قطاع الحبوب .. هل فشل المخطط الأخضر في تحقيق الأمن الغذائي للمغاربة؟

يصل الإنتاج المغربي من الحبوب متوسطا يتراوح ما بين 50 إلى 70 مليون قنطار من الحبوب في السنة، وتتراوح مساهمة هذه السلسلة داخل الناتج الخام الفلاحي بين 10 و20 في المائة. فيما يستورد المغرب كل سنة ما يقارب 8 ملايير درهم، وتمثل واردات الحبوب نحو 70 في المائة من الواردات الفلاحية. وتغطي زراعة الحبوب 75 في المائة من المساحات المزروعة وهو ما يعادل 5.3 مليون هكتار من إجمالي المساحة التي تصل إلى 7.4 ملايين هكتار. وتشغل السلسلة ما بين 5 و10 في المائة من الساكنة النشيطة، ونحو 40 في المائة من الساكنة القروية النشيطة. من جهة أخرى تتراوح المساحة المزروعة بالحبوب ما بين 59 إلى 75 في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة، تتوزع ما بين القمح اللين بنسبة 45 في المائة، والشعير بنسبة 35 في المائة، والقمح الصلب بنسبة 20 في المائة. أما الحاجيات الوطنية من القمح فتتراوح ما بين 134 و136 مليون قنطار. بينما يصل الاستهلاك المتوسط للفرد سنويا إلى نحو 200 كيلوغرام، وهو ما يعادل 3 مرات متوسط الاستهلاك العالمي. أما الإنتاج المحلي من الحبوب فيغطي نحو 55 في المائة من الحاجيات الوطنية. وإذا كان مخطط المغرب الأخضر يهدف ضمن محاوره إلى تقليص الاستيراد بنسبة 20 في المائة، فإن ضعف الإنتاج المحلي المرتبط بالتقلبات المناخية يجعل تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب بعيد المنال، زيادة على غياب ضبط المساحات والأصناف المزروعة ونقص كبير في مواكبة الفلاحيين لتحسين الإنتاج وجودته. وبالرغم من كل ما حققه المغرب في مجال تطوير سلسلة الحبوب، وخاصة على مستوى البذور وزراعتها، والانتاج وجودته، فإن العديد من الإكراهات والتحديات تبقى جاثمة على السلسلة، حيث إن الجهود المبذولة لم تستطع تجاوز عراقيل الرفع من الانتاجية والجودة. ما يجعل الاستيراد المغربي في ارتفاع مضطرد، ليبقى بذلك بعيدا عن تحقيق الاكتفاء الذاتي. ويبقى الأمن الغذائي على مستوى السلسلة مرتبطا بالأسواق الدولية. وبالإضافة إلى إكراهات المواكبة، تبرز أيضا إكراهات أخرى تتعلق بالتجميع والتخزين، بحيث تطرح التساؤلات حول حقيقة الأرقام التي تنشرها وزارة الفلاحة بشأن الكميات المجمعة وحتى الكميات المنتجة كل سنة، وذلك بالنظر إلى كون جزء كبير من إنتاج الحبوب لا يخضع لمراقبة دقيقة في ضبط مساره من الإنتاج إلى الاستهلاك، خصوصا في الاستغلاليات الصغيرة في العالم القروي. في هذا الملف تتطرق «بيان اليوم» إلى هذه المحاور من خلال تقارير ومعطيات رسمية، ويتضمن الملف كذلك أراء خبراء وفلاحين في قطاع الحبوب.

