كفى غرقا في… التفاهة

لا شك أن التحولات التكنولوجية الكونية وتبدلات حقل التواصل وواقع القيم والعلاقات تفرض إيقاعاتها وبديهياتها على شعبنا وشبابنا كما في كل بقاع الدنيا، ولكن ذلك لا يعني حتمية الاستسلام للظواهر  والتكيف معها واعتبارها قدرا لا مفر من الخنوع له.
هذا التدني الفظيع الملحوظ اليوم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا من خلال بعض المواقع الإخبارية العشوائية المعروفة وإذاعات خاصة وبعض الصحف المكتوبة، في مواضيع الاهتمام والتركيز، وحتى في لغة الكتابة والحديث، أو فيما يجري تعميمه وتمريره من رسائل وأفكار ومواقف وتصورات، كل هذا يسائلنا كمجتمع وكبلد، ويفرض أن نفتح عيوننا وعقولنا حول مستقبل شبابنا وشعبنا ووطننا نتيجة التأثر بذلك.
ليس المعنى هنا أن نضع آليات المنع والتضييق، لأن ذلك سيكون حمقا وبلا أي فائدة وخارج الزمن المعاصر، ولكن المطلوب بلورة مداخل ثقافية ومهنية، وأيضا قانونية وتنظيمية وسياسية، لرفع المستويات، ولتقوية ثقافة العقل وقيم التقدم في المجتمع.
واضح اليوم للجميع أن مواضيع تافهة كثيرة يجري استدراج المغاربة ليغرقوا في متابعة تفاصيلها وتتبع مستجداتها والاصطفاف مع أو ضد أطرافها، وفِي النهاية هي بكاملها لا تعني للمغرب أو المغاربة أي شيء لا حاضرا ولا مستقبلا.
وإذا أضفنا إلى تفاهة الموضوع، تفاهة وبذاءة اللغة المعتمد عليها وزوايا النظر والمعالجة والخلفيات الثاوية، هنا نصير أمام “تنافس” شرس لعدد من المنصات والمواقع حول عدم تجاهل هذه القضايا التافهة، والإمعان في جر الناس بكل الإغراءات للاهتمام بها والتيه داخل عبثيتها.
الخطورة هنا ليست في عدم منع هذه المنابر، فمثل هذا الرد لا يكون دائما مجديا، ولكن الخطورة تتجلى في ضعف المواجهة، أو، على الأصح، إضعاف ما يمكن أن يشكل البديل ومنصات مقاومة التفاهة.
عديد مجالس حديث اليوم تتبادل الكلام بداخلها، وتزجي أمسيات سمرها بما تتقيأه عليها مواقع معينة ومعروفة من “أخبار” وحكايات أغلبها مفبرك ويفتقر إلى الصدقية بشأن قضايا هامشية جدا، ولا تتردد في تعرية الحياة الخاصة لأشخاص بكل الأشكال الفضائحية الأكثر وقاحة، أو نقل حتى المشاجرات بين أفراد، مع استخدام لغة طافحة بالشتم والسب والمس بالكرامة الإنسانية والتحقير والاستهزاء، وأحيانا تعريض المستهدفين للكثير من المخاطر والتهديد والتعدي على حقوقهم الشخصية الأساسية، وأيضا الاستهزاء والتشفي.
كل هذا يطرح بداية حقوق هؤلاء الضحايا، والحاجة إلى تمكينهم من الحماية القانونية والتعويض عن الأضرار، وبالفعل، لقد شرعت المصالح الأمنية والقضائية مؤخرا في القيام بخطوات عملية وقانونية على هذا المستوى، ومطلوب أيضا العمل من أجل صياغة منظومة تأطيرية وتقنينية متكاملة مع المهنيين لتوفير الآليات والمرجعيات الضرورية لهذا الواقع المستجد والمتنامي.
ولكن الأكثر أهمية اليوم هو ما يرتبط بمجتمعنا ومستقبل بلادنا، أي هذا الابتعاد المتزايد لشبابنا وعموم شعبنا عن الاهتمام بالقضايا الرئيسية للوطن، وعن مشكلات الشأن العام، وذلك مقابل التهاء فضيع بالتفاهة.
إن التلفزيون والإذاعة لهما اليوم دور الرفع من المستوى…، والصحافة المكتوبة الجدية وذات المصداقية لها بدورها، برغم كل التنظيرات المتطايرة من هنا وهناك، دور إعادة شعبنا ونخبنا إلى القضايا الحقيقية لبلادنا والمشكلات المركزية لشعبنا.
أما المدرسة والجامعة ودور الشباب والمثقفون والنخب، فجميعهم لهم أدوارهم ومسؤولياتهم في إنقاذ المغاربة من الغرق جراء هذا السيل المنهمر من الأخبار التافهة والمعارك الهامشية، وبالتالي الدفع بالاهتمام الوطني العام نحو المزيد من الجدية والقضايا الوطنية الحقيقية.
لنتأمل كلنا هذه الأسئلة، ولنحاول الجواب عليها والتفكير في الامتداد والتداعيات:
من يهتم اليوم بمستجدات وتطورات قضية وحدتنا الترابية وما يتربص بها من تحديات؟ من يهتم بالتحولات الإقليمية والدولية ذات الصلة بالمغرب وما قد تحمله لبلادنا من مخاطر؟ من يهتم بالسياسات العمومية ككل وأثرها على الواقع الاجتماعي؟ من يهتم بضرورة النضال الجماعي للدفاع عن الحقوق والحريات وعن أفق التقدم؟ من يهتم بضرورة مواجهة اقتصاد الريع ومحاربة الفساد والرشوة؟ من يفكر اليوم في الاستعداد للانتخابات المقبلة؟ …
إن ضعف الاهتمام بمثل هذه القضايا الوطنية الأساسية لشعبنا وشبابنا، وتراجع الالتزام ككل، وتنامي اللامبالاة والمساعي الفردانية الانتهازية والوصولية، وانحدار مستويات الوعي العام، وأزمة التعليم في مختلف أسلاكه، هي محددات أزمتنا المركبة والمركزية اليوم، وهي ما يجب أن يلفت انتباه الدولة ومخططي ومحللي السياسات والبرامج، وأن يحرك مبادرات المواجهة صيانة لبلادنا وتمتينا لاستقرارها العام، وتعزيزا لسعينا المجتمعي المشترك من أجل الديمقراطية والوحدة والتنمية والتقدم والانفتاح.
كفى إذن من التفرج على الانحدار المستمر لشعبنا وشبابنا نحو التفاهة والالتهاء بالمواضيع الهامشية والخالية من أي جدية أو مضمون.
كفى من جر السياسة إلى الدرجة الصفر وتنفير الناس منها ومن ممارستها.
كفى من إضعاف صحافتنا الوطنية الممتلكة للمصداقية والجدية والتاريخ ووضوح الرؤى مقابل تفريخ دكاكين إلكترونية أو مكتوبة مبحوحة الصوت وبلا أي قيمة أو قيم.
كفى من هذا الإغراق الباتولوجي المتعمد لبلادنا في سراديب التفاهة والتدني…
شعبنا يستحق شيئا آخر يختلف عن ذلك، يستحق أن نجعله يرتبط بقضايا وطنه، وأن ينخرط في مسلسلات بناء الديمقراطية والتنمية، وأن يتعبأ عن وعي للدفاع عن قيم العقل والحرية والتقدم والمساواة.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top