قراءة في مجموعة حسن مزهار القصصية “أيام من زمن عاق!”

 تتعالق مكونات العنوان وفق مبدأي التجاور والتنافر، إذ يتم التصريح باقتطاع أيام من زمن وسم بسمة أخلاقية، لاسعة لاحتوائها دلاليا ضمن مفهوم الزمن الذي ارتبط في الذاكرة الإنسانية بصفات الغدر والخيانة والتقلب، وها هو يتشح هنا بالعقوق وهي صفة تنتسج ضمن شبكة الصفات التي ارتبطت به، إن لم تكن هذه الأخيرة تتقاطع عندها، المثير في هذا العنوان المقترح أنه خارج عناوين هذه المضمومة القصصية، غير أنه في هذه الحالة يمتلك قوة إحالية تشتغل بشكل مضمر داخل كل العناوين الأخرى، وعليه يغدو محددا لميثاق القراءة بما هو موجه لأفق انتظار المتلقي لاستحضار تمثلاته عن عالم يمور بشتى ضروب المعاناة والألم والأمل الخائب مادام تخلقه تم في حضن زمن الخذلان، ولعل ذلك ما يسوغ حضور الحلم كإوالية / ميكانيزم بواسطتها تتمكن الذات من امتلاك إمكانية التعويض، وتحقيق ما تم العجز من تحقيقه واقعيا وفعليا، ويتبدى ذلك جليا انطلاقا من الاستهلال الذي اختاره الكاتب ليصدر به المجموعة حيث يقول: (لا شيء يغير العالم، أكثر من الأحلام .. !).
 وارتكازا على ذلك، سيحضر الحلم بمختلف تجلياته بشكل فاعل ومخصب لبنية الحكاية في النصوص، بل إن واحدا منها سيعنون بالحلم، مما مكن مقاومة لوعة الفقدان، كما في نص”الحاج الراضي”:
 ( وتصحو ذات صبيحة صغرى البنات وهي تبكي فتخبر أختيها بأنها قد رأت والدهن في المنام في تمام صحته وعافيته، مخبرا إياها بأنه قد ذهب إلى هناك بعد أن مل انتظار من يأخذه إليه .. ) / الصفحة 74 .
في نص”الحلم”، يحضر الأب الحاضر بقوة الغياب، إذ يسكن العقل الباطن للشخصية : ( و قد ناديته أبي .. أبي، فما التفت ناحيتي وما استجاب لندائي، كنت أصحو مباشرة من هذا الحلم وأنا أرتجف .. أخبريني يا سعاد، أهو نفس الحلم كل ليلة .. أقصد هل هي نفسها التفاصيل التي أخبرتني بها .. ؟ ) / الصفحة 89 .
 وعندما يتحول الحلم إلى حقيقة مؤلمة، فإنه يعين الشخصية على التخلص من شرك الوهم الذي سيجت نفسها به:
( نامت ليلتها سريعا، إذ ما إن وضعت رأسها على مخدتها حتى غطت في نوم عميق، وكأنها ما نامت منذ زمن طويل..، في الصباح وهي تتناول فطورها بشهية لا قبل لها بها بجانب مّي عيشة ، قررت أن تخبرها بحقيقة ما كانت تخفيه عنها .. ) / الصفحة 9 و 10 من قصة  “أمال”.
    كما قد يصير بلسما لتضميد جرح الخيانة الذي نكأته نظرات وألسنة الناس، ففي نص ” خيانة “، يهرب عمر من الإحساس الموجع بفعل الخيانة الذي يطارده، إلى التماهي مع صورته على صفحة الماء، وكأنما يستعيد ذاته التي سلبت منه ذات علاقة غير متوازنة مع زوجته أمينة التي لا تحمل من هذه الصفة إلا الإسم، ولعل حضور الماء كإحالة على الصفاء والطهر ما يومئ إلى رغبة الشخصية في التخلص من كل أدران واقعه:
 ( كانت صورة الوجه المنعكسة تتكسر كلما تحركت المياه بفعل الريح المسائية العليلة..، لم تطل حملقته بصورة وجهه، إذ سرعان ما وقف فوق السور القصير، فبدا له أنه قد رأى نفسه وهو يعانق أمواج البحر الناعمة في هذا المساء الهادئ..، وأحس ببرودة المياه تعاتبه على عناق مفاجئ منه دون علم سابق منها..، فأغمض عينيه طالبا من البحر أن يأخذه إلى مكان بعيد ، مكان أبعد من مدينته القاسية اللاهية..، مكان حيث لا توجد أمينة ) / الصفحة 43 و 44 .