    زراعة الحبوب بالمغرب .. قطاع خارج اهتمام المخطط الأخضر

   سلسلة زراعة الحبوب تشكل محنة كبيرة للفلاحين الصغار والمتوسطين

الإنسان المغربي والفلاحة، وجهان لعملة واحدة. ولارتباط المواطن المغربي بالأرض، سمة خاصة، وهو ما نلاحظه إلى اليوم، حيث يعيش داخل كل مغربي فلاح صغير، له ارتباط بالتراب والزراعة والماء، والقرية ككل. فالإنسان المغربي ظل عبر الزمن، يبحث بشكل مستمر عن آليات لتطوير أدائه الإنتاجي، باعتماده على منهجيات حديثة في الزراعة، أو توظيفه لتجهيزات تكنولوجية متطورة، يمكن أن تحسن من مردودية محصوله الزراعي.
وعلى هذا الأساس يولي الفلاح المغربي لزراعة الحبوب، لاسيما القمح، والشعير، والخرطال.. أهمية خاصة، إذ لا يمكن أن يمر موسم فلاحي دون أن يحرث الأرض، ويزرعها بصنف من أصناف هذه الحبوب، ليؤمن بذلك، غذاء أبنائه وأسرته الصغيرة التي تشمر هي الأخرى عن سواعدها لمساعدة رب الأسرة الذي يدير الأراضي الفلاحية الصغيرة التي بحوزته.
تعتبر زراعة القمح تقليدا اعتادت عليه كل العائلات والأسر المغربية القروية، أو حتى التي تقطن بالمدينة ولها ارتباط بالبادية، بالرغم من وجود زراعات أخرى، كالأشجار، والزيتون، والحوامض.. أو خضراوات بقولية. والقمح يحيل بشكل تلقائي على «الخبز»، الذي يعد مكونا هاما في المائدة المغربية، أثناء كل الوجبات.
ووعيا من الحكومات التي تعاقبت على تسيير الشأن العام بأهمية الفلاحة في حياة المغاربة، ظل القطاع الفلاحي والزراعي، من أبرز القطاعات اهتماما، لاسيما وأنه يشمل ما يقارب 1.5 مليون فلاح، ويساهم بحوالي 15 في المائة، من الناتج الداخلي الخام، ويوفر 40 في المائة من فرص الشغل. ومن ثم، تشكل الفلاحة في المغرب، أحد القطاعات الهامة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتفاعلا من الملك محمد السادس، مع هذا المعطى، أطلق في أبريل من سنة 2008 بمدينة مكناس، أحد أكبر المخططات الفلاحية التي استأثرت باهتمام الفلاحين الصغار، والمتوسطين، والكبار على حد سواء، والمتجلي في «مخطط المغرب الأخضر».
الرهان على هذا المخطط في النهوض بالقطاع الفلاحي، كان كبيرا، إذ جاء من أجل الرفع من التنمية الاجتماعية والاقتصادية للفلاحين المغاربة، من خلال خلق فرص الشغل، ومكافحة الفقر، والهشاشة، وحماية البيئة إلى غيرها من الأهداف التي تم تسطيرها في الرؤية الإستراتيجية للمجال الفلاحي.

وضع “مخطط المغرب الأخضر” على رأس أولوياته، تحقيق الأمن الغذائي للمغاربة، وتطوير القيمة المضافة مع الحد من تأثير التغيرات المناخية والحفاظ على الموارد الطبيعية، علاوة على إنعاش صادرات المنتجات الفلاحية وتثمين المنتجات المحلية، وذلك، بالاعتماد على مقاربة شمولية ومندمجة لكل الفاعلين في القطاع الفلاحي، وبالارتكاز على تعزيز الاستثمارات والتكامل الجيد بين السلاسل الإنتاجية قبليا وبعديا.
نتائج هذه الإستراتيجية، بدأت تظهر مع توالي السنوات، مسجلة تحسنا، انعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد الوطني، بحيث عرف الناتج الداخلي الخام للقطاع الفلاحي تطورا بمتوسط نمو سنوي قدره 5.25 في المائة، وصل إلى 125 مليار درهم في السنة الجارية 2018، وذلك بعد عشر سنوات من إطلاق المخطط الأخضر.


