قراءة في مجموعة «أبراج» للقاص المغربي حسن برطال

يعتبر القاص حسن برطال من أهم كتاب القصة القصيرة جدا في الوطن العربي، وهو من الجيل الأول الذي كتب هذا الجنس الأدبي الجديد، إلى جانب أسماء مغربية وعربية أخرى لها مكانتها، إذْ منذ باكورته الأولى “أبراج”1، أخلص لهذا الجنس ولم يبدل تبديلا؛ على غرار أغلب الكتاب الذين ما استقروا على حال، فتزوجوا مثنى وثلاث من الأجناس الإبداعية.
وينتمي برطال إلى الجيل الجديد من كتاب القصة القصيرة؛ هذا الجيل الذي أحدث ثورة جمالية خلاقة، أهمها ــ شكلا ــ الانتقال من تقاليد القصة القصيرة، إلى إبدالات القصة القصيرة جدا: كجمال بوطيب، وميمون حيرش، جمال الدين الخضيري، حميد ركاطة، عبد الله المتقي.. دون أن نغلق اللائحة.
ويتابع القاص حسن برطال مجريات المخاض اليومي وعراكه، في جزئياته وتمفصلاته الدقيقة بحس ساخر وحاد واخز كالإبر، مضحك، لكنّه يشبه البكاء!
أهمُّ ما يميز هذه المجموعة، أنّها وزعت على أبراج: برج الحمل، برج الثّور، برج الجوزاء، برج السّرطان… والخاصية الثّانية أن قصص هذه المجموعة لا تحمل عناوين، وذلك ينطوي على ذكاء وقصدية من الكاتب ليدفع المتلقي للمشاركة في العملية الإبداعية. أما الخصائص الفنية والجمالية الأخرى فمتنوعة وكثيرة، منها ما هو معروف ومتداول في الكتابة النظرية والنقدية لهذا الجنس، وما هو خاص ونابع من اجتهاد الكتاب في شقّ مسالك وعرة وجديدة، قصد خلق نص متفرد ومتميز ومفتوح تتجلى فيه حذاقة الكاتب وخصوصيته.
لطالما ظلت بعض الإبداعات الأولى للأدباء محتفظة ببهائها الجمالي المتجدد، من بين هذه الأعمال، المجموعة القصصية القصيرة جدا “أبراج” التي ظلت شامخة رغم ما بناه القاص من أسوار سردية متوالية لها.. مازالت تطرح أسئلة مهمة في واقعنا الثقافي العربي!
ولعلّ تجددها في صدق تجربتها، وتنوع روافدها، التي تنوعت ما بين الواقع والذات والمثاقفة، من تاريخ ودين وفلسفة وسرد وفكر وشعر. وما يمكن اعتباره في هذه المجموعة بـ”الأسطورة الشخصية للكاتب” هو الشعر وتجلياته المختلفة.
ومسلّمتنا أنّ “الشعر، اليوم، لم يعد يسكن القصيدة وحدها، إنه يقيم في الصورة وفي الفيلم السينمائي، وفي أشكال الأشياء وهندستها، مثلما يقيم في باقي الأنواع الأدبية والفنية كالرواية والأقصوصة واللوحة التشكيلية”2. والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.
وبعد قراءتنا للمجموعة القصصية قراءة فاحصة، تبين لنا حضور الشعر في متن المجموعة بصورة لافتة للقارئ، في اللغة، والصياغة، والايقاع السردي… وموضوعا للقصة القصيرة جدا.
تحضر اللغة الشعرية والنقدية وما يلفُّ لفهما في المجموعة بكثرة، وهذا ما يؤكده الحقل الدال عليهما: الشاعر، الشعر، الكلمات، النقاد، العمود، القوافي، الأوزان، القصيدة، الهجاء، الأوزان، بحر البسيط، بحر الطويل، بحر الرمل، الشعور، تكاليف الطبع، المدح، واجبات الناشر، تأبط شرا، الديوان.
لكن الأعمق في المجموعة، هو استلهامها للتراث الشعري ونقده، مع رصده عالم الشاعر العربي المعاصر وما يحيط به من تناقضات وصعوبات اجتماعية وثقافية. واتخاذها معينا ثرّا لبناء معالمها المدهشة والساخرة في آن، والقبض على عالم كبير بعتاد لغوي صغير.
ونقف على بعض القصص القصيرة جدا – تمثيلا لا حصرا ـ للتأكيد على ما ذهبنا إليه:
في القصة القصيرة جدا، المرقمة بـ (1) يعالج القاص ظاهرة منع الكتب من قبل الجمارك في المطارات والمحطات بشكل ساخر:
“عاد الشاعر من المهجر… فأجبرته شرطة الحدود
على جمركة حمولاته من الكلمات.. “3.
فكم من شاعر أثناء زيارته لمدينة أو عاصمة عربية، يتبادل الهدايا مع أصدقائه الشعراء والنقاد، والتي غالبا ما تكون دواوين شعرية، لكنه يضطر إلى التخلص منها، خوفا من جمركة حمولتها من كلمات وثقافة وايديولوجيا، إنها ثقافة الخوف من العدوى الثقافية التنويرية.
