كاثارسيس، لمحمد بهجاجي

>  محمد سيف/باريس

“كاثارسيس”، نص مسرحي لمحمد بهجاجي، صادر عن مركز دراسات الفرجة، يختصر نفسه بخمسة شخصيات: الممثلة، المؤلف، الطفلة الأرجوحة، أم أنوار، وحارس الضريح. وقد ولد العمل من خلال لقاء ليس بعابر بين خمسة أصدقاء، جمعهم المسرح في دمشق، وكانت بيروت على مرمى البصر، فقرروا السفر إليها لشرب فنجان شاي في شارع الحمراء، وتفقد حالتها لاسيما أنها كانت خارجة للتو من العدوان الهمجي الذي شنته عليها إسرائيل في عام 2006. إنه ليس بأرشفة للفواجع، وإنما تساؤلات وجودية لممثلة كانت في حضرة الموت، والبحث عن الكينونة التي كادت أن تتلاشى من فرط مرئى الجريمة، وبذائتها، وقبحها، ورؤية الجراح العميقة التي لا تريد أن تلتئم. خمسة أشخاص قطعوا شوطا طويلا قبل أن يلتقوا، ويعبروا في لقائهم عن عدم يقين ماض كامل من الذكريات الثقيلة. الانطباع الأول الذي يمكن أن نشعر به عند قراءة محمد بهجاجي للأحداث، هو أن كتابته متحركة، لا تتوقف ولا لحظة واحدة عن مساءلة صمت العالم الذي أدار ظهره للجرائم التي ارتكبت بحق أناس أبرياء: (الممثلة: لكني لم أر المقاومين ؟! (…) هل شاهدتهم أنت؟ الحارس: لا، طبعا ! (…) هم روح تعبر المكان. ولذلك انتقمت إسرائيل فقتلت الأبرياء). وقد رافق هذه الكتابة المتحركة نبضات الحوار المتأصل في لغة الاعتراف، التي كانت فيها قيمة علاجية عالية. (فلقد كنا في دمشق، وكان لبنان على مرمى البصر، قلت لماذا لا أبحث عن دور آخر، وأجرب الموت أو صداه على الأقل؟). إن الأسلوب الدراماتورجي للمؤلف قد أخذ في المادة الدرامية التي تألف منها مونولوج بداية النص، منعطفا حاسما، عندما حرر اللغة الدرامية نفسها من جميع الإكراهات، وترك المجال للشهود العيان، والتوقفات، والكتابة المتقطعة والمدغمة ما بين المؤلف والممثلة. وهكذا قد خلق سيناريو عرض مسرحي يأخذ من الشعر هيكلا وجوهرا، تتناوب فيه الأصوات. وقد أعطى المونولوج، حرية للمؤلف في إيجاد طريق، واشتغال خاص على اللغة، لاسيما كانت هنالك حاجة ملحة للبوح بالكلام: “إن المبدأ العام وحده كان جاهزا. أما الكلمات فبدت بعيدة، لذلك خاطبتني ثريا جبران بالإشارة التي تفيد بأننا باتجاه اختيار جديد للنفس”. (محمد يهجاجي، مقدمة النص). إن هذا السياق، يجعلنا نفكر بأن الكلمات نفسها كانت في حاجة للتحرر والخروج من الصدر بشكل عاجل، كما لو أن المؤلف يريد التخلص منها ومن شحناتها العاطفية، وكأن التطهير”الكاثارسيس” قد مارسه على نفسه أولا، قبل أن يقودنا إليه عبر نصه.