وتشير أرقام وزارة الفلاحة إلى أن الناتج الداخلي الخام عرف زيادة 60 في المائة مقارنة مع سنة انطلاق مخطط المغرب الأخضر (2008)، كما أنه خلال هذه الفترة تمكن مليون و100 ألف مستفيد (ثلثا المزارعين والكسابين والمستثمرين) من الاستفادة من الدعم والتمويل لمشاريعهم واستثماراتهم، على امتداد عشر سنوات الماضية.
بالإضافة إلى هذا، تضاعفت قيمة الصادرات الفلاحية بين عامي 2008 و2017، استنادا إلى المعطيات ذاتها، لتصل إلى 33 مليار درهم، الأمر الذي جعل القطاع الفلاحي مساهما رئيسيا في التشغيل بالمغرب، وذلك على الصعيد الوطني، بحيث خلق ما يعادل 250 ألف وظيفة إضافية، إلى جانب تحسين تغطية احتياجات المغرب الغذائية، بالوصول إلى 100 في المائة بالنسبة للفواكه والخضروات، و98 إلى 100 في المائة للمنتجات الحيوانية (الحليب واللحوم والدجاج).
بيد أنه بالرغم من كل هذه النتائج الإيجابية التي تظهرها وزارة الفلاحة في مطوياتها، وإصداراتها الدورية، لا زال المغرب لم يحقق إلى اليوم الاكتفاء الذاتي من الحبوب، حيث يلجأ كل سنة إلى الاستيراد من دول أخرى، لتغطية الخصاص الحاصل والذي يقدر بـ 50 في المائة.
وتناهز زراعة الحبوب سنويا 5 ملايين هكتار، أي حوالي 60 في المائة من المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة التي تصل إلى 8.7 مليون هكتار، وتقع هذه الأراضي الزراعية المخصصة للحبوب، بشكل كبير، في كل من جهة الدار البيضاء-سطات، وجهة فاس-مكناس، ثم سوس ماسة، ومراكش-آسفي.
وتبقى إستراتيجية مخطط المغرب الأخضر، عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، ويرجع ذلك، إلى عدم إيلاء هذا الجزء الأهمية اللازمة بحسب مهنيين، لاسيما خلال السنوات الأولى، بعد إطلاق المخطط، من منطلق توجيه الزراعة نحو الأشجار المثمرة، والخضروات، وتربية الحيوانات، وجعل زراعة الحبوب في ذيل الأولويات.
هذا التأخر في إعطاء قيمة للحبوب، التي تعد من بين الأغذية التي يقبل عليها بشكل كبير المستهلك المغربي، هو ما يمكن أن يفسر حجم الاستيراد الضخم من الدول الأجنبية، طيلة سنوات إطلاق “مخطط المغرب الأخضر”، وتكشف أرقام مكتب الصرف، أنه خلال سنة 2013 استورد المغرب 3.966.414 طن من القمح، كما استورد خلال سنة 2014، حوالي 4.112.708 طن من القمح، ليرتفع الاستيراد خلال سنة 2015 إلى 4.414.522 طن من القمح. وفي سنة 2016 تم استيراد 1.377.296 طنا، وخلال سنة 2017، استورد أرباب المطاحن حوالي 2.919.271 طن من القمح، كما أنه من المنتظر أن يستورد المغرب خلال السنة الجارية ما بين 3 و3.5 مليون طن من القمح بحسب تقديرات خبراء فرنسيين في المجال.
ويعزى هذا الاستيراد الضخم من القمح إلى ضعف سياسة زراعة الحبوب في هذا الاتجاه، خصوصا على مستوى دعم الفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين يقبلون على زراعة الحبوب بكثرة، والذين يباشرون هذه الزراعة بعشوائية وارتجالية، في غياب سياسة وتخطيط محكم من شأنه أن يساهم في زيادة الإنتاج، حيث تبقى مردودية الإنتاج في الهكتار رهينة مجموعة من العوامل، من قبيل الظروف المناخية، وجودة المدخلات الفلاحية المستعملة (بذور، أسمدة، المبيدات…)، إلى جانب التذبذب الحاصل في الممارسات الزراعية، والمرتبطة أساسا بالوقاية الصحية للنباتات.
وفي هذا الصدد، يسجل أن الإهمال الحاصل، يؤدي في العديد من الأحيان إلى تلف مساحات مهمة من الأراضي المزروعة بالقمح، نتيجة تفاقم بعض الأمراض الفطرية، التي تقتل البذور، أو المحاصيل، كمرض التبقع السبتوري، والصدأ. وتتراوح الخسارة ما بين 30 و80 في المائة، استنادا إلى مدى حساسية أصناف الحبوب، ليبقى بذلك، المخطط الأخضر على هذا المستوى، شبه غائب، ولا يقدم مساعدات كافية، من قبيل تقديم الاستشارة اللازمة في استعمال الدواء، أو مواكبة خبراء الزراعة للفلاحين عبر زيارات ميدانية للإطلاع على الأراضي المزروعة.