وفي النص القصصي المرقم بـ (8):
“مات الشاعر دفن شعوره وإحساسه وبقيت الدواوين
إرثا للملوك… الرؤساء… والسلاطين../” 4
وبموت الشاعر، يموت الشعور النبيل، والأحاسيس الرفيعة، وحياة حافلة بالعطاء والإبداع، لكن “الشعر حيّ لا يموت، الشعر حي لا يموت” كما صرخ الشاعر محمد السرغيني في تكريم له بفاس. والأدهى والأخطر من موت الشاعر، هو أن يبقى إرثه، ليس للمثقفين وأجيال من القراء والنقاد، بل إرث للملوك والرؤساء والسلاطين. هذا ما تؤكد القصة أعلاه.
وفي رصده للشاعر وأعباء الحياة، تطرح القصة رقم (24) سؤالا إشكاليا كبيرا: هل يستطيع الشاعر العربي المعاصر أن يتدبر أعباء حياته بعائدات المبيعات من دواوينه. أو أن يتزوج مثلا بعائدات مبيعات الديوان:
“بعد شهر سينشر الديوان وتتوصلين بمهرك والخاتم… هكذا قال شاعر لخطيبته بشعور الفائز بالانتخابات… ثم أخذ قلما وبدأ يجمع… يطرح.. يدندن.. تكاليف الطبع.. واجبات الناشر.. ثمن الورق.. لكن في الأخير… تقول العمليات الحسابية: ــ إن المائة عدد غير كافية حتى لشراء أبخس المساحيق والعطور…/”5
تضعنا القصة أمام أجوبة قاسية: تكاليف الطبع، صعوبة النشر، غياب الدعم الثقافي للمؤسسات، قلة الأعداد المطبوعة والمنشورة، سياسة التجاهل. والأصعب من هذا. أزمة القراءة في هذا الوطن البئيس، كيف سيتزوج الشاعر بعائدات أعماله، إنه بالأحرى عاجز حتى على شراء أبخس مسحوق أو عطر لحبيبته الجميلة نكاية في هذا الواقع الذميم.
وقريبا من هذه القصة بعيدا عنها، يضعنا القاص أمام الشاعر والناقد وجها لوجه، في القصة رقم (24):
“لست في حاجة إلى من ينتقد كلماتك…
أو يوجه لك نقدا…
لكن ديوانك يحتاج إلى مشتر يرسل لك ثمنه نقدا…/”6
هل جاء الزمن الذي يستغني فيه الشاعر عن الناقد؟ أكيد لا، لأن الشعر والنقد البّنَاء والموضوعي يسيران جنبا إلى جنب، كسكتي القطار التي لا يسير القطار إلا عليها، النقد يشد عضد الشعر ويقويه، ويهديه إلى حسن السبيل، لكن الزمن تغير، والشاعر في حاجة إلى ناقد من نوع جديد، إلى نقود جديدة، نقود لا تميز بين الجيد والرديء من الشعر، بل نقود تعطى “شيكا” أو تسلم باليد، ولا تفقد ماء الوجه، ليستعيد الشاعر لياقته الشعرية ويواصل الكتابة ويواجه أعباء الثقافة في زمن لا ثقافي.
يتبين لنا في هذه القصة أن عملية البناء الفني مبنية على المفارقة والدهشة، والبلاغة الثورية التي لها معنيان، الأول ظاهر وقريب، وهو النقد الأدبي البناء، والثاني خفي وبعيد وهو النقد/ المال.
في القصة رقم (30) يرصد الشاعر المنزلقات التي رافقت خروج القصيدة العربية الحديثة من خيمة العمود والشطر الشعري المتساوي إلى السطر الشعري ونظام التفعيلة، ثم إلى قصيدة النثر، فكان تكسّر العمود الذي سقط على رأس الشاعر:
” تكسر عمود الشعر، انهار الديوان..
لكن عملية الإنقاذ بواسطة “النقاد”
وخفة أوزان القوافي ساعدت
على انتشال الشاعر حيا…/”7
فالنسق الثقافي المضمر هنا، يؤكد على أن الوزن الشعري أساس العملية الشعرية التي ينقذها من السقوط في مهاوي الابتذال والنثرية المباشرة.
وفي رقم القصة (11) كشف لعلاقة الشاعر بالمغني أو القصيدة بالغناء، “القصيدة المغناة” والتي أصبحت علاقة فاشلة، بسبب طلاقها من الشاعر وزواجها بالمغني الفاشل، فخرجت من عزّ الديوان إلى خلل الميزان. ومرد ذلك إلى انحسار الزمن الجميل للشعر المغنى، أقصد زمن أحمد شوقي، حافظ ابراهيم، نزار قباني، محمود درويش… زمن القصيدة التي كانت تسعف الملحن والموزع والمعني. وتأخذ بلبّ أسماع المتلقين فتسهم في تداول الشعر وتلقيه، أما زمن القصيدة الراهنة وأكثرها “قصيدة النثر”، خدشت السمع وأسقطت الميزان، فكان الانتقال من القصيدة الشفوية إلى القصيدة المكتوبة “الخرساء” على حدّ تعبير حجازي:
“طلبت القصيدة الطلاق من شاعرها وتزوجت من مغني فاشل…
أخرجها من عز الديوان إلى خلل الميزان…/”8