 جعل المؤلف عملية استكشاف اللغة تتحقق من خلال الممثلة التي أخذت على عاتقها تجسيد لغة النص والتجوال به عبر أسفار درامية شعرية استحضرت فيها مناطق جغرافية مختلفة، وحقب تاريخية متباينة، فبدت مربكة وتائهة وحائرة، وهي تتنقل وسط هول حطام المدن، وأوجاع الزمن الجريح، وهذيان ما تبقى من سكان وهم يتدثرون في غبار الروح: “بلا سماء، أسافر لأقنع نفسي بأنني أستطيع أن أحيا عارية. السماء التي كنت أظنها دثارا أو شرفات أراها الآن سقفا ممعنا في الارتباك. مؤلفي أقامني في العزلات التي ليست المجاز. (…) ربما تعب من نصب الخشبات في الأمكنة الهشة، فاحتمى بالصمت؟ ووحدي، الآن أسترد أنفاسي …”. وقد كان الغرض من ذلك ربما، إنقاذ الممثلة من ريبورتاجها الفني القديم المليء بالشخصيات التي مثلتها، أو بالأحرى استخدام ذلك حجة للكتابة عن ألم دفين كان يسكن في اللاشعور. فخشبة المسرح في هذا النص، تتحول بفعل سحر الكتابة، إلى زمكان للاستماع، والشهادة، وبعث الرسائل، وذكريات الماضي، والذهاب والإياب السريع، بين الدمار المشترك للبنان، وبغداد، وغزة، ودمشق. وبالتالي، إنها ليست بالمكان الذي يعتق فيه الفعل فقط، وإنما الفضاء المميز للتأمل والتفكير في الموضوع الذي يطمئن أحداث الماضي التي تحتاج إلى تجسيد ثان، وأرشفة حقيقية. الممثلة: ما يهمني هو أن أرى هاته الحرب وقد صارت حاضرا أسود، سيرة يومية للامحاء أو للانبعاث، للبكاء المخضب، وللضحك إذ يصير نحيبا؟.
 يحاول المؤلف في نص ” كاثارسيس”، القبض على العلاقة الحميمية للكائنات البشرية، التي غالبا ما توضع على مسافة من المجتمع. فهو قد سمع، وشاهد، وعاش، وسجل حواراتهم الخام، وأدرجها في نصه من أجل استعادة لغة الممثلين التي لا تشبه كل اللغات. حاول أن يكتب شكلا دراميا جديدا، استنادا إلى الوقائع المختلفة التي عاشها بالقرب من الخراب، ورائحة الموت الكريهة التي لازالت طرية، سعيا لفهم الحقيقة التي كانت تحيط به من أجل تأطيرها. فبالإضافة إلى شخصية الممثلة والمؤلف، هناك شخصيات أخرى، كانت شاهدة على ما قبل الأحداث المريعة وما بعدها. قام المؤلف باستدعائها وجعلها تتحدث في مسرح سردي شعري، لم يعد فيه مكان لما هو يومي. فللشهادة في هذا النوع من المسرحة قوة خاصة، طالما أن الشخصيات فيها لا تفعل شيئا سوى أنها تروي قصصا عما عاشته من رعب. (الممثلة: لكن كيف عشت الحرب؟ الحارس: مثل راو أزلي. ولذلك دونت التفاصيل في هذا الكتاب وحملت الصور على هذا القرص. ومنحته للعابرين) أليس هذا هو الغرض من كتابة هذا النص؟. لقد لجأ “محمد بهجاجي”، إلى السرد الشعري وليس الفعل، وجعلنا من خلال موضوعه نتابع الأحداث المروية بطريقة ليست بالضرورة متسلسلة مثل ما في باقي النصوص الكلاسيكية، وكان الرابط بينها أسفار الممثلة التي لا تعرف من أين تبدأ قلقها الوجودي وسط هذا الحطام المريع!. ولهذا قسم المؤلف حكايته إلى أجزاء، وشكل ذلك قلب النص، الذي كان الهدف من ورائه باعتقادنا، إكماله بشكل أفضل، من قبل الجمهور والمخرج  فيما بعد، لأن نص “كاثارسيس، بقدر ما هو ذو قيمة أدبية شعرية عالية، فهو نص قد كتب من أجل أن يلعب فوق خشبة المسرح. إنه في المقام الأول، تصوير أدائي، وحدث للعب، ولعبة الحدث. وهنا تكمن خصوصية، في تفاعله الجمالي، والاجتماعي الذي يستكشف خطر اللعب نفسه من خلال مبدأ الظهور في سياق الحدث في الحاضر. بعبارة أخرى، إنه وهو في مواجهة القتل الجماعي، ينتج بشكل منهجي، عملية ظهور للكل أمام الكل. إنه معد لإنتاج الأحكام المتعددة التي تكشف عن الذاكرة والقضاء، وعن الحاجة إلى التماسك الاجتماعي، وعن تلك التي تزعزعه، أو تقوم بمساءلته، في المكان المسرحي.