زراعة بذرة

مطلع كل سنة فلاحية (شهر نونبر فما فوق)، يعد الفلاح عدته، مبادرا إلى حرث الأرض بمفرده إذا كان يتوفر على المعدات والآليات، أو يتصل بشخص آخر يتوفر على الجرار، ليحجز موعده بين من لا يتوفرون على جرارات شخصية، لاسيما وأن نشاط التعاونيات الفلاحية في زراعة الحبوب قليل جدا بالمغرب، إذ نادرا ما نجد فلاحين منتظمين على شكل جمعيات لها إستراتيجية زراعية محلية، وتتوفر على جرارات ومعدات لوجيستيكية أخرى يوظفونها أثناء الحاجة، والتي من بينها حرث الأرض وزراعتها، وهو ما يعتبر مضيعة للوقت، ويكون مكلفا ماديا أمام المضاربة التي تحصل بين صغار الفلاحين بداية كل موسم فلاحي، بالرغم من أن اقتناء الجرار وآليات أخرى مدعمة من وزارة الفلاحة بحوالي 50 في المائة.
ووقفت جريدة بيان اليوم، على هذا النوع من الصراع المحموم بين الفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين يمتلكون أراضي زراعية بمساحات صغيرة (بين نصف هكتار و5 هكتارات كأقصى تقدير)، حيث يتهافتون على صاحب الجرار، من أجل ضرب موعد معه لقلب الأرض وحرثها، والقيام بزرعها في الوقت المحدد.
الطلبات التي تكثر على أصحاب الجرار لاسيما بمدينة فاس، وبالضبط بجماعة عين الشقف، حيث عاينت الجريدة عن كثب الوضع، تدفع الفلاحين إلى المضاربة بالأسعار، والتنافس على من سيتصدر الرتبة الأولى لحرث أرضه، وذلك بتقديم قيمة مالية مضاعفة لإغراء صاحب الجرار، الذي يعتبر فترة الحرث مهمة لمضاعفة أرباحه على حساب الفلاحين الصغار، الذين لا يتوفرون على تعاونيات فلاحية صغيرة بالقبيلة أو الجماعة، والتي يمكن بالمناسبة أن تنظم أجندتهم، بالإضافة إلى سماحها لهم بالتوفر على آليات فلاحية بدعم من الدولة.
ويتراوح سعر حرث الأرض بالمنطقة السالفة الذكر، بين 300 درهم، و700 درهم للهكتار الواحد، وهو ما يعد مبلغا ماديا مكلفا بالنسبة للفلاحين الصغار، والمتوسطين على حد سواء، الذين لا يتلقون الدعم من الدولة، ولا تصلهم مساعدات “مخطط المغرب الأخضر”، وهو ما يؤكده لـ “بيان اليوم” الفلاح أحمد عسو، الذي أشار إلى أن ثمن الحرث غالبا ما يكون على حساب (خصم) جودة حبوب الزرع، والأسمدة، والأدوية.


