجاع، الذاكرة الموشومة بكثير من المواجع والألم، أحداث وأشخاص تعبر عن واقع مؤلم، رغم أن موضوع الرواية يبدو طابوها مثل زنى المحارم مثلا، لكن قراءة الرواية تحلينا على قضايا مهمة لن ينساها الجزائريون، أحداث الربيع الأمازيغي 2001 ومنطقة القبائل تحديدا، لتضعنا أمام قضايا وطنية جوهرية، قضايا إجهاض أحلام الشباب والأمل في العيش الكريم، والاعتراف بالهوية واللغة الأمازيغية، وقضايا العدالة الاجتماعية لكل مكونات الشعب الجزائري، بالإضافة إلى فضح الكثير من السماسرة الذين يستغلون الظروف من أجل مصالحهم الضيقة.
موضوع الهوية في الرواية لا تخطئه عين القارئ اللبيب، وهو موضوع يحتاج لنضال مرير كما تقول الكاتبة، وتضيف أننا نحتاج لوقت لتندمل الجروح ونتمكن من فهم ما معنى أن تكون جزائريا، إن الرواية شهادة على الفترة الصعبة التي مرت بها منطقة القبائل خلال أحداث 2001.
إن ديهية لويز رغم انتمائها العرقي، فهي تكتب عن الربيع الأمازيغي دون عقدة من اللغة العربية رغم هذا انتماء، وهي من الأعمال القليلة التي تناولت هذا الموضوع، أقصد الربيع الأمازيغي الذي حمل معه الكثير من الدم عوض الحرية والاعتراف بالهوية، هو ما تعكسه الرواية كذلك.
تتساءل البطلة مثلا في روايتها: لماذا لا تعترف السلطة بالأمازيغية؟
وفضحت الطرق الدنيئة التي تم اللجوء إليها لقمع المتظاهرين. خلاصة القول إن الرواية هي مسألة هذا الواقع وهذه الأحداث وطرح الأسئلة عنها عوض أن ندير ظهرنا لها كأن شيئا لم يقع.
الرواية إدانة للسلطة وللذات والخوف والبحث عن الهوية.
وبرحيل ديهية لويز تكون ورقة أخرى من أوراق الإبداع الروائي تغادرنا ولم تقل بعد كلمتها كاملة.

بقلم: حسن الرموتي

Related posts

Top