إن كلام “أم أنوار”، على سبيل المثال، يتدفق بسرعة ملحوظة، كاشفا عن تفاصيل لا يمكن معرفتها إلا من كان شاهدا عليها: (إن ما يخلع قلبي عني هو الصمت، وليس الدمار. ما يرعبني، حقيقة، هو أن أرى امتداد أدغال الصمت في قلبي والعالم. (…). ولذلك أيضا تستغربين إذ تجديني أعتلي هذا الركام. لا. ليس ركاما. إنه دمي، ذاكرتي، أحلامي، حياتي الأخرى حين تنتهي حياتي. إنك لا تستطيعين فهم ما أقصد، لأنك لم تكوني في غزة وبغداد وفي صور .. قبل أسبوعين. ما ترينه ركاما كان خيمات فرح). لقد تطلب هذا النص كتابة شعرية خاصة، اعتمدت على الكلام الذي فيه الإيقاع والأصوات بمثابة مزيج من العناصر اللغوية الملموسة، التي تصبح فيه الكلمة فعلا وحدثا في آن واحد، وبالتالي إن كل مقطع من المقاطع لا يقول بكل بساطة شيئا ما، بقدر ما يفعل شيئا يؤثر في الحدث نفسه. وهكذا يصبح الخطاب المسرحي ماديا، ومرئيا من خلال الأصوات المتكلمة للشخصيات التي جعلها المؤلف تتحدث لغة ثانية. فالكلام في هذه المسرحة، يشكل المادة الخام الأولى، التي ولدت منها الجمالية الشعرية للخطاب المسرحي، لا سيما أن الشعرية، وفقا لأن ابورزفيلد، (هي كل الإجراءات الكتابية التي تشكل لغة فنية ثانية).
بلا شك، إن هذا النوع من الكتابة المسرحية، يحتاج إلى ممثل منتبه، قادر على إعطاء الكلام قيمته، من خلال الإلقاء، وإسماع النص، أكثر من التركيز على اللعب الراسخ بشكل جيد على الخشبة. إن الجانب الشعري الذي تعامل معه بهجاجي، يذكرنا بجملة مارغريت دوراس :(إن الممثل ممر للكلمات)، لذلك يجب أن يحسب، هذا الأخير، حساب للإيقاع، والشكل، والمادة، وليس فقط أن يلقي هذا الذي قد كتب، وإنما أن يروي نوع المسرحية، والنوع الذي تم تناوله. يبدو ان هذه هي مفاتيح لعب مسرحية “كاثارسيس”. إنه نص يمرر الخطاب، والكلمات على الخشبة حيث يتدفق الكلام فوقها مثل حنفية نفتحها في كل مرة يتكلم فيها الممثل. إنه مسرح الكلام الذي لا يريد أن ينتهي بين المؤلف والممثلة، وبين محمد بهجاجي وتريا جبران الذي ابتدأ (منذ النشأة في درب سلطان بالدار البيضاء، وتعمق رفقة عبد الواحد عوزري، في تأسيس مسرح اليوم) “مقدمة تريا جبران للنص”. لقد كتب النص لها أو بالأحرى استكتبت نصها فيه أو من خلاله. لقد طلبت منه ذلك، سواء بالإشارة أو الكلام أو الصمت، أو التمني، بعد أن شاهدا معا معنى الخراب، وعاشا سوية لا معقولية الحياة، و”انتقام المحبطين” الذي لا يقوى إلا على قتل الأبرياء. عندما نقرأ النص، لا نرى إلا غيرهما في هذه المحنة العصيبة التي تسمى الحرب، الدمار، الموت، البكاء، وشواهد الميتين التي تملئ المزارع والحقول والهضاب وسفوح الجبال، وشوارع بغداد، وغزة. كل هذه الخرائط المتشابهة التي يتناولها النص بشكل مجازي وسريع، تصبح جغرافيا للموت وتاريخ حديث للجريمة.

Related posts

Top