وهو ما وقفت الجريدة عليه فعلا، إذ لاحظت كيف أن الفلاحين الصغار والمتوسطين، يزرعون بذورا وأصنافا بشكل عشوائي، دون دراسة مسبقة للتربة، أو استشارة مع الخبراء في المراكز الجهوية الخاصة بتوجيه وإرشاد الفلاحين، الذين لا ينظمون بحسب أحمد عسو، أي لقاء تواصلي مع الفلاحين أثناء افتتاح الموسم الفلاحي، بغية تقديم النصائح والإرشادات للفلاحين، الذين يعتمدون على خبراتهم التقليدية التي راكموها بعد سلسلة من السنوات، أو ورثوها كعادة عن الأجداد والقدامى.
زراعة البذور ذات الأصناف المتميزة تعد أمرا مكلفا جدا للفلاحين الصغار والمتوسطين، من يمتلكون قطعا أرضية بمساحات صغيرة، وهو ما يدفعهم إلى اعتماد بذور قديمة لسنوات عديدة، أو اقتناء أخرى من الأسواق بدون معرفة المعطيات التقنية عنها، أو اقتناء البذور الرخيصة الثمن، وقال الفلاح إبراهيم الخو في حديث لبيان اليوم إن “شراء البذور من الشركات المتخصصة كسوناكوس يعد أمرا مكلفا جدا بالنسبة لنا نحن الفلاحين الصغار، من لا يصلنا دعم وزارة الفلاحة”.
وهو الأمر الذي أكده أكثر من فلاح للجريدة، الذين يواجهون صعوبات جمة خلال كل موسم زراعي، الشيء الذي يكون له انعكاسا بشكل تلقائي على مردودية الإنتاج في آخر الموسم، “فكيف لفلاح يعتمد بذورا مخلوطة، وأسمدة ذات جودة رديئة، ولا يقوم بحرث الأرض بشكل سليم، ولا يداوي زراعته بشكل صحي أن يكون مردوده الفلاحي في موسم الحصاد جيدا؟”، يتساءل الفلاح إبراهيم الخو، الذي اعتبر هذه الزراعة معاشية ليس إلا، ولا يهدف من ورائها إلا إلى تحقيق الأمن الغذائي للأسرة الصغيرة، والكلأ للماشية، وليس من أجل التجارة وتحقيق الربح من ورائها، مضيفا: “ولكن الله يسخر لنا في الكثير من الأحيان هذه الزراعة التي نحقق فيها محاصيل جيدة نتيجة تساقط الأمطار”.
غير أن زراعة البذور المعتمدة، من طرف بعض الشركات المتخصصة في بيعها، بحسب بعض الفلاحين الذين رفضوا ذكر اسمهم، لا تنبت في الكثير من الأحيان لأسباب مجهولة، وهو ما يجعل الكثير من الفلاحين بحسبهم يرفضون زراعتها واقتناءها درءً لضياع رأس مالهم، وكذا عدم استغلال الموسم الفلاحي، مستنكرين عدم وجود ضمانات من طرف هذه الشركات، يمكن أن تعوض الخسائر التي تلحقهم (الخدمة بعد البيع).