القصة رقم 14:
” حافظ على الحمية… ابتعد عن دهنيات القصيدة..
وسكريات الكلمة.. فاختفت سمنة مخه ودسمه../ “10
القصة رقم 13:
“بنى الشاعر ديوانه في بحر الرمل، فسهل عليهم هدمه..
رفضوا اطالته المملة في البحر الطويل..
أقلقتهم مرارة عيشه في البحر البسيط..
لكن، حينما قتل شعوره في البحر الميت، استحسنوا ذلك../” 11
تكشف لنا هذه الكبسولة القصصية عذاب الشاعر في بناء العملية الشعرية، ومواقف الجمهور الذي لا يعترف به إلا عندما ينتحر شعوريا. إنها آفة الاعتراف المتأخر، أو تكريم الأموات.
ومن جهة أخرى، تحبل المجموعة القصصية ببعض القصص القصيرة جدا التي يمكن اعتبارها قصائد شعرية أو بالأحرى قصائد نثرية تجلت فيها درجة عالية من شعرية الشعر وعوالمه المتخيلة، دون أن تفرط في هويتها السردية:
“وردة تخون العطر مع رجل…
رجل يخون المرأة مع وردة…
والمرأة تخون بلدا بقليل من العطر ووردة”12.
أليست القصة القصيرة جدا “مزيج من القصة والشعر، فهي تأخذ من كلا الفنين بطرف ونصيب، مشكلة لنفسها خصوصية أجناسية في الشكل والمضمون والوظيفة”13.
نخلص إلى أن القاص حسن برطال احتفى بالشعر في هذه المجموعة واتخذه موضوعا وشرعة ومنهاجا لها، لا بـوصفه “أصلا للثقافة العربية، وتجسيدا لقيم العرب ومثلهم العليا ووعيهم بشخصيتهم القومية…”14 وإنما بوصفه تجربة روحية وإنسانية خلاقة، تكابد نداء الحياة في عالم برجوازي، في زمن الدم والاقتصاد وتسليع المشاعر وأسنان الرأسمالية المتوحشة، في عالم أصبح فيه الشعر غريب الوجه واللسان.
لقد اعتمد القاص حسن برطال على الشعر في بناء عوالمه النصية المتخيلة، إيمانا منه بأن الشعر يستطيع أن يؤدي وظيفة ريادية يختلف بها عن سائر الفنون. يستطيع أن يكون مساهمة إيجابية في إيقاظ الوعي التاريخي وتعميقه، يمكن أن يكون تاريخا للمستقبل ونبوءة له انطلاقا من واقع شاخص”15.
وأظن أن القاص حسن برطال، قد فهم جيدا النصيحة القائلة: “الشعر قدر القصة القصيرة. ومن الضروري أن يقرأ القصاصون الشعر، لأنّ القصة جنس أدبي يقتضي أن تكون رؤياه واسعة ودلالاته رحبة، رغم حجمه الصغير..!!”16.

المصادر والمراجع:
1ــ حسن برطال، أبراج/ جزء 1: قصص قصيرة جدا، سلسلة العدد الأول رقم 46، منشورات وزارة الثقافة، ط1، س2006.
2ــ عبد السلام المساوي، الشعر العربي المعاصر أزمة التداول وإشكالية التلقي، مجلة ذوات، ع 29، س 2016، ص: 11.
3 ـ حسن برطال، أبراج، مصدر سابق، ص: 39.
4 ــ نفسه، ص: 39.
5 ــ نفسه، ص: 44.
6 ــ نفسه: ص: 61.
7 ــ نفسه، ص: 61.
8 ــ نفسه، ص: 67.
9 ــ نفسه، ص: 68.
11ـ نفسه، ص: 99.
12 ـ نفسه، ص: 65.
13 ــ سعيد بكور، بلاغة الإيجاز في القصة القصيرة جدا، مجلة العربي، عدد أبريل701، س 2017، ص: 114.
14ــ إدريس الناقوري، المصطلح المشترك: دراسات في الأدب المغربي المعاصر، منشورات دار النشر المغربية، ط1، س 1977، ص: 270.
15ـ الناقوري، نفسه: ص: 270.
ــ16 أحمد بوزفور، في لقاء له بطلبة ماستر: الأدب العربي والمثاقفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يوم الأربعاء زوالا 26 أبريل 2017.

> بقلم: نصرالدين شردال

Related posts

Top