 بالموازاة مع هذه العلاقة، كانت علاقة باسم وبسمة في نص “غفوة صغيرة “، ضحية هذه الغفوة التي كان لحلم عاشاه خلالها بالغ الأثر في خلق شرخ وتصدع في علاقتهما:
  ( يبدو أننا حين أغمضنا عيوننا، قد سرقتنا غفوة صغيرة..، ثم وهو يمد يده ليعين بسمة على النهوض:
– هيا نرجع المدينة، حتى لا تتأخري أكثر ..، طاوعته بسمة بلا تعليق و قد مضيا يحثان السير في اتجاه طريق العودة و هما يتهيبان المكان المظلم حولهما .. ، مما جعل باسم يمد يده ليمسك بسمة ، فمانعت بحركة لا إرادية و هي ترمقه خفية بنظرة غريبة ) / الصفحة 82.
قد يعين الحلم أيضا على مقاومة الإحساس بالملل واللاجدوى، وهو إحساس مضجر لشخصية علي في قصة “معاش” الذي تقاعد عن العمل:    ( رباه..! قالها مت
وسلا أن يغمض عينيه لينام..، ليرتاح عله لا يستيقظ من نومته هاته أبدا..، وحتى إذا ما استيقظ وجد ما كان من أمل إحالته على المعاش مجرد حلم، بل مجرد كابوس سينتهي بمجرد غسله لوجهه وارتدائه لبدلته استعدادا للذهاب مبكرا إلى عمله ) / الصفحة 13 .
 تمت الاستعانة بالحلم أيضا على المستوى الفني وذلك بهدف توسيع بنية الحكاية ومنح خطها الدرامي نموا فنيا، كما ورد في نص “اللعنة”:
 ( كالسائر في المنام، منقادا خلف حلم طويل، لكنه جميل، صار عباس وراء راضية، ملبيا كل طلباتها، غارقا معها في نمط حياة لم يألفاه معا بعد..، وكأنهما في حلم لا بد أن ينتهي بصحوة ) / الصفحة 126 .
 تساوقا مع هذا المستوى، ظلت نصوص المجموعة وفية لمقومات الحكاية مراهنة على جعل النهاية نقطة الارتكاز لكونها توزعت بين الانفتاح وأيضا على تقويض أفق انتظار المتلقي، ورغم الطابع الواقعي المهيمن على جل النصوص، نلاحظ انزياح بعضها نحو الملمح الفنطازي، كما في نص “موت”:
( ومدت يدها تسحبه مرة أخرى وقد طارا محلقين في الفضاء الواسع وهي تقول: “سوف نذهب لتعاين عن قرب كل الأمنيات التي طلبت تحقيقها لتراها بعينيك وقد صارت حقائق ملموسة وترى السعادة وقد غمرت قلوب من تمنيتها لهم”.. “بهذه السرعة تحققت إذن ؟ “.. ” أما زلت تشك في قدراتك أيها الميت اللطيف ” ) / الصفحة 148 .
أو كما حدث مع الروائي وشخصيته المفترضة لحظة الكتابة في نص “زيارة”:
  ( ” أنت ماذا، أنت تخلق الشخصيات وترسم لها مسارات بؤس، أهذا كل ما تستطيع؟ “.. ” أنا لا أخلق شيئا يا هذا”.. ” كيف و أنت من أوجدني؟ “.. ” لذلك أراك تشكر لي هذا الفضل ” .. ” لا تتهكم أيها الأديب ..، فيكفي أنك جعلتني بئيسا بلا عمل ” ( / الصفحة 29.
 وبتنوع فضاءات وشخصيات النصوص، تعددت الاستعمالات اللغوية في المجموعة، مما مكن الاعتماد على سجل لغوي تساكنت فيه أنساق مختلفة فصيحة ودارجة، وأحيانا تدريج الفصيح وتفصيح الدارج والمزاوجة بين اللغة التقريرية والشاعرية، حيث يتم فضح الشاعر المختفي في جبة السارد، كما الصب تفضحه عيونه.

Related posts

Top