من جهته، كشف الفلاح محمد الباشا من منطقة برشيد عن جهة الدار البيضاء- سطات، لبيان اليوم، أن زراعة الحبوب مكلفة ماديا، وتتطلب من صاحبها أن يتوفر على رأس مال محترم، حتى يتسن له تحقيق مردودية طيبة خلال فصل الصيف، موضحا أن التوفر على مساحة أرضية كبيرة يعد أمرا ضروريا كذلك، محيلا الجريدة، على سلسلة من تجارب الفلاحين الكبار بالمنطقة الذين استطاعوا مراكمة الخبرات، ووظفوها لتحقيق نتائج مهمة خلال فترة الحصاد من كل موسم فلاحي.
ويرجع هذا النجاح بحسب محمد الباشا، إلى توفر هؤلاء الفلاحين الكبار، على مساحات أرضية شاسعة تتجاوز عشرة هكتارات فما فوق، علاوة على توفرهم على معدات فلاحية خاصة، تمكنهم من الاشتغال بأريحية، مقدما مثال تجربته الشخصية، بحيث يستعمل جراره وباقي المعدات الأخرى بمفرده، ساهرا على جودة التربة أثناء الحرث، وكذا طريقة زراعة الحبوب عن طريق التقنية، ومراعاة الأصناف والجودة، فضلا عن اختيار الطريقة السليمة في مداواة المحصول من الحشرات والأعشاب الضارة التي تؤثر سلبا على الإنتاج الزراعي.
ويطرح إشكال تقوية الأداء الإنتاجي مشكلا حقيقيا، بالنسبة للعديد من الفلاحين، الممتلكين لأراضي زراعية كبيرة، في الوقت الذي لا يتوفرون فيه على سيولة مادية للاستثمار فيها بشكل جيد، خصوصا في صفوف “السلاليين” الذين ترفض الأبناك المحلية طلباتهم المتعلقة بتقديم قروض مالية لتمويل مشاريعهم الفلاحية، بحجة عدم توفرهم على أوراق الملكية لهذه الأراضي، تخولهم طلب القروض.
وعبد الله لمسيفر، واحد من الفلاحين، الذين يمتلكون 15 هكتارا متفرقة بمدينة مكناس، ورثها عن والده، بيد أن عدم توفره على أوراق الملكية خلق حاجزا حقيقيا أمام النهوض بأوضاعه الاجتماعية، من خلال تطوير مردودية أدائه الفلاحي، إذ لا يزرع هذه الأراضي إلا في حدود ما يملكه من رأس ماله المادي، لاسيما وأن طلباته للقروض من الأبناك تجابه بالرفض.
وأشار عبد الله لمسيفر لـ “بيان اليوم”، أن زراعته من الحبوب، لازالت تقليدية، تعتمد على البذور القديمة، وكذا أسمدة ذات جودة لابأس بها، علاوة على محاربة الحشرات والأعشاب الضارة، بأدوية ضعيفة الجودة، وبطريقة تقليدية وعشوائية في حدود المستطاع، مبرزا أن مردودية إنتاجه الفلاحي من 15 هكتار التي بحوزته رهينة التساقطات المطرية والمناخ البيئي والطبيعي.
ولمسيفر، واحد من الفلاحين الكثيرين بمختلف مناطق المغرب الذين يتقاسمون الوضع نفسه، بحيث يمتلكون أراضي فلاحية بمساحات كبيرة، غير أن التمويل المادي لا يسمح لهم، بالرفع من إنتاجهم من حبوب القمح، والشعير، وهو ما يعتبر إشكالا حقيقيا يعرقل مسار النهوض بالأوضاع الأمنية الغذائية للمغرب، وهو ما شدد عليه عبد الله الذي طالب بالدعم من وزارة الفلاحة وتسوية وضعية أراضيه المتفرقة بالمدينة الإسماعيلية من طرف وزارة الداخلية باعتبارها الوصي على أراضي السلاليين، حتى يستطيع بذلك، تطوير أدائه الإنتاجي، والنهوض أيضا، بأوضاع أسرته الاجتماعية.

حصد سنبلة

نهاية كل موسم فلاحي، وبالضبط ابتداء من شهر يونيو، يبدأ الفلاحون في حصد محاصيلهم الزراعية، مطلعين بذلك على نتائج جدهم واجتهادهم، استنادا إلى الإمكانيات والمؤهلات التي اشتغلوا بها طيلة الموسم الفلاحي، أي خلال فترة الزرع، والدواء. غير أن فترة الحصاد هي الأخرى تشوبها مجموعة من الاختلالات نتيجة سوء التعامل مع السنبلة، التي تلحقها أضرارا كثيرة، بسبب معاملتها بتعسف وعنف من طرف صاحبها، وكذا صاحب آلة الحصاد أو السائق، الذي لا يتوفر على تكوين خاص بهذا الجانب، وهو ما أكده مجموعة من الفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين يتوفرون على مساحات أرضية صغيرة لا تتعدى خمسة هكتارات.
وفي هذا الصدد، أكد الفلاح أحمد بلخير من مدينة فاس، وبالضبط من منطقة “أولاد جامع”، أن عملية الحصاد تتم بشكل مزاجي وفردي، بدون تشاور مع مصالح وزارة الفلاحة المتواجدة بالجهة، التي لم يسبق له أن التقى بعناصرها في زيارات ميدانية بحسبه، بالرغم من سماعه بها، في القنوات التلفزية، والإذاعات الوطنية.
وكشف أحمد بلخير لـ “بيان اليوم”، أن معظم الفلاحين، يعتمدون على تجاربهم الخاصة، في عملية الحصاد، حيث يستدعون صاحب آلة حصاد ليحصد للجميع محاصيلهم الزراعية، حتى تلك المتأخرة في “يبوسة” السنبلة، لأن تأخره عن الحصاد، يعني بقاء محصوله الزراعي في مكانه، نظرا لعدم وجود آلات حصاد كافية، وهو ما يؤثر سلبا على جودة المحاصيل الزراعية.
وأوضح بلخير للجريدة، أن عملية الحصاد، تتم دون مراعاة عامل الجودة، وذلك على مستوى الآلة بالدرجة الأولى، التي لا تتوفر بها معايير صحية، يمكن أن تحصد السنبلة بشكل سليم، مشيرا إلى أن معظمها صدئ من الداخل، ولا ينظف بين حصد مساحة زراعية وأخرى، وهو ما ينعكس على الجودة، بسبب عملية خلط الحبوب، وانتقال بعض الحشرات من هذا المحصول الزراعي إلى الذي يليه، حيث ترشح فرضية تأثر المحصول من بعض الأمراض العدائية للقمح.
علاوة على هذا، أبرز المتحدث ذاته، أن أغلب آلات الحصاد، لاسيما تلك التي تأتي إلى حصد أزيد من 90 هكتارا بالمنطقة التي ينتمي لها، لا تتوفر بها أجهزة تصفية الحبوب من الأعشاب، والتربة، والحشرات..  الأمر الذي يشكل على حد تعبيره خطرا على سلامة المحصول، الذي يتأثر من الرطوبة، و”السوسة”، وكذا الصدأ.

من جهته، اعتبر حسن إسماعيل (اسم مستعار)، من منطقة اهرمومو، التي لا تبعد عن مدينة فاس إلا بحوالي 60 كلم، أن الحصاد بالنسبة للفلاح الصغير جد مكلف (يتراوح ثمن حصد الهكتار الواحد بين 400 درهم و700 درهم)، كما أن تخوف الفلاحين يزداد بسبب ضعف جودة آلات الحصاد التي تتكلف بالمهمة، والتي لا تراقب من طرف مصالح وزارة الفلاحة، قاصدا بذلك، المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية.
وسجل إسماعيل، أن أصحاب هذه الآلات يفرضون على الفلاحين أجندة محددة، على حساب المحاصيل الزراعية، التي تكون في بعض الأحيان في حاجة إلى جو ومناخ معتدل حتى يتسن حصد سنابلها بشكل سليم، وهو ما لا يتم العمل به، الأمر الذي ينعكس سلبا على جودة المنتوج الزراعي، مشيرا إلى أن مصالح وزارة الفلاحة غائبة في هذا الإطار، ولا تواكب الفلاح الصغير عن كثب، بالرغم من توفره على 11 هكتارا مجزأة إلى مساحات صغيرة.
وبعد سؤال بيان اليوم لحسن إسماعيل، عن توفر منطقة اهرمومو على تعاونيات وجمعيات فلاحية بالمنطقة، تتوفر على آلات فلاحية ولوجستيك يمكن أن يستعمله فلاحو المنطقة بشكل جماعي وتشاركي، كان جوابه، أن الفلاحين بالمنطقة لا يعلمون بهذا المنهج، ولم يحدث يوما أن زارتهم لجنة عن وزارة الفلاحة ترشدهم وتستشيرهم في هذا الأمر، غير أنه أكد أن ثلة من الفلاحين الكبار باهرمومو ذوي نفوذ بمدينة الرباط، يتلقون كل سنة دعما ماديا من طرف وزارة الفلاحة، أثناء فترة الزراعة، أو اقتناء الجرارات.

مصاصو الدماء

بالرغم من أن الفلاحين الكبار هم المهيمنون الرئيسيون على سوق الحبوب بالمغرب، ومن المزودين الأوائل للمطاحن المحلية، إلا أن الفلاحين الصغار والمتوسطين، لهم أيضا حصتهم في سوق الحبوب، كما أنهم يزودون المطاحن إما بطريقة مباشرة أو شبه مباشرة بمنتوجاتهم بغض النظر عن الملاحظات المتعلقة بـ”الجودة”.
عملية تسويق المحاصيل الزراعية من الحبوب، تتم بطرق تعسفية، لا تحترم السلامة الصحية لهذه المنتجات التي تذهب إلى بطن المستهلك المغربي، بعد عملية الطحن، ليعتبر بذلك، الفلاح الصغير والمستهلك، ضحايا سوق السوداء والمضاربة في الأسعار، وتدمير جودة الحبوب، التي يتم خلطها بأنواع من الحبوب الأخرى إما قديمة أو ذات جودة ضعيفة، علاوة على إضافتهم لها الأعشاب والحشائش المطحونة والتربة قصد الزيادة في وزنها، إلى غيرها من التلاعبات التي كشفها مجموعة من الفلاحين للجريدة، ووقفت عليها بيان اليوم في زيارة ميدانية لإحدى مراكز التجميع بحي الدكارات بمدينة فاس.
فضيق ذات اليد، والمصاريف العالقة من قروض الزرع، والدواء، والحصاد، تدفع العديد من الفلاحين إلى بيع محصولهم الزراعي، كما هو الحال بالنسبة لأحمد عسو الذي يبادر نهاية كل موسم حصاد إلى بيع منتوجه في “رحبة” السوق إما للمجمعين الذاتيين أو المواطنين الذين يشترون القمح من أجل طحنه بشكل تقليدي، أو بيعه للسماسرة الذين يعيدون البيع فيه للمجمعين أو المطاحن.. مشيرا إلى أن السماسرة يضاربون كل موسم حصاد في القمح “حيث الفلاح الصغير والمتوسط هو من يؤدي الثمن مع ممارسات مصاصي الدماء في هذا المجال”، يعبر عسو لبيان اليوم.
من جهته، اعتبر أحمد بلخير، أن تسويق المنتوج الزراعي بالنسبة للفلاحين الصغار والمتوسطين، يتم بطرق عشوائية وفي ظروف غير جيدة، موضحا أنه يبيع منتوجه بشكل مباشر إلى المجمعين بالأحياء الصناعية بمدينة فاس؛ الدكارات، حي بنسودة، متجنبا البيع في الأسواق وقاطعا الطريق بذلك على السماسرة “الذين ينتهزون الفرصة للمتاجرة في مجهودات الفلاحين الذين لا حول ولا قوة لهم أمام هذه اللوبيات التي تغرق السوق في ممارسات لا أخلاقية”، على حد قوله.
وزاد بلخير في حديثه مع بيان اليوم، أن السماسرة والمضاربين في الأسعار، يؤثرون على جودة الحبوب، من خلال خلطها بأصناف حبوب أخرى، في غياب المراقبة من المصالح المختصة، كما أنهم يشحنوها في ظروف سيئة، ويتركونها معرضة للهواء، حيث أشعة الشمس، والحشرات، والغبار الملوث، علاوة على ملئها في أكياس متسخة وقديمة الاستعمال.. مشيرا إلى أن هؤلاء السماسرة يبيعون هذا القمح ضعيف الجودة للمخزنين من خلال تقديم عينة مغايرة لفائدة إدارة التجميع التي يصعب أن تراقب جميع الأكياس المملوءة بالقمح، وذلك بمساعدة “العساس” الذي يتكفل بمهمة أخذ العينة، أو بتعبير آخر “تزوير العينة”، مقابل بعض الدراهم (السندويتش) من طرف السماسرة.
وطالب المتحدث ذاته، بضرورة مواكبة وزارة الفلاحة ومصالحها لعملية بيع الحبوب والسهر على جودتها، من خلال القيام بمراقبات ميدانية في الأسواق وكذا مراكز التجميع والمطاحن والمخازن، لأن المتضرر الأول والأخير بحسبه هو المستهلك الذي ليس باستطاعته اقتناء القمح وطحنه بشكل تقليدي، مشيرا إلى أن العديد من الممارسين في هذا القطاع اغتنوا من هذه الحرفة، لاسيما وأنه باع محصوله الزراعي خلال هذه السنة بدرهم ونصف للكلغ، أي 150 درهم للقنطار، بالرغم من جودة منتوجه، ليبقى السعر المرجعي الذي حددته وزارة الفلاحة في 260 درهم بحسبه، مجرد سلم عالي ليس باستطاعة الفلاحين الصغار أن يصلوه أمام الوضع الحالي.

> إنجاز: يوسف الخيدر – حسن أنفلوس

Related posts

Top